تتداخل سيرة حياة عالِم النفس النمساوي «سيغموند فرويد» مع تاريخ طب النفس الحديث، فهو أول مَن اكتشف اللاوعي وأتبعه بنظرياته المتعلقة بالأنا ومبدأ اللذة والألم1، وكان لا بد للمسلسل الذي سُمي باسمه «فرويد» ألا يتجاوز نظريات الطب النفسي الحديث وحضورها في حياة فرويد، ففي أولى حلقاته يعرض المسلسل مشهد التنويم المغناطيسي باعتبار اكتشاف مثل هذا لا ينفصل أبدًا عن حياة فرويد، فحضرت أمام فرويد امرأة مُسنّة وهي خادمة منزله التي يستجوبها عن طفولتها مغمضة العينين مع خلفية مظلمة وغياب للمستجوِب عدا صوته، كأن هذا المشهد قد صُوِّر داخل اللاوعي نفسه.
وهكذا تبدو عناوين حلقات هذا المسلسل النمساوي-الألماني المكوَّن من ثمان حلقات: «الهستيريا»، «الصدمة النفسية»، «السير أثناء النوم»، «الطوطم والحرام»، «الرغبة»، «الانتكاس»، «تطهير الفكر»، «الكبت»، وهي عناوين كل واحد منها مفتاحٌ قاموسيٌ لمجال فرعي من مجالات علم النفس، لذا كان السؤال: هل المسلسل سيرة ذاتية لفرويد أم لعلم النفس الحديث؟ وبالتأكيد كان محتمًا على المسلسل أن يولي اهتمامًا لعلم النفس وأهميته في تشكيل حياة فرويد الشخصية، فلم يكن تناول المسلسل لهذه النظريات سوى ضرورة ومن دون تعمّد، كون حياة فرويد نفسها قد تشكلت بهذه الأحداث والأفكار. وهكذا عندما يلقي فرويد محاضرته عن اللاوعي، يستاء الجمهور المستمع من الأكاديميين ويخرج أحدهم وهو يقول: «لن أستمع إلى هذا الهراء»، وهذا «الهراء» سيصير أحد الأفكار المؤسِّسة لطب النفس الحديث الذي ما زال قائمًا بكل مناهجه حتى الآن.
وعلى طريقة عالِم الكيمياء الفرنسي لويس باستور يُجري فرويد التجارب على خادمة منزله، وهي تجارب نفسية لا تقل خطورتها عن التجارب الجسدية التي أجراها باستور، إذ تُثبَّت الذكريات الزائفة في لاوعيها نتيجة لتكرارها لها حين تتدرب، ويُعَدّ هذا مُحزنًا بالنسبة إلى السيدة، فالذكريات الكاذبة مؤلمة، حيث تتخيل أنها تفقد ابنتها في حادث في حين أنها ليس لديها أية ابنة في الواقع، ولكن فرويد على العكس منها يعده اكتشافًا مهمًا، وهو ما أراد المسلسل تسليط الضوء عليه من بين كل تجارب فرويد الشخصية، فبالنسبة إلى سيرة شخص يولي علم النفس هذه الأهمية، لا بد أن يكون المسلسل ثيمة كاملة لتأريخ علم النفس الحديث، إما عن طريق شخصيات المسلسل المضطربة، أو ألوانه القاتمة، أو ما يتعاطاه فرويد من كوكايين والضبّاط من سجائر بكثافة، قلتُ «ثيمة» لأن كل شخصية من شخصيات المسلسل، ومنذ الحلقة الأولى، لا تخرج عن دائرة أهمية السيكولوجيا في حياة الإنسان وكونها محركًا معتبرًا لسلوكياته، بالأخص العدائية منها.
بالرغم من قول الطبيب النفسي المشرف على فرويد بأن «الهستيريا والكذب وجهان لعملة واحدة»، لم يكن فرويد متأكدًا من ذلك، بل كان يمشي وراء ما يؤمن به ويصدقه ويود لو يقوم بالتجارب دون عوائق أو موانع، وبدت هذه الأحداث توثيقًا للملامح الأولى لإحدى ثورات الطب النفسي التي أحدثت تغييرًا مهمًا في تاريخ البشرية.
لم يكن فرويد هو الذي أوجد تقنية التنويم المغناطيسي، إنما هو الذي استفاد منها كثيرًا في بداياته لتطبيق المنهج التطهيري، حيث يضع المريض في حالة من التنويم المغناطيسي ويسأله عن أعراض المرض لما يتيح للمريض أن يعبّر عنها بانفعالات تساعد في تفريغ مشاعره كما يشير دانييل لاجاش في كتابه «المجمل في التحليل النفسي»2 وكذلك يؤكد المسلسل هذه الفرضية في أولى حلقاته، فالانفعالات هي ما ستظهر على المرأة التي تبحث في لاوعيها عن مختطف الطفلة كلارا، إذْ إنها ستصرخ في حين يرافقها فرويد عبر صوته إلى درجة لا تَحتَمل معها قوة الصدمة، ولهذا كان عنوان الحلقة التي تدور فيها هذه الأحداث «الصدمة النفسية».
تبدو المؤثرات الصوتية المرافِقة لمَشَاهد التنويم المغناطيسي أصواتًا عميقة أو صدى لصوت يذهب بعيدًا، كأنها بمثابة تغلغل عميق داخل اللاوعي، فالمَشاهد -حتى لو حضرت نتيجة عملية التذكر- لا تأتي على هيئة «فلاش باك» وإنما بوصفها تقنية جديدة أقرب للمحاولة الصعبة للتذكر، فهي ليست حالة تَذكّر في الوعي تعود بكامل تفاصيلها دون أي تشويش، بل مَشاهد فريدة إما بالنسبة إلى المؤثرات الصوتية المرافقة أو بطبيعة المشهد المظلمة التي تستمد قتامتها من عنصرين، صعوبة التذكر وبشاعة الصدمة، لتلتحم السينما مستخدمةً أدواتها مع ظروف عملية اللاوعي السُريالية ولتصير أشبه بمعالَجة إكلينيكية للذكرى استجابة لتفاصيل الموضوع في المشهد وبيكسلات الرعب فيه، فالكاميرا ليست موجهة إلى الخارج بل إلى داخل النفس البشرية بكل عدم وضوحها وظلامها.
بهذا تصبح المَشَاهد حالة من حالات اقتراب السينما لما يحمله الإنسان من عوالم ولحظات مؤلمة ومرعبة، لذا بدا من الطبيعي ألا تعكس العين رؤيتها للخارج بل تظل محدقة إلى الداخل حتى وهي تنظر إلى المحيط الخارجي برؤية انطباعية متكاملة ليغدو المحيط الخارجي التجريدي لا يتواجد إلا مشروطًا بقواعد اللاوعي.
يتكون المسلسل من مجموعة جرائم تحدث في وجود سيغموند فرويد ليصير من الأنسب البحث عن مسبباتها وليس عن مرتكبيها، فهناك جريمتا قتل ومحاولة لجريمة أخرى غريبة في زمن قريب للجريمة الأولى، مما يوحي بأن القاتل واحد، وهكذا فتحت سيرة حياة فرويد نوافذ عديدة على تصورات علم النفس حول بعض السلوكيات النفسية الخطيرة، فكل ما يتحكم في شخصيات المسلسل هو الدوافع النفسية، من جهة أن اللاوعي هو المحرك لأغلب الانفعالات البشرية، ومن جهة أخرى فإن اللاوعي لاعب رئيس في الحياة الشخصية لفرويد، لذا ظهرت سطوة اللاوعي حتى في الأفعال الجسدية المتمثلة في مرضى الصرع والتواء يد الضابط الذي يحقق في جريمة القتل.
حسب ما أراد المخرج، لا تَسْلَم المدينة من وصف فرويد للاواعي بالبيت المظلم، فتبدو المدينة في الليل مع السحب الكثيفة السوداء والبيوت الكئيبة المزدحمة متاهة منزلية قاتمة، فما من شيء غير منطقي إذا كانت المدينة تصورًا للاواعي فرويد المظلم، أما التصور المفاهيمي للّاواعي فقد ورد في إحدى أطروحات فرويد حيث يقول: «دعونا الآن نطلق كلمة "واع" على التصور الحاضر في وعينا والذي ندركه جيدًا، ولنجعل هذا هو المعنى الوحيد مصطلح "واعٍ". أما بالنسبة للتصورات المستترة، إذا كان لدينا أي سبب لافتراض وجودها في العقل -كما كان الأمر في حالة الذاكرة- فلنشر إليها بمصطلح "لا واع"» 3.
تبدو قِصّة الضابط الذي تحركه ذكريات الحرب للانتقام من زميله الآخر الذي يُشتبه أن يكون قد قتل «بائعة الهوى» بطريقة وحشية قصّةً لا علاقة لها مباشرةً بحياة فرويد، حتى وإن حدثت بعض التقاطعات، إنما لو دققنا النظر في الأمر، فإن ما كان يشغل فرويد في تلك الفترة، فترة شبابه، هو تأثير الصدمات النفسية على سلوك الإنسان، إذ بدت أحداث الضابط وذكرياته المضطربة التي تودي به إلى الرغبة بالانتقام عبر مبارزة «استعادة شرف» إنصافًا دراميًا لما كان يعتقد به فرويد من تأثير الذكريات المكبوتة على حياة الإنسان، وهذا بلا شك له دوره المهم في حياة فرويد نفسها.
إن فرويد لم يحظَ بحياة جيدة، إما بالنسبة إلى عائلته التي يمقت التواجد بينها، أو شقته التي لم يستطع دفع إيجارها، أو إخفاقاته المتتالية في برهنة نظرياته لما يدعوه لتناول الكوكايين على الدوام، لكن ليس الكوكايين هو الحل الوحيد الذي يكافح من خلاله فرويد لاستعادة بريق حياته بل إثبات نظريته عمليًا، إذ تبدو له هذه الآمال مواساته الوحيدة والشرعية التي تتيح له التأقلم مع حياته السوداوية، فقد عانى حتى على صعيد العنصرية المنتشرة آنذاك في فيينا ضد اليهود، ففي الكتاب الذي راجعه أحمد عكاشة «فرويد، حياته وتحليله النفسي» يقول فرويد إنه كان يمشي مع والده يومًا ما في أحد شوارع فيينا فاصطدم والده بأحد أبنائها الأرستقراطيين، فما كان من الأخير إلا أن أمسك بقبعة والده الجديدة وألقى بها على وحل الطريق وهو يصرخ فيه: «يهودي.. يهودي. انزل من فوق الرصيف لا تمشي فوق الرصيف يا يهودي».4
وهكذا كان من المنطقي أن يُنْظر إلى فرويد سينمائيًا من خلال علم النفس الحديث وبداية ظهور نظرياته المؤثِّرة، فالمسلسل لم يجد نافذة أو ثيمة للولوج إلى عالَم فرويد سوى تحليلاته النفسية والتي تتعلق بطريقة أو بأخرى بحياته، حتى في أصغر تفاصيلها، فهل كان المسلسل توثيقًا فنيًا لحياة فرويد الشخصية أم كان توثيقًا لنشوء الطب النفسي الحديث ونظرياته؟ أم هو سيرة مشتركة لكليهما؟!