«ماريا» لبابلو لارين: هلوساتُ أسطورةٍ مُحتضرة

بهاء إيعالي
و
March 3, 2025

«ما هو حقيقي، وما هو غير حقيقي، هو شأني».

قد تختصرُ هذه الجملة، التي قالتها ماريا كالاس في لحظةِ يأس، جوهر فيلم «ماريا» (Maria - 2024) للمخرج بابلو لارين. يسلِّط الفيلم الضوءَ على مغنِّيةٍ كانت محطَّ أنظار الجميع، سواء في مسيرتها الفنية أو حياتها الشخصية، فماريا كالاس، المولودة في مانهاتن لأبوين يونانيَّين، لم تكن مجرَّد مغنِّية أوبرا، بل تحوَّلت إلى أسطورةٍ صوتيَّةٍ ألهمت العديدَ من المبدعين، كما في فيلم «كالاس للأبد» (Callas Forever - 2002) لفرانكو زفيريلِّي، أو كتاب «سبع ميتاتٍ لماريا كالاس» (7 Deaths of Maria Callas) لمارينا أبراموفيتش.

المجد والمأساة: أفولُ ديفا الأوبرا

يركِّز الفيلم على الأسبوع الأخير من حياة ماريا كالاس (أنجلينا جولي) في باريس، حيث تعيش في عزلةٍ شبه مطلقة، لا يؤنِسها سوى خادمها فيروتشيو (بييرفرانشيسكو فافينو)، ومدبرة منزلها برونا (آلبا روفاتشر) وكلبيها، وفي منزلها الباريسي كانت تحلمُ بالعودةِ إلى المسرح بينما تستعيد ذكريات مجدها الماضي. تُصوَّر كالاس كشخصيَةٍ مأزومة، عالقةٍ بين الماضي والحاضر، وتعاني مشاكلَ صحيَّةٍ ونفسيَّةٍ تنعكس في تعاملها مع من حولها. ويظهر اضطرابها النفسي في محاولتها إخفاء العدد الحقيقي للأدوية التي تأخذها، وهذا ما يجعلُ منها راويةً غير موثوقةٍ لسيرة حياتها.

ثمَّة حدثٌ محوريٌّ في الفيلم كان سببًا في تشكُّلِ حالة ماريا كالاس التي نراها عليها: علاقتها برجلِ الأعمال اليوناني الأرجنتيني أرسطو أوناسيس (خلوق بيلغينار)، الذي لطالما كان يهدفُ إلى إثارة الجدل. على الرغم من أنَّ الفيلم لا يخوض في تفاصيل علاقتهما بدقَّة، فإنَّ شوقها إليه، الظاهر في هواجسها ورؤاها، يظلُّ عنصرًا سرديًا أساسيًا، إلى جانبِ مشاهدَ محدودةٍ تجمعهما، أبرزها لحظة بداية علاقتهما الغراميَّة التي استمرت تسع سنواتٍ قبل أن يهجرَها كي يتزوج من جاكلين "جاكي" كينيدي. يبدو في سياق الفيلم أنَّ تخلي أوناسيس عنها هو نقطةُ تحوُّلٍ حاسمةٍ في تدهور حالتها النفسيَّة.

كما ويبرزُ صراع ماريَّا مع فقدانها لصوتها، أي معاناتها مع فقدانها السبب الأبرز في شهرتها ومكانتها الفنيَّة والذي تميَّزت به طيلة مسيرتها. كما يظهرُ هوسها بإصدار الأوامر، بما في ذلك أمرها لخادمِها بتحريك البيانو من غرفةٍ إلى أخرى، وذلك كتعويضٍ لها عن فقدانها السيطرة على حياتها المهنيَّة. فضلًا عن كفاحها الواضح للحفاظ على إرثها الفني عندما أدركت أنَّها، بشكلٍ أو بآخر، أصبحت مجرَّد شخصيَّةٍ هامشيَّةٍ في عالم الفن والأوبرا.

إنَّ اعتماد ماريا المتزايد على العقاقير المهدِّئة جعلها أكثر انطوائيَّةً وهشاشة، مما جعلها عرضةً للعديد من الهلوسات، أبرزها مقابلتها الصحفيَّة المتخيَّلة مع ماندراكس (كودي سميت ماكفي) الذي يحمل اسم دوائها. هذه الهلوسات تعكس اضطرابها العقلي، فتعيشُ بين الواقع والخيال. كما يظهر عنادها في رفضها المستمر لنصائح طبيبها والمحيطين بها، وإصرارها على استعادة مسيرتها الفنيَّة رغم تدهور صحَّتها، حتى لو كان ذلك انتحارًا بطيئًا.

طيف الصوت المفقود

من الواضح أنَّ أنجلينا جولي لم تقدِّم الأداء المنتظر منها في تجسيد شخصيَّة ماريَّا كالاس. فعلى الرغم من الجهد المبذول من جانبها لتقمُّص شخصيَّة مغنِّية السوبرانو اليونانيَّة، إلا أنَّ المُشاهد لن يشعر بأنَّ التي أمامه هي ماريَّا كالاس، بل هي أنجلينا جولي في ثوبها. ومع ذلك، لا بدَّ من الإشادة بما تميَّزت به جولي في الفيلم، ألا وهو صوتها، خاصَّةً أثناء حديثها، حيث أظهرت قدرةً على محاكاة النوطة العميقة والإيقاعات الصوتيَّة المونوتونيَّة التي اشتُهرت بها كالاس ولا تزال محفوظةً في الأرشيف الخاص بلقاءاتها الصحافيَّة (بعض مقاطع لقاءاتها هذه موجودة على هذا الرابط).

أمَّا بالنسبة للغناء الأوبرالي، فمن الجليِّ أنَّ أداء جولي الغنائي لم يكن ارتجاليًّا على الإطلاق، بل إنَّها تلقَّت تدريبًا خاصًّا على تأدية الأسلوب الغنائي الفريد لكالاس. ربَّما يخال للناظر، للوهلة الأولى، أنَّ أنجلينا تكتفي بتحريكِ شفتيها بالتزامن مع صوت كالاس في أغنيتها الأصليَّة، غير أنَّ المتأمِّل في حركات وجهها يرى فعليًّا أنَّها كانت تغنِّي ملء فمها، وهذا ما يتطلَّب مجهودًا غير تقليديٍّ على الإطلاق.

تظهر في أداء جولي بعض اللمحات الدراميَّة المؤثِّرة التي تضيف بعدًا سرديًّا يخدم التصوُّر الروائي للفيلم، ألا وهي تفاعلات ماريَّا مع المحيطين بها رغم قلَّتهم: نراها تضيِّع الحوار مع خادمها، تفرحُ بإعجاب مدبِّرة منزلها بصوتها، تثرثرُ مع الصحافي ماندراكس، إضافةً إلى أحاديثها مع جيفري تيت (ستيفن آشفيلد) الذي تتدرَّب معه لاستعادة صوتها... كلُّها مشاهدُ تهدفُ إلى التأثيرِ على ذهنيَّة المُشاهِد وتذكيره بمعاناة كالاس لدفعِه إلى التفاعُل مع مُجريات الفيلم.

إخراجٌ انطباعيٌّ وسيناريو متعثِّر

صحيحٌ أن الفيلم أقرب لقصَّة متخيَّلة عن الأسبوع الأخير من حياة ماريا كالاس، إلَّا أنَّ بابلو لارين انتهجَ أسلوبًا انطباعيًّا في الإخراج بحيث كان التركيز واضحًا ليس على تفاصيل المحتوى الفيلمي على مستوى الحدث، بل على تفاصيل المحتوى الصوري على مستوى المكان، تحديدًا عالم ماريا الداخلي، وعلى مستوى الشخصيَّة بتصويرِ ملامح وجه أنجلينا جولي وإيماءات جسدها ولو بدرجةٍ أقل. أمَّا على مستوى الزمان، فالاعتمادُ قائمٌ على استرجاعات زمنيَّة تظهر حياة كالاس في أوج مجدها، مما يعزِّز التباين بين ماضي المغنِّية وحاضرها. كما دُمِجَت مشاهدُ حقيقيَّةٌ مع مشاهدُ هلوسيَّة تجولُ في مخيِّلة كالاس، مما يخلق تداخلًا بين الواقع والخيال في نظر المشاهد.

لعلَّ أبرز هذه المشاهد هو مشهدُ الأوركسترا التي تظهرُ فجأةً أثناء غناء كالاس أغنيتها الأخيرة Visse d’Arte، ومشهد الجوقة التي تغنِّي عند وصول كالاس وماندراكس (المُتَخيَّل) إلى الساحة. لكن أكثرها تميزًا إخراجيًّا هو المشهد بين الدقيقتين 56 و58، حيث تُعزف مقطوعة Coro a Bocca Chiusa من أوبرا Madama Butterfly لبوتشيني. في هذا المشهد دمجَ المخرجُ الأجواء الماطرة بالموسيقى الأوبراليَّة الدراميَّة، مما خلق شاعريَّةً تبدو حقيقيَّةً لولا سياقُ النصِّ القائم على هلوسات ماريا.

قد تكون أكبر مشكلات الفيلم، على الرغم من الجهدِ الواضحِ في الإنتاج، هي البطء الإيقاعي الثقيل للحركة الفيلميَّة والذي يصلُ حدَّ الجمود. صحيحٌ أنَّ الإيقاع البطيء في أفلام السيكودراما قد يبدو أمرًا مألوفًا، بل ويأتي عمومًا في خدمة السيناريو، إلَّا أنَّ هذا البطء في فيلم «ماريا» يصلُ حدَّ الإرهاق، رغمَ وجودِ بعض المشاهد البصريَّة القويَّة. بالتالي قد يجدُ مشاهدي الفيلم، حتَّى محبِّي الأوبِّرا منهم والمهتمِّين بمعرفة المزيد عن كالاس، صعوبةً بالغةً في التفاعلِ مع إيقاعه.

كما أنَّ السرد الفيلمي جاء مفكَّكًا وغير مترابط، وهو ما يُؤخذ على كاتب السيناريو ستيفن نايت، إذ لا توجد خيوطٌ واضحةٌ تربط لحظات حياة كالاس، بل بدا التسلسل وكأنَّه مَشاهدُ متفرِّقةٌ لا يجمعها سوى الشخصيَّة ذاتها. ربَّما ركَّز نايت على مشاهد ذات تأثيرٍ عاطفي، لكنَّ ضعف تقديمها أدى إلى سقطاتٍ عديدة، أبرزها اختزال مسيرة كالاس الفنية في مشهدين: الأول عن بدايتها حين أجبرتها والدتها "ليتسا" على الغناء لجنود ألمان (وهو ما يُعد مغالطة تاريخية، إذ إن إجبارها على الغناء كان في سن مبكرة قبل العودة إلى اليونان، ولم تذكر المصادر أن والدتها باعتها للجنود مقابل المال، بل غنّت في المسارح لقاء أجر زهيد)؛ والثاني عن لقائها بأوناسيس في حفلة أقيمَت على شرفها، حيث يُقدَّم وكأنَّه نهايةُ مسيرتها بسبب منعه لها من الغناء (في حين أن مسيرتها انتهت فعليًّا عقب خلاف بينها وبين رعاتها خلال أداء أوبرا Norma عام 1958، أي قبل علاقتها بأوناسيس بعام). قد يُبرَّرُ هذا التغيير برغبة صنَّاع الفيلم في إضافة الإثارة، وهو أمرٌ شائعٌ في الأعمال الدرامية، لكنَّه افتقرَ إلى المخيِّلة الخصبة التي كان يمكن أن تجعله نقطة تحوُّلٍ حقيقيَّةٍ في السرد.

العزلة لغة التصوير وألوانه

لا يمكن إغفال سبب ترشُّح الفيلم لجائزة أوسكار لأفضل تصويرٍ سينمائي، وهو استحقاقٌ يعودُ إلى براعةِ مدير التصوير إدوارد لاكمان، الذي تميَّز بأعماله وترشَّح سابقًا لعدَّة جوائز، منها هذه الجائزة للمرة الرابعة والثانية على التوالي.

كان التصويرُ مائلًا إلى التأمُّليَّة الزائدة، مع التركيز على التفاصيل الدقيقة للأماكن والأحداث اليوميَّة التي تعكس الظروف الداخليَّة لشخصيَّة كالاس وتوتُّراتها النفسيَّة. ولوحِظ تغيير مواقع التصوير باستمرار، رغبةً في خلق تنوُّعٍ في الجوِّ العام للفيلم. كما برز اهتمامٌ خاصٌّ بتصوير الأوبِّرا، ربما للإشارة إلى تشابهها مع السينما في قدرتها على خلق صورٍ ذهنيَّةٍ لدى الجمهور، حيثُ تمتزج الموسيقى بالدراما لتوليد مشهدٍ مفعمٍ بالعاطفة.

تتجلَّى براعة لاكمان في استخدام العدسات واسعة الزاوية (Wide-angle lens) لتصوير المشاهد المختلفة في الفيلم. والغرضُ من استخدام هذا النوع من العدسات هو تصديرُ الشعور بالقرب من الشخصيات، فالعدسات ذات الزاوية الواسعة قادرةٌ على التقاط المحيطٍ الواسع بأكمله، مما يجعلها مثالية لسردِ القصصِ المعقَّدة التي تدورُ حول الشخصيَّة. هذه التقنيَّة التصويريَّة، والمرتبطة بفكرة العزلة والشعور بانعدام الاتِّصال مع العالم الخارجي، سمحت للمشاهد بالولوج إلى عالم ماريا الداخلي ورؤية عزلتها بتفاصيلها.

اجتهد لاكمان في استخدام الألوان العاكسة للاختلافاتِ النفسية بين عالم ماريا الداخلي والعالم الخارجي. تمثِّلُ الألوان الدافئة، والتي هيمنت على العالم الداخلي، الراحة والقصَّة الحميمة التي تعيشها المغنِّية بعيدًا عن الأضواء، بينما استُخدِمت الألوان الباردة لتصوير العالم الخارجي المنفصل عن حياتها. كما أدَّت الألوان دورًا في التعبير عن العواطف مثل الحزن والندم، وكان من الملاحظ تأثير الإضاءة الطبيعيَّة الآتية من النوافذ، والتي تعكس التباينَ بين العزلة والحياة الخارجية.

لا بدَّ من الإشارة إلى حركة إبداعيَّة استعان بها لاكمان في التصوير، وهي تصوير بعض اللقطات بالفيلم التقليدي. يعود ذلك إلى أنَّ الفيلم التقليدي يوفر تأثيرًا مرنًا وطبيعيًّا في تصوير الوجوه والألوان والتفاصيل الصغيرة التي يصعب التقاطها بالتصوير الرقمي. كما أنَّ الفيلم التقليدي يساعد على خلق إحساسٍ زمنيٍّ يتناسبُ مع طبيعة الموضوع، وهو ما كان ناجحًا في «ماريا» لأنَّ معظم تسجيلات كالاس التصويريَّة قد أُنتِجَت في تلك الحقبة الزمنيَّة.

رؤية جديدة أم تكرار عاطفي؟

الفيلم ليس سيرةً ذاتيَّةً خالصةً ولا روايةً بمفهومها التقليدي، ممَّا يسبب له مشكلةً في التوازن بين هذين الفنَّين. فهو لا يوثِّق مرحلةً محددة من حياة ماريا كالاس، ولا يجنحُ في الخيال كما تتطلَّب الرواية. وهذا يجعل المشاهد في حالةٍ من الحيرة عند محاولةِ تصنيف الفيلم. ولكن كان من الواضح أن النص الفيلمي لا يسعى لتقديم صورة مثالية لماريا، بل يتناولها من زاوية إنسانيَّة تهدف إلى إثارة التعاطف مع شخصيتها المأساوية. هذا يظهر من خلال الصراع بين وجهين لماريا كالاس: "ماريا الإنسانة" التي تكافح المرض وتعيش حياتها اليومية برفقة فيروتشيو وبرونا، و"لا كالاس" الأسطورة التي تجد نفسها منسية حتى من قبل نفسها، وتبحث عن استعادة قدرتها على الغناء.

تذكِّرنا شخصية ماريا كالاس في هذا الفيلم بعدد من المبدعين الذين "يستهلكون أنفسهم حتى الاحتراق" من أجل الفن. أبرزهم إديت بياف، التي لم تتوقف عن الغناء رغم مرضها الشديد بسرطان الكبد، وكيرت كوبين، الذي غرق في تعاطي المخدرات محاولًا التخفيف من آلامه النفسية قبل أن ينتحر، وكذلك جاك بريل الذي أصدر ألبومه الأخير الرائع Les Marquises رغم معاناته من سرطان الرئة. ومع ذلك، وقع الفيلم في فخِّ عدم تقديم رؤية جديدة عن ماريا كالاس، حيث اكتفى بتكرار نفس المشاعر اليائسة دون أن يتعمَّق في أسبابها التي ترتبط بحياتها الحقيقيَّة. كما كان هناك خطأ في التركيز المفرط على الحالة المزاجيَّة للشخصية، بدلاً من تطويرها بشكل أعمق. فقد تمَّ تصوير ماريا كالاس كشخصيَّةٍ متسلِّطةٍ وحزينةٍ دون استكشاف حقيقي لدوافعها الداخلية.

«ماريا» فيلمٌ عن هواجسِ فنَّانةٍ عظيمةٍ في أسبوع احتضارها، قد يفتقرُ إلى البعد التحليلي النفسي العميق الذي رأيناه في ثنائيَّة بابلو لارين عن الديفا، أي فيلمي «جاكي» (Jackie - 2016) و «سبنسر» (Spencer - 2021)، ويفشلُ في تقديمِ سردٍ متماسكٍ يساعدُ على إحياء روح ماريا كالاس، لكنَّه، بشكلٍ أو بآخر، يفتحُ المجال للتأويلات حول التعدُّديَّة الهويَّاتيَّة لامرأةٍ قالت عن نفسها ذات يوم: «لستُ ملاكًا ولا أتظاهرُ بذلك. هذا الدور ليس أحد أدواري. ولكنَّني لستُ شيطانًا أيضًا. أنا امرأةٌ وفنَّانةٌ جادَّة، وأودُّ أن يُحكَم عليَّ على هذا النحو».

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى