ليس الجنون سوى شكل آخر من أشكال الحياة المتعددة والمختلفة، والتي تستحق أن تُقبل وأن يتم التعامل معها بوصفها حياة إنسانية طبيعية ولكن مختلفة. يرفض، من هذا المنطلق، المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أن يتم التعامل مع الجنون من منظور أخلاقي تصحيحي وضبطي، ما يوصله إلى نتيجة أن المصحّة سجن سلطوي على نحو متوارٍ مثلاً، يقصي أشكالاً متعددة وحية وجميلة من الحياة باعتبارها «غير طبيعية»، وذلك ما يوصله إلى نتيجة أن المعالج النفسي هو القسّيس الحديث، وأن «الثيرابي» هو الاعتراف المسيحي حينما تُعاد صياغته بصيغة حديثة معلمنة، ذلك أن العلاج النفسي ينطلق من منطلق «الطبيعي» و«غير الطبيعي». السلطوية هي هي، غير أن شكلها تغيّر. ومن هذا المنطلق، تقريبًا، يمكننا أن نفهم فيلم «امرأة تحت التأثير» للمخرج الأميركي جون كاسيفيتز، وهو الذي يجسّد الأفكار نفسها التي تعالج الأزمات النفسية وتعالج الجنون من منطلقات ضبطية، دون أن يصرّح بذلك. يتفحّص المخرج هذه الحالة الإنسانية الجنونية التي تعيشها ميبل لونغيتي -والتي تؤدي دورها جينا رولاندز ببراعة فائقة- بصريًا، من أجل أن يرى كل ما تكون عليه، ففي حالة ميبل نرى الجنون في أقصاه، أقصى الأذى والألم والحزن والحسرة، كما نرى أقصى الحب واللذة والسعادة والأمل، وذلك في تفاعل محايث ومباشر بين الحرية والمحاولات الخارجية للضبط، سواء كانت اجتماعية، أي عبر الأسرة والزوج خصوصًا، أم كانت محاولة ضبط مؤسسية، وذلك عبر المصحة النفسية تحديدًا. تنطلق المقالة هذه في تفكيك حالة ميبل وديناميكيتها في الثنائية نفسها: الحرية والضبط.
لا يمكن أن نعد تجربة مشاهدة فيلم «امرأة تحت التأثير» (1974) تجربةً ممتعةً بأي حالٍ من الأحوال، ذلك أن جزءًا رئيسًا من عناصر الفيلم هو محاولة لإزعاج المُشاهد نتيجة لحالة جنون فعلية على الشاشة، كما أن جزءًا رئيسًا من عناصره أن يشعر المُشاهد باللذة في أوقات أخرى أيضًا. يبدأ الفيلم بإحباط ميبل من عدم عودة زوجها إلى المنزل، وهو الذي وعدها بليلة خاصة رومانسية لهما وحدهما دون الأطفال الذين أتت جدتهم لأخذهم والاعتناء بهم، وذلك ما أدى إلى لجوء ميبل إلى الشراب والكحول للتخفيف من ألمها وإحباطها من عدم مجيء زوجها «نِك». من هنا تحديدًا، أي من تأثير الكحول -والذي يؤكد عليه اسم الفيلم- تتّضح الصورة بشكلها الحاد جدًا: ليست ميبل اعتيادية. تذهب ميبل إلى الحانة وتعود إلى المنزل مع رجلٍ آخر غير زوجها، وحينما تستيقظ صباحًا تعجز عن التفريق بين زوجها والرجل، إذ إنها تحسب الرجل الغريب زوجها رغم تأكيده باستمرار على أنه ليس نِك الذي تناديه. الغرابة تبدأ، والانزعاج يتسلل إلى المشاهد قطرة فقطرة..
غير أن شكل الجنون لا يصبح في ذروة اكتماله إلا حينما يكون في سياق اجتماعي أعم، على عكس الجنون مع الذات أو في مقابل أحد غريب. يعود زوج ميبل، نِك، إلى المنزل وبرفقته حشد من زملاء العمل الذين كما يبدو يعرفون ميبل جيدًا ويعرفون اختلافها. تحضّر لهم السباغيتي بكل حب وحيوية، وهي تبدو الوجبة التي لا تتقن ميبل غيرها من ردود فعلهم، وتحيّيهم على طاولة الطعام كما لو كانت أمًا تحيّي وتحتضن أصدقاء طفلها. تسألهم واحدًا تلو الآخر عن أسمائهم بحرارة فائقة تعطي كل واحد منهم قيمته وفردانيته بها، قبل أن يفاجئنا كاسيفيتز مجددًا بالجنون فاقعًا وحادًا: تنسى ميبل أعز أصدقاء زوجها، والذي التقت به وبزوجته مرارًا وتكرارًا، ما يدفعه لتذكيرها به وبزوجته بأشد الطرق رفقًا، ما لا ينجح بالطبع في نزع غرابة الموقف عن بقية زملاء نِك الذين لا يعرفونها جيدًا. تستمرّ ميبل بالسؤال عن أساميهم، وتعبّر عن وسامتهم حتى، كما أنها ترغب في تقبيل أحدهم، لتستمر المواقف الغريبة والمزعجة والمحرجة تتوالى على طاولة الطعام، ما ينتهي بغضب نِك، والذي يصرخ في وجهها لتهدأ وتجلس في مكانها. يتجسّد الجنون هنا، أو اللااعتيادية، في أول أشكالهما. تحاول ميبل أن تكون ودود وحارة ومحبّة.. تؤكد لزوجها بعد خروج الرفاق بأنها تحب أصدقاءه للغاية، وأنها تريد أن تشعرهم بالترحيب إلى أقصى حد، وأنها لم تعنِ أيّ ضرر وأي تجاوز. يؤكد زوجها الذي يشعر بدفئها وحرارتها وصدقها، والذي يعرف جنونها كما يمكننا أن نرى كم يحبها من عينيه، أنها لم تفعل ما يمكن أن يُقال عنه إنه خاطئ، وأنه موقف عابر كان لا بد أن يتوقف دون أن يكون عقابًا بالضرورة. يتبدى الجنون هنا، وخصوصًا بعد الحوار الحقيقي والجاد بين الزوجين، بوصفه حالة طبيعية تحتاج إلى أن تمر بدورتها الاعتيادية.. يظل الزوج محبًا لزوجته رغم الموقف ورغم غضبه، كما أنها تبرر مواقفها على نحو لافت وساحر، رغم وضوح جنونها في عينيها وحركات يديها غير الاعتيادية.
يبلغ جنون واختلاف ميبل ذروته في الجمال عبر علاقتها بأطفالها. نراها مثلاً وهي تشعر بحماسة شديدة في انتظار عودتهم من المدرسة عند محطة وقوف الحافلة. تنتظر كما لو أنها لم ترهم منذ سنوات، لا شوقًا، وإنما حبًا. تظهر الحافلة، فتتقافز فرحًا. يتفاعل معها الأطفال بحب ومتعة وطفولة بالغة وجالبة للبسمة. من السهل، من خلال علاقة ميبل بأطفالها، أن ترى تفهّمهم للحالة الاستثنائية التي تعيشها. يبدو الأطفال هنا كما لو أنهم الأكثر فهمًا لها، وهي التي لا يشبهها أحد في انسجامها معهم. تسألهم فور وصولهم البيت: «حينما ترونني، هل تشعرون أنني أمكم، وأنكم تعرفونني جيدًا، وأنه لا جديد في الأمر، أم أنكم تشعرون بأنني غريبة ومجنونة؟». قبل أن يجيبها ابنها البكر ذو العشر سنوات ربما، والذي يبدو كما لو أنه الأكثر ذكاء عاطفيًا على وجه الكرة الأرضية بجوابه: «لا أبدًا. أنت ذكية وجميلة ورائعة.. ولكن قلقة قليلاً». من هنا تشعر ميبل بالاطمئنان، إذ هؤلاء الأطفال هم كنزها، قبل أن تكمل مرحها بالغ المتعة والسعادة على المشاهد قبل أن يكون على الأطفال أنفسهم.
لكن الحضور لا يتوقف عند حالة واحدة، كما أن للكحول تأثيره المباشر على جنون ميبل. تستمر ميبل في الشرب في ظل النوبة التي تعاني منها منذ أن لمست شرابًا في الليلة الأولى. يتبدى جنونها بشكله المحرج في اللحظة الحاسمة من النوبة التابعة للشرب حينما أوحت لأطفالها وأطفال صديقتها الذين أتوا مع أبيهم أن يلعبوا لعبة الحفلة التنكرية. ذلك ما جعل من الأطفال يغيرون ملابسهم على نحو عشوائي مبعثر، وما جعل ابنتها مثلاً تركض عارية في المنزل بشكلٍ غريب يكاد أن يكون مهملاً، ما يمكن أن نقول عنه ذروة الحرية واللذة كما قد تراها هي في ظل النوبة، الأمر الذي يحبه الأطفال بالتأكيد من منظور، ولكن ذلك يُشعر والد الأطفال الضيوف بغضب عارم، وهو المتوجّس من ميبل في الأساس من منظور آخر أيضًا. يحضر زوج ميبل، نِك، مرة أخرى في ظل الفوضى الحاصلة نتيجة للحفلة التنكرية إياها، ليشعر بالحرج البالغ من وجود رجل في المنزل ليأخذ أطفاله. يتعارك مع الرجل، ويضرب ميبل على وجهها، لتحصل النقلة الأهم في الفيلم.
يتطوّر الجنون هنا حتى يصل إلى مرحلة يشعر فيها نك بضرورة تدخّل الأطباء تبعًا للموقف المحرج إياه، ما يُبرز ردود الفعل باتضاح قاسٍ: يرغب نك في التدخل الطبي بإيعاز واضح من أمه، ما يجعله في حالة من الهلع والتناقض والألم، وهو الذي يريد أن يقلل من الأذى بقدر الإمكان، في الوقت ذاته الذي يشعر فيه بضغط مُلحّ من قِبَل أمه التي -وبكل قسوة- تدفع باتجاه الضبط القاسي. تشعر، من خلال الفيلم، أن ميبل رهن قسوة أم نِك الخالية من الحب، أو رهن حب نِك الواهن غير القادر على أن يتعايش بالكامل مع جنون ميبل، وهو الذي يبدو على حافة الجنون بدوره. يحضر الجنون، وتحضر معه الشخصية المجنونة ذاتها بحيويتها هنا، بكاملهما، بالأذى والألم، كما باللذة والسعادة والحرية، ما يندر أن نراه في شخصية اعتيادية بالطبع. غير أن ذلك تمامًا ما يحيلنا إلى السؤال الأهم: ما الذي أذنبت فيه ميبل كي تصبح ردة الفعل بهذه القسوة؟
يمكن تبرير السرد السابق كله من خلال هذا السؤال نفسه. هل كانت تستحق الحالة غير الاعتيادية التي كانت عليها ميبل أن تنتهي بالمصحة لمدة ستة أشهر؟ هل كانت تستحق ميبل أن يضربها نك على وجهها؟ إلى أي حد ساعد هذا التدخّل الضبطي العنيف في تخفيف الحالة الاستثنائية نفسها؟ تبقى الأسئلة مُلحةً، لكن الجواب عنها يكون بعد مشهد ذهاب ميبل إلى المصحة. وفي تهيئة للجواب، تغيب ميبل، فيبقى الجانب التعنيفي من نِك وحده. لا تغيب اللذة والسعادة والحيوية فقط عن المنزل المأزوم بغياب الأم في مصحة للمجانين، ولكن تحضر القسوة وقلة الحيلة التي يشعر بها المُشاهد فجةً في غياب ميبل. ولكن يكون الجواب بشكله الفاقع في الليلة التي تعود فيها ميبل من المصحة. تقيم الأسرة احتفالاً عفويًا، إذ تعرف معنى غياب الحياة مع غياب جنون ميبل وما يأتي به من لذة وسعادة، قبل أن تنتهي الليلة بمأساوية بالغة.
حين تعود ميبل، تكون مأزومة وهادئة. تؤكد أن روتين المصحة قائم على حبوب التهدئة، والتي لا تعالج بقدر ما تقتل الحياة بداخل من يبلعها طبعًا، بالإضافة إلى العلاج بالكهرباء المتسللة إلى الدماغ لتهدئته على نحو أكثر ثباتًا. من هنا تؤكد أنها تحسنت، عبر هذه الوسائل الضبطية العلاجية في المصحة. يؤكد الفيلم، عبر انزعاج الأسرة كلها، ومن ضمنهم نِك طبعًا، أن ميبل لم تعد ميبل، وأن العلاج كما يبدو جعلها شخصًا آخر لا يشبه ميبل التي يعرفونها جميعًا. ذلك ما يجعل نِك يمسك بميبل وحدها، ليؤكد لها بعنف وبصوت عالٍ: «لا يمكنك أن تقومي بأي شيء خاطئ. هذا منزلك، وكوني على طبيعتك». يؤكد ذلك وهو يحاول أن يرى فيها إيماءاتها المجنونة التي اعتاد عليها.. يؤدي أصوات ميبل الغريبة نفسها في محاولة منه لتطبيعها عندها، ولإثبات أن ذلك مقبول في منزلها، وأنه يمكنها أن تكون على طبيعتها بالكامل قبل أن يعود إلى أبويه وأبويها. ذلك ما لا يستمر لنهاية الليلة طبعًا، ففَورما تعود ميبل لحالتها الاعتيادية، وتبدأ بإلقاء النكات التي اعتادت على إلقائها، والتي بدورها تدل على جنونها بوضوح، يقبل جميع من في الطاولة طبيعة ميبل سوى نِك. يغضب تجاه النكتة «المجنونة»، ويصرخ بأعلى صوته رافضًا أي تفاعل معها، ويطالب بمحادثة اعتيادية من دون أي نكت. نرى هنا السلطوية الضبطية بكامل تناقضها وتشكلاتها، يظن المجتمع أنه يقبل الجنون كما هو، وأنه يحاول أن يتعايش معه دون أضراره، ولكنه في واقع الأمر يرفضه لماهيته. لا يقبل نِك جنون ميبل حينما يشعر أنه جنون محرج. قد يقبل به حينما يكون مع ميبل وحدهما، قد يقبل به في أحيان لا يعلم لماذا يقبل به فيها، وقد يرفضه في أحيان أخرى. هكذا يصوّر لنا كاسيفيتز التفاعل الضبطي مع الجنون: متهافت، غير متسق، غير فعال، والأهم، مجنون. من خلال نِك نفسه يمكننا أن نرى أن ميبل هي الأقل جنونًا، وأن الأكثر جنونًا هو محاولة ضبط الجنون من وجهة نظر تعزز «الطبيعي» وترفض «غير الطبيعي».
تتصاعد وتيرة الحدة في تلك الليلة بين نِك وميبل، حتى إن ميبل تحاول أن تجد النجدة في أبيها. «هل يمكنك أن تقف من أجلي يا أبي؟». يقف الأب ظنًا منه أنها تقصد الوقوف الحرفي على الرجلين، في حين تفهم الأم أن ميبل تقصد الوقوف في وجه نِك في محاولاته الضبطية المتناقضة والمرهِقة. يحتد الموقف، يخرج الجميع وتبقى ميبل في وجه نِك وحيدة مع أطفالها، لتتفاقم حالة الجنون عندها مجددًا حينما تبدأ بالرقص على الكنبة اعتراضًا على ضبطية وتدخلات نِك، ليكمل نِك سلطويته وضبطيته ضاربًا إياها، وفي ظل موقف مؤلم لا يمكن أن تخطئه العين: يحاول الأطفال حماية أمهم من أبيهم، في تمثّل واضح لأفكار كاسيفيتز: نِك ومحاولاته الضبطية كلها هي الجنون، وليس اختلاف ميبل. إن أخطأ المجتمع في تقييم الموقف، فلا يمكن للأطفال أن يخطئوا في تقييم الموقف في ظل تلك الحالة الشفافة من الجنون والأزمة العائلية في أقصاها.
بهذا التناقض الاجتماعي الطبيعي في معالجة الجنون في الأسرة، وبهذا الرفض الاجتماعي للتدخّل الدوائي والكهربائي في المصحة، نجد كاسيفيتز يحتفي بميبل. في جوهره، يمكن القول عن الفيلم إنه محاولة لإبراز براءة وعفوية جنون ميبل. هو الجنون الذي لا بد أن يبقى دون تدخلات قسرية، دون محاولات ضبطية، بل أن يُحتوى برفق ولطف بالغ من أجل اكتشاف ما يمكن للأفق الإنساني أن يكون عليه في ذروة تعدديته.. يخلق هنا كاسيفيتز ميبل الاستثنائية بالغة الجمال، ويدافع عنها، كما لو أنه يدافع عن الجنون والمجانين في شتى بقاع الأرض…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش