من السينما التقليدية إلى البث الرقمي: قصة تحول ثقافي

عمار ملص
و
January 6, 2025

هل تنطفئ أضواءُ السينما إلى الأبد؟ أم أنَّ لهذه القاعاتِ العريقةِ فرصةً أخرى لتثبتَ أنَّها أكثرُ من مجرَّد شاشةٍ عملاقة؟ هل سيعيد عصرُ البث الرقمي (Streaming) تشكيلَ علاقتِنا بالفن السابع بطريقةٍ جذريَّة؟

كانت السينما، منذُ بداية ظهورها، تجربةً مجتمعيَّةً بامتياز. في حين كانت المسارح أشبهَ بمساحاتٍ مقدَّسةٍ تزول فيها الحواجزُ بين المُشاهدين. يجتمع فيها الناس للضحكِ وللبكاء، ولكي يعيشوا مع بعضهم بعضًا سحرَ الحكاياتِ المرئيَّة. نقلت بكراتُ الأفلام تلكَ العجائبِ إلى الجماهير حول العالم. وعلى مدى عقود، بقيت صالاتُ السينما، القلبُ النابض للتجربةِ السينمائيَّة، أماكنَ مفعمةً بالحياةِ والثقافة، حيث يصبحُ الجمهورُ جزءًا من الحكاية.

ثمَّ جاء التلفزيون وأخذ السينما إلى البيوت. من بعدها بدأت تتوالى الهزَّات مع كلِّ تطوُّرٍ تكنولوجيٍّ جديدٍ ومع كلِّ تغيُّرٍ في احتياجات السوق. الهزة الأولى كانت مع ظهور أشرطةِ الفيديو وأقراصِ الـDVD، قبلَ أن تأتيَ الإنترنت ويتغيَّر كلُّ شيء، لتقلِبَ منصَّاتُ البثِّ الموازينَ بشكلٍ تام. لم نعد بحاجةٍ إلى التذاكر ولا إلى الطوابير، فكبسةُ زرٍّ كافيةٍ لتكون هناك، على أريكتك. فتحتْ المنصاتُ البابَ أمامَ تنوُّعٍ كبير، حيث مُنِحَت الأفلامُ الوثائقيَّة، والأفلام التجريبيَّة والأفلام الفنيَّة، فرصةً للتألُّق والوصولِ إلى جمهورٍ كان من الصعبِ الوصولُ إليهِ من قبل.

أصبحت مرونةُ منصَّاتِ البث أكثرَ توافقًا مع وتيرةِ العصر الحديث، خصوصًا في المدنِ الكبرى، وجاءت جائحةُ كورونا لتُسرِّعَ من هذا التحوُّل، حيث أُغلِقَت دور السينما بشكلٍ مؤقَّت، ممَّا دفع الملايين إلى الترفيهِ المنزليِّ وأدَّى إلى ضغطٍ كبيرٍ على صناعة السينما.

توسعت Netflix في استثماراتها منذُ توسُّعها العالمي في عام 2016 لتصلَ إلى أكثرِ من 190 دولة، واستثمرت بشكلٍ لافتٍ في الإنتاجات المحليَّة. تمثِّلُ أفلامٌ على غرار "روما" (Roma - 2018) المكسيكي، و"المنصة" (El hoyo - 2019) الإسباني و "الخلاط+" (Al khallat+ - 2023) السعودي، شواهدًا على كيف يمكنُ لهذهِ المنصات أن تدعمَ رواياتٍ محليَّةٍ تصلُ إلى المشاهدين المحليِّين، وفي الوقت ذاته تُبهِر جمهورًا عالميًا.

في رأيي، لم يكن هذا النجاح خالٍ من التحدِّيات، فهناك مفارقةٌ يواجهُها المبدِعون المحلِّيون، إذ إنَّهم يجدُون أنفسَهُم أمامَ ضغوطٍ كبيرةٍ لتكييف قصصِهم كي تلائِمَ أذواق الجمهورِ العالمي ممَّا قد يضعِف الهُويَّات الثقافيَّة المميَّزة لكلِّ مجتمع.

شباك التذاكر تحت الحصار

تتعرَّضُ الجدوى الاقتصاديَّة لدورِ السينما التقليديَّةِ في العالم العربي لضغوطٍ متزايِدة. إذ تفوق تكلفةُ تذكرة السينما الواحدة، في بعض المناطق، الاشتراكَ الشهريَّ في منصاتٍ مثل نتفليكس أو شاهد VIP، والتي تُقدِّمُ مكتباتٍ ضخمةً من المحتوى بأسعارٍ معقولة. يشكِّلُ هذا التحوُّلُ تحدِّيًا خاصًّا لدور السينما في الأسواقِ الأصغر في جميعِ أنحاء المنطقة العربية، حيث تكونُ قاعدةُ الجمهورِ محدودة. نتذكر هنا أنَّ هذه الجدوى تعتمدُ على الحضورِ الجماهيريِّ المنتظمِ لتغطيةِ التكاليف التشغيليَّة العالية.

في الوقت ذاته، يشهدُ سوق الفيديو الرقمي في منطقةِ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نموًا متسارعًا، حيث تشيرُ التوقُّعات إلى وصولِ حجمه إلى 2.7  مليار دولار بحلول عام 2029، وفقًا لتقارير صادرة عن منصة Omdia المتخصِّصة في تحليلِ الأسواق.

تغيَّرت سياساتُ توزيعِ الأفلام بشكلٍ جذريٍّ في السنوات الأخيرة مع تفضيلِ الإصدارات الرقمية، فأصبحت منصَّات البثِ لاعبًا رئيسيًّا في هذه المعادلة. كمثال على ذلك، فيلم "مولان" (Mulan - 2020) الذي أُطْلِق مباشرةً عبر "ديزني+" بسببِ كورونا، ممَّا أظهر قدرةَ المنتجين على تحقيقِ إيراداتٍ دون الاعتماد على شباكِ التذاكر. كما مثَّل فيلم "الإيرلندي" (The Irishman - 2019) تحوُّلًا آخر، حيث عُرِضَ لفترةٍ قصيرةٍ في السينما ثمَّ أصبحَ متاحًا على "نتفليكس"، ممَّا أثار نقاشاتٍ حول مستقبلِ العرض السينمائي.

نحن أمام صراعٍ بين الإخوة الأعداء، أمام تنافسٍ شريفٍ يضعُ دور السينما والإنتاج السينمائي المخصَّصُ لهذه الدور تحت ضغوطاتٍ هائلة، تبدو فيه الغلبة دون جدال، حتى اللحظة، لخدماتِ البثِّ المباشر، ما لم تحدُث تغييراتٌ جذريَّةٌ في تحوير حاجات السوق باتجاهٍ مختلف. وبدلًا من تناول هذا الصراع فإنَّ المقال يعرض حلولًا مختلفة.

يمكنُ أن ترسِّخَ منصَّاتُ البثِّ المباشر نفسها كمساحاتٍ مكمِّلةٍ للأفلامِ الأصغر حجمًا، أو المتخصِّصةِ أو التجريبيَّة. يمكن أن تسمحَ هذه الازدواجيَّة لكلا الشكلين بالازدهار، حيثُ تركِّز دورُ السينما على المحتوى عالي الميزانيَّة ، بينما تلبِّي منصَّاتُ البثِ إنتاجاتٍ أكثرَ حميميَّة ومخصَّصة لنوعٍ معين.

أيضًا يمكنُ على المستوى الإقليمي تعزيزَ التجاربِ الثقافيَّة المحليَّة من خلال شراكاتٍ تدعمُ الإنتاجَ والتوزيع. على سبيل المثال، يمكنُ تنظيمَ عروضٍ خاصَّةٍ للأفلام المحليَّة التي ترعاها المنصات، ممَّا يمنحُ الجمهور تجربةً سينمائيَّةً فريدة مع وصولٍ أوسع عبر الإنترنت. لا تقتصرُ هذه الشراكات على دعمِ الإنتاج فقط، بل تمتدُّ إلى تنظيمِ فعالياتٍ خاصَّة، مثل العروض الأولى أو جلساتِ النقاش، مما يثري التجربةَ السينمائيَّة بشكلٍ لا يمكن الحصول عليه عبر المشاهدةِ المنزليَّة فقط.

من المحتملِ أن تُحدثُ العلاقة بين منصَّات البثِّ السينمائيِّ والسينما التقليديَّة تحولًا في أساليبِ السرد. إذ قد يدفع التأثيرُ المتبادل صناعَ الأفلامِ إلى استكشاف أشكالٍ وهيكليَّاتٍ سرديَّةٍ مبتكرة. على سبيل المثال، توفِّر المسلسلات التي تفضِّلُها منصًّات البثِّ مساحةً لتطويرِ شخصيَّاتٍ معقَّدةٍ وقصصٍ متعددة الطبقات تمتدُّ على فتراتٍ طويلة، بينما تظلُّ الأفلامُ الطويلةُ مميَّزةً بقدرتها على تقديمِ سردٍ مكثَّف ومُحكمٍ في إطار زمنيٍّ محدَّد. هذا التفاعلُ قد يؤدِّي إلى ظهورِ أعمالٍ تجمعُ بين عناصرِ العمقِ السرديِّ للمسلسلات وتكثيفِ الأفلام، ممَّا يعيدُ تعريف تجربةِ المشاهدة.

بالمقابل، فإنَّ تطويرَ أشكالِ الفرجة السينمائيَّة سيكونُ له دورٌ أساسيٌّ للحفاظِ على أهميَّة دور السينما، بحيثُ تبقى هذه التجربة حيَّةً وقريبَةً من الجمهور. قد تكونُ كلمةَ السر في التحديثات التكنولوجيَّة وإدخالها في عالمِ الفرجة السينمائيَّة. في هذا السياق، تبدو تقنياتٌ مثل الواقعِ الافتراضي (VR) والواقعِ المضاف (AR) اللتان تمنحان تجاربَ سينمائيَّة فريدةً خطوةً في الاتجاه الصحيح. علاوة على ذلك، توفِّر تقنيات مثل 4DX و ScreenX تجاربَ حسيَّة جديدة، حيثُ تجعلنا نعيشُ الفيلم بكلِّ تفاصيله من خلال الحركةِ والروائحِ والصور المحيطيَّة. كما تسعى السينما إلى تحسينِ التجربة باستخدام تقنياتٍ مختلفة، مثل الصوتِ ثلاثي الأبعاد والإسقاط بالليزر، لجعلِ الصورة أكثرَ حيويَّة وألوانها أكثر سطوعًا، مما يعزِّز تجربةَ المشاهدة ويجعلُها أكثر تميزًا.

قد تركز دور السينما أيضًا على استضافةِ الفعاليَّات الثقافيَّة، والمهرجانات السينمائيَّة أو الأسواقِ المتخصِّصة، حيثُ تكونُ الجوانبُ الجماعيَّة للسينما جزءًا أساسيًا من التجربةِ السينمائية.

للحكومات دورٌ محوريٌّ في تشكيلِ مستقبلِ دور السينما، فعلى سبيلِ المثال، نرى أن رؤيةَ المملكةِ العربيَّة السعودية قد حفَّزت الاستثمارَ في دورِ السينما والإنتاج السينمائيِّ المحلي. إلى جانب ذلك، يمكنُ للسياساتِ أن تدعمَ صانعي الأفلام المحليين، أو أن تدعمَ دورُ العرضِ المستقلَّة، وهذان دوران تقومُ بهما الحكومةُ في المملكة العربيَّة السعودية بشكلٍ واضح.

سينما تتغير… لكنها لا تنطفئ

مرَّ زمنٌ كانت فيه رائحةُ الفُشار الطازج، والأضواءُ الخافتة وتوقُّع رحلةٍ سينمائيَّةٍ مشتركة، تحدِّدُ كيفيَّة تمضيتنا لأوقاتِ ترفيهنا. لم يكن الذهاب إلى السينما مجرَّد نشاط، بل كان حدثًا استثنائيًّا، هروبًا جماعيًّا إلى عوالم من الدراما أو الرومانسيَّة، فيها يكونُ المرء محاطًا بغرباء تربطهم المشاعر نفسها. هذه التجربة يُعادُ اليوم تعريفها بهدوء. تسلَّلت منصات البث، بمكتباتها اللامتناهية من الأفلام والمسلسلات، إلى حياتنا كصديقٍ قديمٍ يعرف بالضبط ما نريدُ مشاهدتَه قبل أن نشاهده. وقدَّمت منصاتُ البثِّ طريقةً خاصَّةً تفتقرُ إلى الطاقةِ الجماعيَّة التي اعتادت تجربة السينما التقليديَّة أن تمنحها.

لا تبدو الآثارُ الاجتماعيَّةُ لهذا التحوُّلِ بسيطة. ففي الماضي، كانت دورُ السينما توفِّرُ هويَّةً ثقافيَّةً مشتركةً خلقت ذاكرةً جماعيَّةً ساهمت في تشكيلِ روح المجتمعات. تتبنى منصَّات البث نموذجًا جديدًا من "الاستهلاك النرجسي"، كما يمكنُ أن نصفه باستلهامٍ من تحليلات جان-لوي كومولي وجان ناربوني في "السينما/الأيديولوجيا/النقد". يتَّسم هذا النموذجُ بالخضوعِ لما أسموه بـ"الإطارات الأيديولوجية" التي تفرضها خوارزميات المنصَّات وخياراتها المنسَّقة مسبقًا.

لا يزال هناك مجالٌ ليتعايش البثُّ المباشرُ مع السينما. ولا تزال الأفلامُ ذات الإنتاجِ الضخمِ أو أفلام الكرتونِ العائليَّة، والتي تعتمدُ على التجربة البصريَّة الغامرة، قادرةً على جذبِ جمهورٍ متنوع، لتثبتَ أنَّ سحرَ السينما لم ينطفئ بعد. وتبقى اللقطات القريبة (Close-Up) وسحرها واستعمالاتها الاحترافية بالنسبة لكاتبِ هذا المقال دافعًا كافيًا للخروجِ من قوقعةِ منصَّات البث. إذ يقتربُ المُشاهد في هذه اللقطات من تفاصيل دقيقةٍ تُبرزُ عمقَ المشاعرِ وتكشفُ العوالمَ الداخليَّة للشخصيَّات، فيصبحُ الوجهُ شاشةً تُعرضُ عليها أصدق اللحظات وأكثرها تأثيرًا. لا تنقلُ اللقطات القريبة الحدثَ فقط، بل تضعنا في قلبه، تجعلنا نشعرُ بنبض الشخصية ونشاركها صمتها وترددها وحتى ارتعاشاتها الصغيرة. إنَّها لحظاتٌ مكثَّفة، تتفجرُ فيها العاطفة لتخلقَ رابطةً غير مرئيَّةٍ بين المتلقي والشاشة، وهي من أعظمِ أدوات السينما التي تمنحُها سحرها الفريد.

لكن كمحب للسينما ودُورها، وربَّما من باب التحيَّز الذي لا أخفيه، فإنَّ سيناريوهات "موتُ دُور العرض" تبدو - استنادًا إلى تاريخِ هذه الدُور والهزات التي تعرَّضَت إليها - سيناريوهاتٍ مُستبعدةً أو هذا ما أتمنَّاه. أستعيرُ هنا - ومُحوِّراً قليلًا - جملة "سياتل" الزعيم الهندي الأحمر: "هل قلتَ "موت"؟ لا "موتَ هنا"، هناكَ تبديلٌ للعوالمِ فقط". لا يموتُ شيءٌ في السينما، إنَّها فقط تتنقَّلُ إلى طرقٍ وأساليبَ جديدة. فالتجربة الإنسانيَّة، بكلِّ تعقيداتِها وجمالها، لا تموتُ. بل هي دائمًا في تطور، في شكلٍ حديثٍ وفي أفقٍ جديد. قد لا تكونُ السينما اليومَ كما كانت في الماضي، لكنَّها في جوهرها، كما كانت دائمًا، مرآةٌ للروحِ البشريَّة، تتبدَّل أشكالَها ولكن تبقى حيَّةً دائمًا، حتى وإنْ تغيَّرت الوسائل.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى