«مجهولٌ تمامًا»: يهوذا أم رامبو؟!

أ. محمد مصطفى
و
March 5, 2025

كيف يمكن لكاتب أغاني أن يحوز جائزة نوبل للآداب؟! كان هذا السؤال هو بداية تعارفي ببوب ديلان، من بعده انطلقتُ في عمليَّة البحث والاستكشاف عن الأسباب التي كرَّست ديلان فنانًا بهذه القيمة الكبيرة وجعلته يصلُ لهذا الإنجاز غير المسبوق. أول الأمر استرعاني مظهر ديلان المميز: جسدٌ ضئيلٌ ونحيل، ملامحُ طفوليَّةٌ تشوبها بعض الأنوثة، ياقاته المرفوعة التي يدفِنُ وجهه بينها، الهارمونيكا الملتفَّة حول عنقه، عيونه الشاحبة التي تظهر في الصور القليلة التي لا يرتدي فيها نظاراته الشمسية، أظافره غير المقلمة وشعره الأشعث… مظهرٌ خاص يوحي بالاختلاف والتمرُّد، مظهرٌ يليق بفنَّانٍ بزغ نجمه في مطلع ستينيَّات القرن المنصرم.

عند ترجمة ديلان، لا بدَّ من الوقوف أمام هذا الإطار الزمنيِّ لبزوغِ نجمه؛ فعقد الستينيات كان محوريًا على مستوى الحراك الاجتماعي والسياسي والفني في العالم كله وأمريكا على وجه الخصوص. وديلان وليدُ لحظته التاريخيَّة بامتياز، غير أنَّ روحه المتمرِّدة ما لبثَت أن انسلخت من محاولةِ تنميطه وقولبته.

ينطلق «مجهولٌ تمامًا» (A Complete Unknown - 2024) من هذه النقطة بالذات، حيثُ يتناول بداية صعودِ نجم ديلان في مطلع الستينيات - تحديدًا بين عامي 1961 و1965 - كمغنٍّ وكاتبِ للأغاني الشعبيَّة (الفولكلوريَّة) احتجاجيَّة الطبع في غالب الأمر حيثُ تَنقُل همومُ الشارع وتعلَّق على الأوضاع الاجتماعيَّة والسياسيَّة معتمدةً على الغيتار فقط، من ثمَّ تحوُّلِه الصادم إلى الروك واستخدام الآلات الكهربائيَّة.

يبدأ الفيلم بوصول ديلان إلى نيويورك للقاءِ أحد أبطاله: المغني الشعبي وودي غاثري، والذي اُشتهر بأغانيه الاحتجاجيَّة المؤثِّرة. يذهبُ ديلان إلى المستشفى حيثُ يقطنُ غاثري المريض الذي فقد صوته، وهناك يقابل بيت سيغر الذي سيتبناه وسيقدمه إلى جمهور الموسيقى الشعبيَّة. تجذب موهبة ديلان انتباه الجمهور ومدراء الأعمال بسرعةٍ بفضل كلماته العذبة وصوره القوية وقوافيه البسيطة، بالإضافة إلى صوتِه الخشن وسلوكه المتفاخر وروح الدعابة الساخرة لديه. يبدأ ديلان في تسجيل نسخٍ معادة (Cover) من الأغاني الكلاسيكيَّة، قبل انتقاله إلى تسجيلِ الأغاني التي كتبها بنفسه.

تدورُ أحداث الفيلم على خلفية الأحداث الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي جعلت من الستينيَّات عقدًا حاسمًا في تشكيلِ العالم الذي نراه الآن: حرب فيتنام، توتر الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، تأجج الصراع بين الولايات المتحدة وكوبا فيدل كاسترو، واحتدام حركة الأفريقيين الأمريكيين ضد التمييز العنصري. كان ديلان فاعلًا نشطًا في حركة الموسيقى الشعبيَّة في ذلك الوقت، واتسمت أغانيه بالطبيعة الاحتجاجيَّة التي طغت عليها؛ إذ اشتبك ديلان مع هذا الواقع المضطرب، وجاءت ألبوماته الأولى معبِّرةً عن نبض الشارع وتنقل همومه بنصوعٍ.

شكَّلت أغنية «في مهب الريح» (Blowin’ in the Wind) وما حقَّقته من نجاحٍ مدوٍ بدايةَ ترسيخِ ديلان كناطقٍ باسم جيله وصوت الموسيقى الشعبيَّة الأبرز في ذلك الوقت. طُلبت منه الأغنية أينما حلَّ وارتحل، في كلِّ عروضه، في الحفلات التي يُدعى لها وفي المقاهي. استشعر ديلان خطر ذلك عليه، فشرع في مقاومة عمليَّة قولبته كمغنٍ احتجاجيٍّ غاضب، ونزع عنه عباءة الواعظ الذي أراد جمهوره أن يسربله إياها. ونرى ذلك في الفيلم حين يرفضُ تأدية الأغنية رفقة جوان بايز ويتركُ المسرحَ وسط غضبٍ عارمٍ من الجمهور ومديرِ أعماله.

رغم اعترافه بتأثير الموسيقى الشعبيَّة عليه، لم يُعرِّف ديلان نفسه بأنَّه مغنٍ شعبيٍّ مطلقًا، ومنذ اللحظة الأولى كان ضد التنميط والقولبة. ولأن الأوقات تتغيَّر كعنوانِ أغنيته الشهيرة «الأوقات تتغيَّر» (The Times They Are A-Changin')، تنصَّل ديلان سريعًا من تقليديَّة الموسيقى الشعبيَّة حيث المغني وغيتاره، وتحوَّل إلى الروك حيث الطبول والآلات الكهربائية، وهو تحوُّل منطقيٌّ يُبرِز ذكاءَ ديلان في استشعار أن التغييرَ قادم لا محالة. ومن هنا بدأ انسلاخ ديلان وعزوفه رويدًا رويدًا عن الأغاني الاحتجاجيَّة والطبيعة المُتحفية الجامدة للأغاني الشعبيَّة، وهو الأمر الذي لم يرقَ لسيغر وبقيَّة رفاقه من حركة الموسيقى الشعبية، وصولًا إلى ذروة الفيلم في مهرجان نيوبورت للموسيقى للشعبية، حين يحاولُ سيغر والعديدُ من زملائه إقناعَه بالإخلاص للموسيقى الشعبيَّة وقضاياها النبيلة، غير أنَّ ديلان يخلِصُ لرؤيته الفنيَّة ويخرج أمام الناس بغيتاره الكهربائي ويتلقَّى وابلًا من الصافرات والشتائم، لدرجة أن أحدهم نعته بيهوذا الإسخريوطي الذي خان المسيح. إلَّا أنَّ ديلان، بروح الفنان الحق، لم يأبه لا بهجوم زملائه ولا باستهجان جمهوره.

جاء ديلان من أقصى المدينة ساعيًا إلى الحريَّة الحرَّة التي سعى إليها رامبو قبله. إنَّ استدعاء الشاعر الفرنسي آرتور رامبو هنا ليس مقحمًا، فالعديد من رموز الروك في الستينيَّات والسبعينيَّات (باتي سميث، جيم موريسون، آلن غينسبرغ، وكذلك بوب ديلان) أقرُّوا بتأثير رامبو عليهم وافتتانهم بشخصه، وديلان ذكر علاقة رامبو المضطربة مع بول فِرلان في أغنيته «ستجعلني وحيدًا حينما تغادر» (You're Gonna Make Me Lonesome When You Go). الحريَّة الحرَّة هي صيغةٌ مبتكرةٌ استخدمها رامبو في إحدى رسائله إلى أستاذه جورج إيزامبار1. صيغةٌ ابتكرها صبيٌّ في السادسة عشرة من عمره، ولم يعد إلى استخدامها بعد ذلك. حاول أن يعيشها عبر شعره ولم ينجح، فتوقَّف عن الكتابة في سن العشرين. الحريَّة الحرَّة مبدأ شعريٌّ يستحيلُ الوصول إليه، بيد أنَّ ديلان دائمًا ما سعى إلى تلك الحريَّة القصوى، فلم يشأ أن تتمَّ قولبته كمغنٍّ احتجاجيٍّ أقرب إلى الناشط السياسي، وهو ما يبرزه عدم انضمامه إلى أي حزبٍ سياسيٍّ مطلقًا. لا يهتم ديلان بأيِّ شيءٍ سوى فنه، لا يكترث لرأي الجمهور ولا النقاد، لا يعير اهتمامًا حتى إلى نوبل التي لم يقبلها إلا بعد ستة أشهرٍ وبشروطه الخاصة.

كذلك نشاهد في الفيلم الشخصيَّة البغيضة لبوب ديلان (ويؤدِّي شخصيَّته الممثل تيموثي شالاماي)؛ فهو متغطرسٌ متبلِّدُ المشاعر، لا يشغله سوى غيتاره وقلمه، وهذا يأتي على حسابِ علاقاته الإنسانيَّة مع المقربين منه والمهتمِّين بأمره: يوقظ حبيباته من النوم وقتما يشاء بصوت غيتاره؛ ينتقد جون بايز (مونيكا باربارو) بقسوةٍ لاذعةٍ دون مراعاةٍ للعلاقة الإنسانيَّة بينهما؛ يخون حبيبته عندما تسافر، يخرج من حياتها ويعود إليها وقتما يحب ويشاء. ونرى كذلك ثقة ديلان المتناهية في موهبته وقدراته، ثقةٌ نابعةٌ من عملٍ دؤوبٍ ومستمر. نعلم من حواره مع بايز أنَّه علَّم نفسه بنفسِه من خلال أدائه في الكرنفالات، مع تلقِّيه بعض الإرشادات من بعض رعاة البقر.

لم تكن لديَّ مخاوف كبيرة قبل مشاهدة الفيلم، حيث إنَّ الفيلم من إخراج جيمس مانغولد، الذي يُعتَبَرُ مخرجًا بارعًا ويقدِّمُ أعمالًا متقنة، ولهُ تجارب ناجحة في أفلام السيرة الذاتيَّة على غرار «السير على الخط» (Walk the Line - 2005) عن جوني كاش. إضافةً إلى ذلك، فإن شالاماي يضمن دائمًا المستوى الجيِّد في مشروعاته، وكانت المواد الدعائيَّة التي رأيتها للفيلم تشيرُ إلى أنَّه سيكون فيلمًا مميَّزًا.

جاء الفيلم موفقًا في عدَّة اختيارات فنية: أولها تجنُّب الوقوع في فخِّ صناعة فيلمٍ ملحميٍّ يتناولُ حياةَ ديلان بأكملها، وتفضيل التركيز على سنوات الصعود، مع تبنِّي وجهة نظرٍ واضحةٍ بخصوص تحوُّل ديلان الفارِق من الموسيقى الشعبيَّة إلى الروك، ألا وهي التأييد. لولا هذا الاختيار بتحديدِ النطاق الزمنيِّ الذي سيتناوله الفيلم، لأتى الفيلم مفكَّكاً؛ إذ إنَّ ديلان ليس شخصيَّةً طازجةً من الماضي القريب فحسب، بل لا يزال حيًا يُرزق ولديه إرثه الفني وتأثيره الثقافي الذي يتكشَّف يومًا بعد يوم. وُفِّقَ الفيلم كذلك في اختياره لتأدية الممثِّلين الأغاني بأنفسهم، وهو ما أكسب الفيلم نوعًا من الحيويَّة والألق، وساهم في تدفُّق الدراما بسلاسةٍ عبر كلمات الأغاني، وهو ما يستدعي سؤالًا هامًا: هل ثمَّة حقًا من فارقٍ بين الشخصيِّ والفني؟ لعل أبرز مثالٍ على هذه النقطة حين تشاهده حبيبته سيلفي (إيل فانينغ) وهو يغنِّي رفقة جوان بايز أغنية «هذا ليس أنا يا حبيبتي» (It Ain't Me Babe)، وتدرك أنَّ لا مكان لها في حياته.

يبدو اختيار شالاماي بديهيًّا للتشابه الجسدي الكبير مع ديلان. لم يهدر الأخير الفرصةَ ليكرِّس ويفرض نفسه كأكبرِ نجومِ جيله بأدائه المميز في الفيلم، حيثُ يقدِّمُ تجسيدًا متقنًا وعفويًا لديلان، والذي يأتي بعد تحضيرٍ مكثَّفٍ على مدار خمس سنواتٍ وتعلُّمِه للغيتار والهارمونيكا، وتلقِّيه لدروسٍ في التحكُّم بالأحبال الصوتيَّة. لكن مفاجأة الفيلم بالنسبة لي هي مونيكا باربارو التي جسِّدت دور جوان بايز بسلاسة، وعوَّضت عدم التقارب بين صوتها وصوت بايز بحضورٍ ملموسٍ على الشاشة، وتجانس ملحوظ مع شالاماي.

ما يعيب الفيلم في رأيي هو افتقاره إلى قراراتٍ إبداعيَّةٍ سرديَّةٍ أكثر جرأة. عند الحديث عن فيلمٍ سيَريٍّ عن بوب ديلان، يتبادر فورًا إلى الذهن فيلم تود هاينز الرائع «أنا لست هناك» (I'm not there - 2007)، الفيلم الذي تميَّز برؤيةٍ إبداعيَّةٍ فريدة من خلال تقديمه ديلان عبر فسيفساء مكوَّنة من سبع شخصيَّات، بحيثُ تمثِّلُ كلُّ واحدةٍ منها وجهًا من وجوه ديلان المختلفة. كما لا يملك الفيلم معادلًا للعلاقة الرومانسية العذبة التي ميَّزت «السير على الخط» وجعلت منه فيلمًا دافئًا في كثير من لحظاته. ولم يسبر الفيلم أغوار ديلان كما فعل كريستوفر نولان مع «أوبنهايمر» (Oppenheimer - 2023) عبر فكرة المنظور وإظهار ضعف الشخصيَّة ولحظات الشكِّ التي تمرُّ بها. اقتصر «مجهولٌ تمامًا» على سردٍ خطيٍّ ومباشرٍ للأحداث، سردٌ متماسكٌ لكن مصمت، لا يسمحُ للمشاهد بالانخراط والتفاعل، ولا يتيح له الفرصة لتكوين وجهة نظره. أيضًا لم يتعمَّق الفيلم في أيِّ تعقيدٍ درامي، سواءً كان على مستوى العلاقة مع حبيبته أو العلاقة الفنيَّة مع جوان بايز، أو حتى في الصراع الأهم مع رفاق الموسيقى الشعبيَّة الذين قدموه إلى الناس. كما لم يظهَر ديلان في أيِّ لحظة شكٍّ أو ضعفٍ على مدار الفيلم.

«مجهولٌ تمامًا» فيلم سيرةٍ ذاتيَّةٍ متماسكٍ وممتع، يقدِّمُ انطباعًا عن ديلان في فجر مسيرته: فنَّانٌ أنانيٌّ ومغرور، قاسٍ ومتبلِّدُ المشاعر، واثقٌ إلى أبعد مدى في موهبته وقراراته، فاشلٌ في علاقاته على المستوى الإنساني. ولا يزيد الفيلم في أيِّ لحظة عن كونه انطباعًا؛ أي لا يتجاوز أبدًا القشرة الشكلانيَّة لمناقشةِ شخصيَّةٍ معقَّدةٍ ومركَّبةٍ مثل ديلان، ويرجع هذا لافتقار الفيلم لأهمِّ ما ميَّز شخصيَّة ديلان الفنيَّة: الجرأة وروح المغامرة.

الهوامش:

1.(رسالة الرائي) آرتور رامبو: الآثار الشعرية، ترجمة: كاظم جهاد، منشورات الجمل.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى