«ليس للشعراء من سِيَر، شِعرهم هو سيرتهم الذاتية» - أوكتافيو باث.
في صبيحة يومٍ شتويٍّ من عام 1961، حين نزل شابٌ قادمٌ من مينيسوتا على أرضِ مدينةٍ كانت مسرحًا للتغيُّرات والثورات والحراك الذي كان يكشف عن وعيٍ كبيرٍ بدأ يتنامى لدى جيلٍ بأكمله، لم يدرك أنَّه، بخطواته المرتبكة ودفتر مسودَّاتٍ مصفر، وبالورقة المطويَّة التي كانت دليله الوحيد إلى رجلٍ يراه مثلًا أعلى وملهمًا ورسولًا للأغنية الشعبيَّة، أنَّه بذلك يكتبُ التاريخ. وأيُّ تاريخ! تاريخٌ تعدَّدت رواياته واستُحدِثت - في كلِّ مرَّة - لغةٌ مختلفةٌ ليروى بها، وطُرحَت مع كلِّ متأمِّلٍ جديدٍ قصَّة وسرديَّة مختلفة، ما بين أولئك الذين عايشوه وبين من جاؤوا من بعدهم فسحرتهم أضواء قصص السابقين الساطعة، وبين من كانوا في قلب هذا الحراك، شخصيات من شخوصه، وبين من كانوا على التلَّة واقفين متأمِّلين اهتزازات عصرٍ يولد وتاريخٍ يُكتب؛ سيكون ثوريًّا وراديكاليًّا ومغيِّرًا لكلِّ ما سيأتي من بعده.
عصرٌ خلَّاقٌ يشهدُ أكبر تحولاته
كلُّ شيءٍ في هذه الحقبة كان فتيًّا يانعًا، كل ما نراه اليوم من أساليب ونظريَّات كان في طور التكوين والتبلوُرِ ربما لأوَّل مرة. كانت الحركات الطليعيَّة الوليدة، في الفن والأدب، أحد أبرز مظاهرِ هذا العصر، وكانت الحرب الباردة والتهديدات السوفييتية المستمرَّة، والعنصرية وقضايا المرأة، وعبثيَّة حرب الفيتنام، كلها خلفيَّةً متموِّجةً مُحتشدةً بظلالٍ سوداء. أدرك الجيلُ الفتيُّ الذي وجد نفسه أمام أكبر أسئلة الوجود وأشدِّها ضراوة، بعد أن تزعزعت المرجعيَّات الكبرى وكل الصورِ الضخمة اللامعة للمعتقدات والمحرَّمات والنظم الأبوية، أنَّه سيظلُّ على الدوام مُلاحقًا بشبح الضياع والاغتراب.
من هنا جاءت القيمة الفنيَّة الكبيرة لهذا الفيلم، وربما القيمة التاريخية أيضًا، ليس لأنَّه يقدم لنا حقائق تاريخيَّة مهمة، إذ لا يعرضها إلا كشبحٍ حاضرٍ دائمًا، كخلفيَّةٍ للأحداث، وكصورةٍ تقريبيَّة، بل لإنَّه يقدِّم ما هو أهمُّ من ذلك. ولأن التاريخَ زئبقيٌّ وجدلي، وغير ثابتٍ يتغيَّر بتغيُّر راويه، فإنَّ جيمس مانغولد لم يصوِّر التاريخ نفسه، بل إنعكاسَه وأثرَه في جيلٍ من الفنانين الثوريَّين، مثل موجةِ ضوءٍ وظلالٍ تتراقصُ على جدار بيت. هؤلاء الذين كانوا يسعون لخلقِ لغةٍ ما خاصَّة بهم، والعثورِ على النغمة والإيقاع المتفرِّد، ولأن يكونوا هذا التوجُّه والصوت الحرّ المُفتَقَدَ، فجاءت قصائدهم وأغانيهم في صورةِ رسائل بليغةٍ وكلماتٍ تنفذُ إلى أعماق الروح. سعى المخرج في فيلم «مجهولٌ تمامًا» (A Complete Unknown - 2024) - دون مبالغةٍ أو تزييف - أن يريَنا عبر بكرةِ الضوء والظلِّ قبسًا من وميض هذه الحقبة من فترة الستينيات التي يَدينُ العالم الحديث المعاصر لها بكلِّ هذه التغيُّرات الكبيرة.
اللامنتمي الأخير
من أجل بناء علاقةٍ تأمليَّةٍ وطيدة وتفاعلٍ فنيٍّ مع الفيلم يسمحان بقراءةٍ جيِّدةٍ لتفاصيله وجماليَّاته ورسالته، لا بدَّ من العودة إلى البداية. يقول مانغولد، في عديد اللقاءات التي أجريت معه، أنَّ الفيلمَ الذي كتب نصه رفقة جاي كوكس، كان مُقتبسًا من كتابٍ مهمٍّ لإيلايجا والْدْ، هذا العازف الذي تحوَّل إلى باحث في الموسيقى الشعبية، فتناول في كتابه «ديلان يتحول إلى الالكتريك» (Dylan Goes Electric) واقعةً مهمَّةً حدثت خلال مهرجان نيوبورت للموسيقى الشعبية، والصدام الذي حدث حين قرَّر أحدُ الفنَّانين، والذي لم يستغرق سوى أربع سنواتٍ ليصبح رائدًا في مجال الموسيقى الشعبيَّة، أن يتَّبع رؤيته الفنيَّة الخاصَّة ويتصرَّف كما لو اتَّخذ مسارًا مستقلًّا عن الآخرين؛ بناء على ما تمخض عنه بحثه الفني واكتشافاته، فيرفُضَ صورة البطل-الكليشيه وكلَّ شكلٍ من أشكال الزيف واتباع القوالب النمطيَّة، وبدلًا من ذلك كان، في تلك الليلة التي بنى والْدْ حولها كتابه، ومن بعده مانغولد فيلمه، الفنانَ الأكثر جرأةً وصداميَّةً في تاريخ الموسيقى، مثل نبيٍّ ظهر فجأةً، فجاءَ مُبشِّرًا بانتهاء حقبةٍ وبداية أخرى في تاريخ الموسيقى والفن. وإذا كانت هناك طريقةٌ لرسمِ بورتريه صادق لهذا الفنَّان، فلن تكون إلَّا عبر التقاط قدرته على تخطِّي عصره وتجاوز نفسه ذاتها، وقدرته على التحول كما يُعبر عن ذلك في فيلم مارتن سكورسيزي «لا طريق إلى البيت» (No Direction Home - 2005)، لكي يبقى دائمًا في حالة من التجديد والانبعاث المستمرّين.
ويقول عنه إيلايجا والْدْ في كتابه: «كان يُنظر إليه بوصفه العبقري الأكثر تقلُّبًا وغرابة، اللامنتمي الأخير، وبطل الوجودية في عصره. قورن بشخصيات مثل وودي غاثري في «متجه نحو المجد» (Bound for Glory - 1976)، وسال بارادايز في «على الطريق» (One the Road) لجاك كيرواك، ومارلون براندو-جوني سترابلر في «الجامح» (The Wild One - 1953)، وهولدن كولفيلد في «الحارس في حقل الشوفان» (The Catcher in the Rye) لجيروم ديفيد سالنجر، ومُرْسو في «الغريب» (L'Étranger) لألبير كامو… وأكثر المقارنات شيوعًا كانت مع جيمس دين-جيم ستارك في «متمرد بلا سبب» (Rebel Without a Cause - 1955)» (بتصرُّف).
ربما يكون هذا هو السبب وراء كونِ فيلم مانغولد الأكثر إثارةً من بين جميع الأفلام السِيَريَّة التي تناولت بوب ديلان الفنان، فمن خلال تلك الواقعة التي يبلغ الفيلم ذروته عندها، تحوَّل بوب ديلان إلى أسطورةٍ وانتقلت الواقعة نفسها إلى بُعدٍ أساطيري، لدرجة أنَّ كلَّ من عايش تلك الفترة كان يُعدِّل ذكرياته الخاصة لاحقًا كي تتوافق مع نسقِ وبناء الأسطورة.
فيلمٌ سيَري مختلف
رغم أنَّ المخرج جيمس مانغولد لم يكشف عن المصادر التي استلهم منها فيلمه كلِّها، إلا أنَّ كلَّ مُؤلَّفٍ قد كُتب عن ديلان - أو أغلبها على الأقل - يحوي إشارةً وفكرة تتقاطع، بشكلٍ أو بآخر، مع الفيلم على مستوى الجدل الذي دار أو الغموض، أو السحر أو حتى الشكل الأسطوري الغامض الذي قُدِّم به ديلان منذ ذلك العصر. ولم تكن هذه التجربة الأولى للمخرجِ مع الأفلام السِيريَّة، فقد سبقها فيلمه عن مغني الموسيقى الشعبية جون كاش «السير على الخط» (Walk the Line - 2005) وفيلم السيرة الرياضي «فورد ضد فيراري» (Ford v Ferrari - 2019)؛ إلَّا أنَّ جيمس مانغولد لا يكرِّرُ نفسه، فرغم عودته باستمرارٍ لإنتاج أفلامٍ ضمن ذات النوع، غير أنَّ طبيعةَ المعالجة وصورتها كانت تختلفُ في كلِّ مرة: في فيلم «السير على الخط» يقدِّم لنا تتبُّعًا للبطل منذ الطفولة في نسقٍ سرديٍّ كلاسيكيٍّ يستظهرُ تأثير الطفولة على الحياة البالغة، وأثر هذا الاضطراب بين الآباء والأبناء الذي يتحوَّلُ إلى جرحٍ غائرٍ يقود إلى الإدمان والتدمير النفسي. وحيث تستيقظ الآلام بظهورِ الشخصيَّة الأنثويَّة التي تحرِّكُ ما كان راكدًا، ثمَّ سرعان ما تصبحُ المنقذَ وحبلَ النجاة الذي من خلاله يسترجع البطلُ اتزانه.
إلَّا أنَّه يختار، في فيلم «مجهولٌ تمامًا»، شكلًا مختلفًا للمعالجة وخطًا سرديًّا يخدم سياقَ القصة، وأيضًا سياق الأسطورة ذاتها بما تحمله من غموض، وهذا ما يخلقُ هالةً من الجاذبية حول بوب ديلان وحول الحقبة ذاتها التي وقعت فيها أحداث الفيلم. يبدأ سردُ القصَّة من اللحظة التي قرَّر فيها ديلان الفرار من أهله إلى عالم جديد، مغيرًا اسمه من روبرت زيمرمان إلى بوب ديلان، مبتكرًا نفسَه في شخصيَّةٍ سيقدمها إلى العالم على أنَّها دائمًا "في طور الولادة من جديد" بكلِّ ما يكتنفها من غموضٍ وسحر. وبعد مشهد وصول بوب ديلان، ينقلنا المخرج إلى مشهد المحكمة الذي تتسيَّده شخصيَّة ستكون الثانية من حيث الأهميَّة في الفيلم، ألا وهو بيت سيغر، المغني المشهور الذي يُحاكم بسبب أغنيةٍ اعتبرت مسيئة للسلطة، لكنَّ القاضي لا يستطيع فعلَ شيءٍ تجاهه، لأن كلمات الأغنية، بتعدُّد قراءاتها، ليست كافيةً لوحدها كي تثبت التهمة، ولأنَّه كما يقول سيغر للقاضي: «الأغنية الجيِّدة هي دائمًا أغنيةٌ خيرة».
في مرحلةٍ ثانيةٍ يأتي اللقاء المهم تاريخيًّا وسرديًّا، ألا وهو لقاء بوب ديلان، الفتى الشاب الذي قَدِمَ لتوِّه من بلادٍ بعيدة، والمغني الأيقوني وودي غاثري، نبيُّ حقبةٍ على وشكِ أن تنطوي، ولأجل الأخير يغني بوب «أغنية إلى وودي» (Song to Woody) فيثير إعجابَه وإعجابَ سيغر الذي يرى فيه مستقبلًا واعدًا، كما يثير ويحرِّك عواطفنا في مشهدٍ بالغ التأثير. عند سؤاله عن سبب الزيارة، يشيرُ إلى رغبته في الحصول على قبس ما، ولكن على مستوى رمزيٍّ مختلف، يُعتبرُ هذا اللقاء إعلانًا عن انتقال الشعلة ووراثة لهذه النبوَّة والريادة في غناء الفولكلور الشعبي وفي توجه الأغنية الأمريكيَّة نفسها. منذ ذلك اللقاء يُمهَّدُ الطريقُ أمام ديلان شيئًا فشيئًا بمساعدة سيغر الذي سيكون المرشد له في بداياته ومكتشفه وممهِّد الطريق الأول له. يواصلُ السردُ تصاعدَه حيث يحقِّقُ ديلان شهرةً كبيرة، ليصل إلى ذروته في مهرجان نيوبورت عندما يقرر بوب أن يكسر القوالب والقوانين التي فُرِضت عليه.
فنان يبعث في أزمنة الاضطراب
يصوِّرُ المخرج ديلان كفنَّانٍ لا يكفُ عن البحث والتجربة، فنراه يقوم بأبحاثِه وتجربة كلماتٍ جديدةٍ في إقامته وترحاله، كشاعرٍ من طرازٍ رفيع، دون أن يمنعه شيء، فنرى فيه هوس الفنان الذي يتحرَّك بدافع حاجةٍ عميقةٍ للتعبير عن شعور أمَّةٍ بكاملها، كي يكون ضميرَها في أوقات الحرب والاضطرابات المربِكة، وإيمانَها حين يُفقَد كلُّ إيمان، وصوتًا يدينُ بسخريةٍ صُنَّاع الحرب والواقفين خلفها. من قصاصات الجرائد المتناثرةِ وصوتِ تلفاز يُذيع أخبارَ حربٍ وشيكة، يجمعُ هذا الفنان، الذي لا يتوقف عن البحث والاستكشاف، كلماتِ أغانيه، فتأتي حقيقيَّة، متجاوزةً زمانها، تفيض أصالةً وقريبةً من كلِّ من يسمعها. ويأتي السينماتوغراف المتفرِّد ليلعبَ دورًا جوهريًّا في التقاط الأجواء التي كانت حافزًا لهذه الأغاني الثوريَّة التي تتحدَّى الواقع وعبثيته.
تتداخلُ أصواتُ التلفاز وتتمازج وتتصل بين المَشاهد لتشكِّلَ صورةً واحدةً لرعبٍ قادم من وراء البحر، وهجماتٍ نوويَّةٍ مرتقبةٍ قد تبيدُ الساحلَ الشرقيَّ بأكمله. يهرعُ الناسُ فزعين بحثًا عن وسيلةٍ تنقلهم إلى مكانٍ أكثرَ أمانًا، فيرسمُ المخرجُ صورةً خلَّابةً لهذا الاضطراب الذي يدبُّ فجأةً في ليل المدينة مع تصاعدِ صوتِ التلفاز المتقطع وانطلاق دوي الصفارات. تتبعُ الكاميرا المغنِّية جون بايز التي لم تتمكَّن من الوصول إلى أحد، فتنقل لنا خطاها المتسارعة، وفزعها وهي تمشي باحثةً في شوارع نيويورك عن سيارة أجرةٍ دون جدوى، مُقدمةً عبرها صورةً حيَّةً من الذعر، وتأتي الإضاءة الحمراء التي تتداخل وتنتشر لترسم خلفيَّةً بليغةً لارتباكِ مدينةٍ بأكملها. ولكن سرعان ما تهدأ بايز فجأةً عند سماعها لأغنيةٍ قادمةٍ من حانةٍ في طابقٍ سفلي، حيث يظهر ديلان وهو يعزف داخل الحانة كأنَّه رسولٌ جاء بخطابٍ سماويٍّ مضادٍّ للحرب لتهدئة العالم. وعبر أغنية «سادة الحرب» (Masters of War)، الساخرة الغاضبة والمنتصرة لكل فَزِعٍ ساخطٍ على الحرب، كشف مانغولد عن براعةٍ في التوظيف ستؤكَّدُ مع كلِّ أغنيةٍ لاحقة، وأبرَز ذكاءً وفهمًا عميقًا لديناميكيَّة هذه الأغاني التي أُلِّفَت في فترة الستينيَّات وتأثيرها في الناس خلال أزمنة الفزع الكبرى. هذه الأزمنة التي منحت ديلان الفرصةَ ليكون ضمن السادة الكبار الذين قادوا هذا الحراك، فرسموا ملامح العصر، وكانت ألبوماتهم توثيقًا لعاطفةِ الأمة ومخاوفها، ولفزعها وسخطها وسخريتها وضياعها.
يملك مانغولد تاريخًا سينمائيًّا ثريًّا، فقد جرَّب كلَّ الأنواع وتفرَّد فيها، بدءًا من أفلام الأبطال الخارقين، مرورًا بالويسترن، وصولًا إلى الأفلام السيريَّة التي قدَّم أعظم صورها وتجليَّاتها في فيلم «مجهولٌ تمامًا»، وذلك من خلال هذا المزيج الذي يجمع فيه بين الإنسانيِّ والأسطوري، وبين الغنائي والشاعري. فكانت النتيجة: شكلٌ سينمائيٌّ أصيلٌ ومعالجةٌ متفرِّدة، لا تكف عن تحفيز المخيِّلة وإيقاظ الذاكرة.
رغم ذلك فإنَّ تلقِّي الفيلم قد يختلف حين يتعلَّقُ الأمرُ بديلان، وتتنوَّع قراءته انطلاقًا من مستويين للمشاهدة: الأول مرتبط بالمشاهد الذي تتجاوزُ معرفته لديلان مجرَّد المعرفة السطحيَّة إلى الهوس والغوص العميق في سيرته ونصوصه وأغانيه، فيكونُ الفيلم بالنسبة له تذكيرًا واستدعاءً لأحداثٍ وصورٍ لطالما تأمَّلها بشغف، ولكنَّه لا يجدُ فيه هذا الإشباع الذي يتوقَّعه لأن ديلان في نظره أكبر من أن يُحدَّد من خلال إطاراتٍ سينمائيَّةٍ محدودةٍ بزمن الفيلم. في المقابل، يأتي المستوى الآخر للمشاهدة، حيثُ يكون المتلقِّي بصددِ اكتشاف ظاهرةٍ فنيَّةٍ وأسطورةٍ يراها لأوَّل مرَّةٍ بهذا القرب الساحر، فيبدو له الفيلم على قدرٍ من الإشباع ويحمل بين كلِّ مشهدٍ وآخر حماس الاكتشاف ومتعته، والدهشة التي لا تخفت ضمن هذا المزيج الموسيقيِّ المنعش.
البطل الأسطورة: معالجة سينمائيَّة متفرِّدة
لم يأت بوب ليلتحق بتيَّارٍ كان موجودًا، بل جاء منتقدًا ومقوِّضًا لكلِّ شيءٍ يراه في حالة تكرارٍ وجمود. في الفيلم يقول لجون بايز: «أغانيكِ تشبه لوحةً زيتيَّةً معلَّقةً عند طبيب أسنان»، وذلك لرؤيته إيَّاها منتمية إلى صنف الأغاني التي تكتب لتناسب أذواق الناس، بينما يكتب هو ما يدفع الناس إلى مستوى مختلف من التأمُّل والتلقِّي، من الشعور والاكتشاف الروحي والوجداني، يكتب ما يُعبِّر عن وجدانه وروحه التواقة للحرية والخلق بعيدًا عن القواعد المفروضة وبعيدًا عن الزيف.
لفهمِ أهميَّة بوب ديلان، كما أراد لنا المخرج أن نفهمها، ينبغي أن نفهم - إلى جانب السياق الذي ظهر فيه - التأثيرَ الذي أحدثه على الأمريكيِّين، وبالأخص الجيل الفتي من طلبةٍ جامعيِّين ومتظاهرين وحراكيِّين. يجسِّدُ مانغولد في الفيلم هذا التأثير من خلال ما يقوله مدير الأعمال لسيغر على خلفية احتفاء جماهيري ضخم بديلان: «لقد جعل بوب من حلمِكَ حقيقة» مشيرًا إلى أنَّ بوب قد حوَّل الموسيقى الشعبيَّة إلى فنٍّ جماهيريٍّ بامتياز. لقد ارتقى بوب بالموسيقى الشعبيَّة إلى مستوى جديد، حيث كانت كلماته - إلى جانب أدائه الغنائي - الوسيطَ الأبرز الذي صاغ من خلاله شكل هذا الخطاب العاطفي العميق الذي يحرك الجماهير ويمثل عصب هذا التأثير. فقد حوَّل الموسيقى من كونها موضوعيَّة في تناولها للقضايا إلى كونها ذاتيَّة ومتعدِّدة القراءات ووجوديَّة في جوهرها. فكان شاعرَ العصرِ الأكثر بروزًا والأكثر شعبيَّةً وأسطورة أمريكا الخالدة.
يوظف مانغولد كلَّ عناصر الفيلم لتخدمَ سياق الغموض الذي يغذي هالة السحر المحيطة بديلان. فنرى تقشفًا في القصة ذاتها، من خلال براعة كبيرة أبداها في القطع وربط المشاهد لتظهر منسابة وبليغة، مركزا على أهم الأحداث. كما نرى احترافية في رسم إطاراتٍ ساحرة أضفت غموضًا وجاذبيةً على شخصية ديلان. ومن خلال هذا المزيج الرائع بين أداء الممثلين المتميِّز والإخراج الاحترافي، قدَّم مانغولد فيلمًا يثير إعجاب حتى من لا يعرفون شيئًا عن ديلان. إلى جانب ذلك، نرى تركيزًا على الأغاني التي كانت قويَّةً وحادَّةً في معناها وجاءت لترسم وتحقِّق تسلسلًا محدَّدًا في السرد من خلال معانيها وسياقاتها. لكنَّه في المقابل يعطي تصويرًا مبهَمًا لعلاقات ديلان العاطفية التي يقدِّمُها على أنَّها معقَّدة وغير واضحة، فكما أن سيلفي روسو (المستوحاة من شخصيَّة سوز روتولو التي أدت دورها إيل فانينغ) كانت الملهمة الأولى لديلان، حيث شكَّلت الرابط بينه وبين القضايا الاجتماعيَّة وساهمت في تعزيز وعيه السياسي من خلال نشاطِها في الحركات الحقوقيَّة، فإن جون بايز كانت الملهمة الثانية له، التي ساعدته على الوصول إلى جمهورٍ أوسع من خلال جولاتٍ فنيَّةٍ مشتركة. إلَّا أنَّ الفيلم لا يقدِّمُ هذه العلاقات إلا كقصصٍ عابرةٍ يغلِّفُها الغموض دون أن يستكشفَ جوهرَها الحقيقي.
إلى جانب ذلك، يسلِّطُ مانغولد الضوء على علاقةِ ديلان مع من حوله، بوصفه "المنشق واللامنتمي" الذي يرفض كل تصنيف وكل قيد. يشعر سيجر - راعي الموسيقى الفولكلوريَّة وممثِّلها - بالخذلان منه وهو يراه يقوض كلَّ ما بناه في مهرجان نيوبورت، ويُواجَه بالاستهجان والغضب الجماهيري حين يغني في المهرجان أغنية «مثل حجرٍ يتدحرج» (Like a Rolling Stone) التي انتقل فيها من الغناء الشعبي إلى الروك والالكتريك، ودخل عبرها سجلَّ التاريخ من أوسع أبوابه، في حين أنَّها لم تكن سوى تعبيرٍ عن هذا الشعور العميق لكونه غيرَ مرئي، مجهولًا تمامًا للمحيطين به، وبلا وجهةٍ يرجع إليها.
على الرغم من ذلك، يتمكن مانغولد من التقاطِ ما لم تلتقطه الأفلام الوثائقية من قبل، وما لم يلتقطه تود هاينز نفسه في فيلمه «أنا لست هناك» (I'm not there - 2007)؛ هذه الحميميَّة التي تجعلُ البطل قريبًا ومألوفًا، وبالتالي مقنعًا جدًا، وما كان ذلك ليتحقَّق لولا ممثِّلين استثنائيين. قدَّم تيموثي شالاماي في دور بوب ديلان أداء مبهرًا يعكسُ شغفًا كبيرًا وعبقريَّة في فهم الشخصيَّة التي يؤديها، انطلاقًا من لغة الجسد، والإيماءات ونبرة الصوت الساخرة واللامبالية، وصولًا إلى الأداء الغنائيِّ الذي كان واقعيًّا ومؤثرًا؛ حيث قضى تيموثي سنواتٍ وهو يصقُل صوتَ وصورةَ ديلان داخله.
كما قدمت مونيكا باربارو (بدور جون بايز) أداءً يعكس احترافيَّةً كبيرة، وشكلت رُفقته ثنائيًا قادرًا على نقل الأداء إلى مستوى مختلف. لعلَّ أبرز مشهدٍ تألَّقا فيه هو لحظة غنائِهما «في مهبِّ الريح» (Blowin' In The Wind) لأوَّل مرَّةٍ بعيدًا عن بريق المسرح، حيث يواجِهُ كلُّ واحدٍ منهما هشاشة الآخر بارتباك، مواريًا شكوكَه ومخاوفه التي تبديها الملامح، وحيث تسأله بايز التي تخفي انبهارها: «ما كان هذا؟»، فيرد كمن اكتشف توًّا عظمة ما صنع: «لا أدري».
إلى جانب ذلك، قُدِّمَ تجسيدٌ مبهرٌ لشخصيَّة جون كاش من خلال الممثِّل بويد هولبروك، والذي يظهر في الفيلم من خلال مراسلاته ومشاركته في المهرجان حاثًّا ديلان على إحداث الفوضى. وقد مُنِحَ هالةً من المجد والأصالة جعلته يتفوَّق على تجسيدِ شخصيَّة كاش التي قدَّمها خواكين فينيكس في فيلم مانغولد السابق «السير على الخط».
الخاتمة
حين نتحدث عن جيمس مانغولد، فإنَّنا نتحدث بالضرورة عن معالجة هوليوودية في خطوطها العريضة الكبرى وأحيانًا حتى في تفاصيلها الدقيقة، وتأتي أعماله وسيرته الحافلة لتؤكد على أنه حرفي سينما هوليوودي مُتمكِّن من أدواته بامتياز. في المقابل فإنَّ بوب ديلان شخصيَّةٌ تحيطها الغرابة والسحر، رُسمت في مخيال الناس، عبر أجيالٍ متعاقبة، على أنَّها أسطوريَّةٌ وغير قابلةٍ للتحديد والتصنيف. إذ عُرِف عن ديلان ارتداؤه للأقنعة وتحوُّله المستمر، وكونه دائمًا في حالة انتقالٍ من صورةٍ ماضيةٍ لم يعد قادرًا على العودة إليها إلى صورةٍ مستقبليَّةٍ هو في سعي مستمرٍّ إليها. ولعلَّ أصدق ما يمكن أن يُقدّم ويُعرّف عبره ديلان هو أغانيه ذاتها وشعره. في فيلم «مجهولٌ تمامًا» يقول ديلان لسيلفي: «الناس يصنعون ماضيهم يا سيلفي، يتذكرون ما يريدون فقط، ويصنعون الباقي»، ويقول في المصعد: «مئتا شخص في الغرفة، كلُّ واحد منهم يريدني أن أكون شخصًا آخر. أتمنى أن يتركونني كما أنا». ويسأله العازف: «تكون ماذا؟» فيرد: «أيَّا كان الأمر الذي لا يريدون مني أن أكونه».
في تصويره لبوب ديلان، يقدم لنا جيمس مانغولد تجسيدًا "ما بعد حداثيًا" لصورة الذات، يتجلى في طريقة تحققها وتعدّدها وفي شعورها بالاغتراب ومواجهتها لعبقريتها وفي سعيها لأن تهرب من تداعيات الشهرة. ورغم أنَّه ليس الأول أو الأخير الذي قدم معالجةً مُماثِلة، إلا أنه استطاع عبر التوظيف الجيد للسينيماتوغراف ولعناصر الفيلم أن يعطي الوصفة المثلى الممكنة لهذا التمثيل، بغض النظر عن بعض النقائص التي كان يمكنُ تجنبها. ورغم التحدِّيات التي تواجه الكتابة عن ديلان ومحاولة تصوير شخصيته من خلال التمثيل أو الإخراج أو الكتابة، إلا أن مانغولد ينجح بطريقةٍ ما في جعلنا نحبُّ نسخته من بوب ديلان لدرجة تصديقها بالكامل.