مقالات

معجم الأحلام الجزء الثالث: «رأس الممحاة»

من المستبعد، كما أظن، أن يُتناول فيلم كفيلمنا هذا -«رأس الممحاة» (1977)، إخراج ديفيد لينش- على الشاكلة المعتادة من تحليل وترتيب ومحاولة للفهم. بالدرجة الأساس، هذا فيلم، بحسب كلام مخرجه، يُحَس ويُشعر به أكثر مما يُشرح ويُفهم. ولو كان في هذا الكلام ضرب من السفسطة والتسطيح، أحيانًا. غير أننا مهما كانت الحالة فسوف نحاولهما -الشرحَ أعني ومحاولةَ الفهم- وفي طريقي إلى ذلك حاولت ما استطعت من سبل للاقتراب من العمل، إما بالمشاهدة وإعادتها أو بالقراءة عنه. ولعل واحدة من أجمل تجارب هكذا أفلام -سوريالية وغرائبية وغير ملتزمة بالمنطق- تكمن في مطالعة آراء الآخرين، فترى حركة الأفهام ما بين المَنطقة غير الممكنة والشطح الذي يبتعد أحيانًا عما أراده صانع العمل حتى. في صف، ثمة من يرون في هذا مجرد حماقة وترفًا فكريًّا أو فنيًّا، وفي صف مقابل، هناك من يرون أن هذه هي مهمة الفن الأصلية، خصوصًا في زماننا الراهن. أما بالنسبة لي، فإنني أقف في المنتصف بين الصفين وأهز رأسي موافقًا لكليهما.
مثل «بنيلوب» كلما غزلتُ نكثتُ، وإن كنت في غير انتظار «أوديسيوس»، أكتب وأمحو حتى أكاد أكمل المقالة فآخذ أنكثها دفعة واحدة. مشكلة هذه الأفلام أن قولك فيها يظل تأويلًا، وبقدر ما يبدو ذكيًّا ومتفحصًا بقدر ما سيبدو غبيًّا ومتحذلقًا، بل إنك لَتتمنى في لحظة لو لم تورط نفسك هذه الورطة. المهم أنني ظللت هكذا حتى وقعتُ على كتاب اغبرَّ على رفّي. وهنا تكون ميزة شراء الكتب على غير هدى: أنها في لحظة تنقذك. لقد انتبهت في خضم ما كنت أبحث عن كلام للمخرج نفسه حول الفيلم، أنني قد ابتعت منذ زمن مضى كتابًا يضم مجموعة من المقابلات معه، بل إن كل فصل من فصول الكتاب عبارة عن محاورة مطولة حول واحد من أعماله، بما فيها علمنا هذا. إنه كتاب «لينش عن لينش»1.
إننا إن كنا استندنا في اختيارنا لهذا الفيلم كمعبّر أساس -في المرتبة الثانية، تاريخيًّا على الأقل- عن لغة الأحلام أو الكوابيس إلى مقولة غاسبار نوي2، فإننا هنا سوف نستند كذلك إلى نقولات نترجمها من الكتاب المذكور، على أننا سوف نترجم ما نراه ذا صلة بكلامنا حول الفيلم، منوّهين إلى أن هذه الترجمات قد تمت بتصرف دون إخلال بالمعنى الأصل3. إذن.. فنحن، في نهاية المطاف، سنلفي أنفسنا أمام ما هو أشبه بالكولاج منه بالمقالة.. وفيمَ يضر هذا؟ إنني من ناحية لا أخفي افتتاني الشخصي بشكل الكولاج، ومن ناحية ثانية، لا أظنه من المعقول -كما سبقت القول- أن يُتناول «رأس الممحاة» بمعقولية!
«رأس الممحاة» ليس فيلمًا عن الفضاء بكل تأكيد، أو على الأقل ليس عن الفضاء الخارجي. وبالرغم من هذا فإن الفيلم يبدأ بمشهد من الفضاء لكوكب ما، غير أنه كوكب يتحاذى في إطار المشهد مع رأس البطل، مما يكوّن تأويلًا يجعل من هذا الكوكب رمزًا للعقل الواعي. في داخل الكوكب رجل ذو تشوهات خِلقية واضحة، يجلس بجانب نافذة وينظر للخارج. لا نرى ما ينظر إليه، إلا أننا نفهم أنه ينظر إلى البطل «هنري». حالة هذا الرجل، ولنسميه بـ«رجل الكوكب»، حالة من البؤس والانعزال التام. قد يصح القول بأنه العقل فعلًا مع هذه الصفتين، فمَن أكثر بؤسًا من العقل في العصور الحديثة، وعزلةً برغم كثرة الأفكار؟ بل قد يكون سبب العزلة هو كثرة الأفكار بالذات، حيث إنه على كثرتها ما من فهم. مما يؤيد هذا، أن العقل في الأصل هو المتحكّم في المرء، ونرى بين يدي رجل الكوكب أذرعَ تَحَكُّم تشبه الأذرع الميكانيكية في المصانع. في لحظةٍ، يفغَر هنري فمه ويخرج منه ما يشبه الحيوان المنوي، على هيئة شبحية، فيأخذ رجل الكوكب بتحريك أذرع التحكم مستجيبًا لفعلة هنري.. فما الذي يحدث هنا؟
كريس رودلي: وماذا عن استهلال «رأس الممحاة» وتحديدًا بخصوص رجل الكوكب؟ من الواضح أنه أمر شديد الأهمية. لكن كيف يرتبط ذلك بقصة هنري وببقية الفيلم؟
ديفيد لينش: أوه إنه يرتبط. أؤكد لك أن ثمة ارتباطًا. «استهلال» تعني ما يكون ويحدث في ما قبل (في المقدمة)، صحيح؟ وهو كذلك بالضبط. إن ما يحدث هنا شديد الأهمية. لا أحد تناول ذلك، بالمناسبة. [...] بالعموم، ثمة أمور بعينها تحدث في هذا السياق هي عبارة عن مفاتيح لبقية الفيلم. و.. هذا كل شيء.
ك.ر: وما هي هذه الأمور..؟
د.ل: إنها هناك في الفيلم، كما تعلم. [يضحك].
إن هذه الضحكة من لينش هي ردة فعله الغالبة على ردوده فيما يخص حيرة المشاهدين بإزاء أفلامه. الرجل يعيد ويؤكد أنه لن يشرح؛ لو أراد الشرح لقال منذ البداية في الفيلم وأراح واستراح، لكنه يستمتع باستثارة أذهان مشاهديه. ولعل هذه واحدة من الخصال التي يتشاركها كثير من الفنانين، خصلة فيها ما فيها من نرجسية وغرور، لكنها هي ما تجعلهم فنانين بشكل ما. إنهم يريدون منا -المتلقين- أن نتجادل ونفكر ونتخابط حول أعمالهم، لذا فقد يضع بعضهم شيئًا من الغموض الفارغ في أعماله في سبيل ذلك، إلا أن هذا، إحقاقًا للحق، هو ما يمد من عمر العمل الفني؛ فكلما كان العمل أكثر اتساعًا للتأويلات، طال عمره أكثر وأخذ يُعبّر عن فئات أكثر من الناس وفي أزمنة مختلفة.
في بداية قراءتي لإجابة لينش على السؤال ضحكت. لقد رأيت في إجابته مجرد استهبال بشرح المعنى الحرفي لمفردة «استهلال»: ما يكون ويحدث في ما قبل. ثم عندما أعدت القراءة رأيت أنني كنت مخطئًا، لعل الرجل بالفعل يرمي خيطًا ما. إذا كان الكوكب ورجُلُه ليسا غير حالة الماقبل فإننا -لاإراديًّا- نستدعي فكرة ما قبل التكوين والخلق كمقابل للكوكب وفكرة الإله الوحيد المنعزل كمقابل لرجل الكوكب. فهل يكون هنري، بينما فغر فمه وخرج الحيوان المنوي، شبحيًّا، قد قال «كن»؟ في هذا شطح ظاهر، خصوصًا وأننا ننتقل من فعل بشري يختص بالرغبة الجنسية إلى ردة فعل رجل الكوكب بتحريك الذراع. لكن الثابت أنه ثمة فعلُ تكوين حقيقي، حيث إن الناتج عن هذين الفعلين -فم هنري وذراع التحكم- يكون سقوط الحيوان المنوي في بِركة بيضاء. إن كامل هذا السياق ينتهي بإسقاط سينمائي بديل عن العملية الجنسية لا أكثر أو أقل، غير أن المعنى في بطن لينش الذي سوف ينسف كل هذا بكلامه.
ك.ر: لقد استغرق «رأس الممحاة» خمس سنوات لإتمامه. لا بد وأنك كرست نفسك تمامًا للفيلم بحيث استغرق كل هذه الفترة الإنتاجية الطويلة. فعمَّ تدور فكرته؟
د.ل: إنه العالم. لقد كان عالمًا كاملًا في عقلي ما بين المصانع وحاراتِها. عن بقعة صغيرة، مجهولة، متشابكة، وصامتة تقريبًا، حيث ثمة تفاصيل صغيرة وعذابات لأناس يعانون في العتمة. إنهم يعيشون في الهوامش، وهم الناس الذين أحبهم. أولئك الناس الذين ضاعوا في الزمن. هنري بكل تأكيد واحد منهم. إنهم إما يكدحون في المصانع أو يدورون في إحدى توافه الحياة. لقد واتتني الفكرة مع هواء فيلادلفيا. لطالما كنت أقول عن هذا الفيلم: «إنه قصتي عن فيلادلفيا».
ينسف لينش بكلامه هذا كل محاولات الذهاب والمجيء مع التأويلات حول عمله. كلام يبدو ذا نبرة بروليتارية هي أبعد ما يمكن عن الرجل وأعماله. لكننا لو حاولنا العودة إلى الفيلم والنظر إليه من وجهة النظر هذه، فلن نخسر كثيرًا. بالفعل، المكان هو حارات المصانع في أطراف المدينة، غير أن هذا لا يظهر في الفيلم إلا لِمامًا، فغالبية الأحداث تكون محصورة في غرفة هنري. من جهة أخرى، ثمة بالفعل ظهور لكلام لينش، ليس من المَشاهد بل من الأصوات. يخيم على كامل الفيلم جو صوتي من الشوَاش الذي لا يبتعد عن كونه الصدى البعيد لأصوات المحرّكات الصناعية. ولو كان حقًّا أن هؤلاء الناس يعيشون في هكذا أجواء صوتية فلا عجب أنهم سيُجنّون بمثل جنون لينش. الغريب في الأمر هو هنري بطل الفيلم، ففي موضعين من العمل يُسأل عن عمله ويجيب جوابًا غريبًا: «أنا في إجازة». هل كان ما يعنيه لينش حول الضياع في الزمن، هو ذاته الضياع في النفس ورغباتها، بحيث نقول إن هذه الإجازة ليست إلا المستقطع الضائع من الزمن لرجل هو ليس إلا عامل مصانع خرج من بين التروس؟ وماذا تمثل هذه الإجازة بالضبط؟.. إنها الأبوة.
معضلة الفيلم الأساس هي الأبوة، بل بالإمكان النظر إلى كامل الفيلم كتعبير سوريالي عن الرهاب من الأبوة، بعيدًا عن كل التأويلات الأخرى التي تشطح في جهات ميتافيزيقية أو نفسانية. لقد أصبح هنري أبًا على حين غرة وبلا توقعات. دخل في ثقب جديد من الزمن يشفط كل زمن المرء الذاتي إلى مخلوق جديد وغريب، وهو في الفيلم بالفعل مخلوق شديد الغرابة: إليَن، فضائي، مشوّه، وخارج كل تصنيف. لقد أخذ المخرج المعنى المجازي للمولود بوصفه كائنًا جديدًا وغريبًا إلى الجهة المضادة تمامًا، جاعلًا منه معنى حرفيًّا.
ك.ر: لقد قالت ابنتك جينيفر في إحدى الوثائيقات أن ثمة جانبًا شخصيًّا في «رأس الممحاة» [...] حيث أنها وُلِدت بحَنَفٍ4 في قدميها، ومن هذا استُلهِم مولود الفيلم. هذا صحيح، أليس كذلك؟
د.ل: بلى، بكل تأكيد. من الطبيعي أن المرء بينما يعيش ويلاحظ ما حوله من أمور، فإن الأفكار تأتي وتذهب. لكن هذا لا يعني أنه من الممكن أن يصبح هناك مئة مليون «رأس ممحاة». الجميع لديهم مواليد، فهل يعني ذلك أن يصنعوا «رأس ممحاة»؟ هذا سخيف. إنه ليس هذا وحسب، بل مليون أمر آخر.
لم تكن مشكلة حنف قدم ابنة لينش على الأغلب هي دافعه لصنع الفيلم بقدر ما هو رعبه من ولادة ابنته الأولى.. خوف طبيعي ومشروع لكل أب حديث الأبوة. لكن بالفعل، ويبدو ذلك من انزعاج لينش من السؤال في إجابته، ليس كل خائف من الأبوة قادرًا على صناعة فيلم مثل هذا. فيلم تنبع أهميته الفنية الأساس من قدرته على التقريب ما بين لغتي الأحلام والسينما، بل لقد اختار اللهجة الأصعب من لغة الأحلام، أعني لغة الكوابيس. ونعود في النهاية، بعد كل دورات التأويل والمحولات العبثية، نقول مع لينش نفسه: إن تجربة المشاهدة والإحساس هي الغرض الأعلى وكل ما يتبع ذلك من تفكير وتحليل ليس إلا تبعًا طارفًا. ولعل رجل الكوكب لا يكون إلا لينش نفسه، المخرجَ الذي يحاول السيطرة على أحاسيس المُشاهد في عملية التلقي ويفشل في ذلك إذ يشطح منه دومًا إلى نواحي التأويل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.Lynch on Lynch- Edited by Chris Rodley- FARRAR, STRAUS AND GIROUX- 2005.
2.انظر الجزء السابق من المقالة.
3.شخصيًّا حين أقرأ مثل هذه العبارات فإنني لا أطمئن، والحق معكم، لكنني قمت بهذه التصرفات لدواعي المقالة وعدم التطويل بالمقام الأول.. فاطمئنوا!
4.حنف القدم: حالة من التشوه الخِلقي التي تصيب بعض المواليد بحيث يكون ثمة نوع من الاعوجاج في القدمين أو إحداهما.
أ. سلطان محمد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا