«ليه يا بنفسِجْ بتبهِج وانت زهر حزين»: عبلة كامل في السينما

حذيفة أمين
و
April 6, 2025

بحضورها الآسر على الشاشة كانت عبلة كامل - الممثِّلة والفنَّانة القديرة - تعيدُ مع كلِّ مشهدٍ تجميع ما انكسر داخلنا، فمشاهدة أعمالها رحلةٌ ممتعةٌ نلملم فيها شظايا الروح بعد أن عصفت بها الحياة. إنَّها فنَّانةٌ تهبُ الوجود حين تفنى الأوهام، جاعلةً الحضور أكثر صدقًا والتصاقًا بالواقع رغمَ كلِّ تجلِّيات الغياب… عبقريتها وصدقها جعلانا ندركُ أنَّ الحياة، رغمَ قسوتها، يمكن أن تعادَ روايتها عبر الضحك، وأنَّ التراجيديا ليست سوى الوجه الآخر لحقيقةٍ لا مهربَ منها. فنَّانة جعلت من الكوميديا فلسفةً تتجاوزُ السخرية، فتتفكَّك بها تناقضاتُ الواقع ليغدو أكثر قابليَّةً للفهم.

عبلة كامل، المرأة التي لم تكن ممثِّلةً فحسب، بل فيلسوفةً بلسان الشعب، تقدِّمُ الحياة كما هي، بلا زيفٍ أو تنميق، بلا تكلُّفٍ أو تصنُّع، مرآة تعكس جوهرنا الإنسانيِّ في لحظاتِ ضعفنا وقوَّتنا، حيث يتلاقى الشجنُ بالتهكُّم، ليولَدَ من بينهما ذلك الفهم العميق للحياة.

إنَّ عبلة كامل، كظاهرةٍ فنية، لا يمكنُ فهمها بعيدًا عن الفلسفة، فهي أشبه بنيتشه حين قال: «لقد مات الإله، ونحن من قتلناه!»، وكأنَّها في كلِّ دور، في كلِّ إيماءةٍ وفي كلِّ ضحكةٍ ساخرة، كانت تعلنُ موت المثاليَّة الزائفة في التمثيل، تلك التي تغرقُ في الاصطناع وتُجبِرنا على تصديقِ واقعٍ مصطنعٍ لا وجود له. لم تكن عبلة كامل مجرَّد ممثِّلةٍ تقليديَّة، ولم تسعَ يومًا إلى أن تكون نجمةً وفق المفهوم الاستعراضيِّ الرخيص، بل كانت أقرب إلى ديوجين الكلبي، ذاك الفيلسوف الذي كان يسير في وضحِ النهار بفانوسه بحثًا عن "الإنسان الصادق". كانت عبلة، في كلِّ دورٍ لها، تبحثُ عن ذلك الصدق العاري، عن اللحظة التي تكسر فيها الجدار الرابع بين الممثِّل والمُشاهد، عن الأداء الذي لا يحتاج إلى تلميع، لأن بريقه يشعُّ ببساطةٍ من تلقاء ذاته.

قدَّمت عبلة كامل الكوميديا لا بوصفِها مجرَّد أداةٍ للإضحاك، بل باعتبارها شكلًا من أشكالِ مقاومة الحياة، وسلاحًا لنقدِ المجتمع في أعمقِ مستوياته. لم تكن الضحكة عندها مجرَّد لحظةٍ عابرة، بل كانت صرخةً مدوِّيةً ضدَّ القهر، غمزةً ماكرةً في وجه المأساة. تمامًا كما كان ديوجين يسخر من التقاليد الاجتماعيَّة بسلوكيَّاته اللامبالية، كانت عبلة كامل تهدمُ الصور النمطيَّة للمرأة في السينما، فلا هي الضحيَّة المستسلمة ولا هي البطلة الخارقة، بل كانت المرأة الحقيقيَّة، العاديَّة، التي تضحك وتبكي، تصرخ وتهمس، تعيشُ الحياة لا كما تُرسَم على الشاشات، بل كما تتجلَّى في شوارعنا وبيوتنا وأحاديثنا اليوميَّة.

تجلَّى إبداعها في قدرتها على جعل الفكاهة فلسفة، وعلى تحويل "الإفيه" من مجرَّدِ جملةٍ ساخرةٍ عابرةٍ إلى عبارةٍ مشحونةٍ بالبعد الوجودي. لم تكن كلماتها مجرَّد أدواتٍ للإضحاك، بل كانت تحملُ طبقاتٍ من المعنى، تتأرجحُ بين النقد الاجتماعيِّ العميق والتأمُّل في المصير الإنساني. من يستطيع نسيان عباراتها التي صارت جزءًا من الثقافة الشعبيَّة؟ تلك الجمل التي تبدو، للوهلة الأولى، مجرَّد مزحةٍ عابرة، لكنَّها في جوهرها تلخيصٌ لحكمةٍ مُعاشة، تعكس وعيًا دفينًا بالحياة وما تخبئه من مفارقات. في ضحكتها الساخرة نرى وجوهَنا المُتعَبة، وفي عتابها المرير نسمع أصواتَنا المكبوتة، وفي تهكُّمها اللاذع نلمح ثورتنا الصامتة ضدَّ كلِّ ما يحاول ترويضَنا.

لم تكن عبلة كامل تسعى إلى النجوميَّة بالمفهوم التقليدي، بل إلى صناعة حضورها الخاص، إلى إعادة تعريف معنى أن تكون فنانًا، إلى إثبات أنَّ الأداء الحقيقي لا يحتاجُ إلى بهرجةٍ أو ضوضاء، بل يكفيه الصدق الخالص. لم تكن تصرخُ لجذبِ الانتباه، بل كانت تهمس همسًا، وحين تفعلُ ذلك ينصتُ إليها الجميع. كانت تعلمُ أنَّ الطريق إلى الخلودِ الفنيِّ ليس في الأضواء الصاخبة، بل في الأدوار التي تعيش في ذاكرة الناس، في الشخصيَّات التي لا تموت لأنَّها ببساطةٍ تشبهنا جميعًا، تتنفَّس بصدقِنا، وتروي حكاياتنا دون تكلُّفٍ أو ادعاء.

إنَّ الحديث عن عبلة كامل ليس مجرَّد استذكارٍ لمسيرةِ ممثِّلة، بل تأمُّلٌ في تجربةٍ فنيَّةٍ تحملُ في جوهرها بعدًا فلسفيًّا خالصًا، في رحلةِ بحثٍ طويلةٍ عن الحقيقة وسط زخمِ الفنِّ والتمثيل، وفي امرأةٍ جعلت من الشاشة امتدادًا لحياتها، فامتزجت صورتها في أذهاننا بالواقع، وأصبحت جزءًا من وعينا الجمعي. وكما كان نيتشه يرى في الفن خلاصًا من عبثيَّة الوجود، كانت عبلة كامل تقدم لنا فنًا لا يهربُ من العبث، بل يحتضنه، يجعله أكثر احتمالًا، أكثر دفئًا وأكثر إنسانيَّة.

إن الغوصَ في تجربةِ عبلة كامل الفنيَّة سبرٌ لأعماقِ فلسفةِ الأداء ذاته، لأعماقِ تلك القدرة الاستثنائيَّة على المزجِ بين التناقضات (الضحك والدموع، العبث والجديَّة، السخرية العفويَّة والوجع المتجذِّر). إنَّها ليست مجرَّد ممثِّلةٍ تؤدِّي أدوارَها، بل حالةٌ وجوديَّةٌ كاملةٌ نكتشفُ من خلالها أنَّ الفنَّ ليس مجرَّد أداة ترفيه، بل وسيلةٌ للفهم والتأمُّل، بل وحتى للشفاءِ من جراحِ الحياة. قد تبدو الكوميديا في ظاهرها مجرَّد وسيلةٍ للإضحاك، إلَّا أنَّ عبلة كامل منحتها بعدًا آخر، إذ جعلت منها انعكاسًا عميقًا للواقع، وسيلةً لكشفِ هشاشته وقسوتِه في آنٍ واحد. لذا قدَّمت أداءً كوميديًا متفردًا قائمًا على التلقائيَّة الصادقة، تلك التلقائية التي تحمل في طيَّاتها أكثر مما يبدو على السطح، فهي ليست مجرَّد حركاتٍ وإفيهاتٍ عابرة، بل بناء نفسي متكامل للشخصية يجعل الضحك متشابكًا مع الألم، والمرح متماهيًا مع قسوة الواقع. كانت عبقريتها تكمنُ في قدرتِها على جعل المشاهد يضحكُ ويبكي في اللحظة ذاتها، دون أن يشعر بتناقضٍ أو افتعال، بل وكأنها تكشف له سرًّا قديمًا عن الحياة، ذلك السرُّ الذي يجعل الفرح والحزن وجهين لحقيقةٍ واحدة.

إنَّ فلسفتها في الأداء تنبعُ من إدراكها العميق لتعقيدات النفس البشريَّة المتناقضة، فهي الممثِّلة التي لم تتكلَّف في أيِّ دورٍ من أدوارها، ولم تسعَ وراء المثاليَّة في الأداء بقدر ما سعت إلى الصدق، والصدق أسمى ما قد يبلغه الفنان. من خلال أدوارها المختلفة، سواء في السينما أو التلفزيون أو على خشبة المسرح، كانت تعكس الواقع بحذافيره دون تزييف، وكأنَّها مرآةٌ للمجتمع، تنقلُ مآسيه كما تنقل أفراحه، تسخرُ من عاداته كما تؤكِّدُ على جوهره الإنساني.

في كلِّ عصر، يظهرُ فنَّانون لا يكتفون بكونهم مجرَّد مؤدِّين للأدوار، بل يتجاوزون حدودَ التمثيل ليصبحوا رموزًا تعكسُ عمقَ التجربة الإنسانيَّة وتعيدُ تشكيل فهمنا للحياة من خلال الفن. هؤلاء الفنانون لا يقتصرُ إبداعَهم على تجسيدِ الشخصيَّات، بل يجعلون من كلِّ شخصيَّةٍ أداةً للتفكير والتأمُّل، حيث تلتقي الكوميديا بالتراجيديا، تمتزجُ السخرية بالحكمة، ويصبحُ الأداء أكثر من مجرَّد فعلٍ درامي، رؤيةً فلسفيَّةً لجوهرِ الوجود بحدِّ ذاته.

من خلال أعمالها، استطاعت تحويلَ أكثر المواقف بساطةً إلى لحظاتٍ مليئةٍ بالمعاني، حيثُ لم تكن الضحكة مجرَّد وسيلةٍ للترفيه، بل كانت تُخفي بين طيَّاتها نقدًا خفيًّا للواقع، تعبيرًا عن معاناةٍ دفينة، أو حتى وسيلةٍ لمواجهة القسوة والتناقضات التي تملأ الحياة. لم تعتمد على الاستعراض أو المبالغة في الأداء، بل صنعت حضورها بتلقائيَّةٍ آسرةٍ وعمقٍ داخليٍّ نادر، وقدرةٍ فريدةٍ على نقلِ مشاعر الإنسان العادي بكلِّ تناقضاتها (الألم والفرح، القوَّة والهشاشة، الصدق والمراوغة). كانت رؤيتها للفنِّ تتجاوزُ مجرَّد التقمُّص، حيث أصبحَ الأداء امتدادًا للحياة نفسها، يعكس واقعًا يختلطُ فيه الجدُّ بالهزل، وتتحوَّل فيه التفاصيل البسيطة إلى رموزٍ تحملُ معاني أعمق.

بناءً على هذه الرؤية يُطرَح السؤال التالي: «إلى أيِّ مدى يمكن اعتبار تجربة عبلة كامل الفنيَّة نموذجًا لفلسفةِ التمثيل بوصفها انعكاسًا للحقيقة الإنسانيَّة؟ وما حدودُ العلاقة بين الأداء الفنيِّ والطرح الفلسفيِّ في أعمالها التي جمعت بين التراجيديا والكوميديا والسخرية العميقة؟»

من قسم المكتبات إلى عدسة يوسف شاهين

منذ خطواتها الأولى على شاشة السينما، لم تكن عبلة كامل مجرَّد ممثِّلةٍ تسعى إلى إثبات حضورها، بل كانت مشروعًا فنيًَا يتشكَّل بصبرٍ ودقَّة، ممزوجًا بصدقِ الأداء والتزامه بالحقيقة. دخلت عالم السينما عبر بوَّابة التلقائيَّة الخالصة، والتي لم تكن مجرَّد صدفةٍ أو سذاجةٍ أدائيَّة، بل كانت فلسفةً فنيَّةً متكاملةً تتقاطعٌ مع ما طرحه ألتوسير حول "فلسفة العلماء العفويَّة"، حيث لا تُنتجُ المعرفة — أو الأداء في حالة عبلة كامل — من خلال التنظير والتجريد، إنَّما من خلالِ الممارسة الحيَّة التي لا تنفصل عن الواقع الاجتماعي، بل تذوب فيه وتعيد تشكيله. في هذا السياق، لم يكن ظهورُها في فيلم «وداعًا بونابرت» - 1985 ليوسف شاهين مجرَّد بدايةٍ تقليديَّة، بل كان ولوجًا إلى عالمٍ سينمائيٍّ حمل في طيَّاته رؤيةً فلسفيَّةً متجذِّرةً في فهم التاريخ والسياسة والمجتمع، رؤيةٌ لم يكن من السهل على أيِّ ممثِّلٍ مبتدئٍ الانخراط فيها دون أن يذوب وسط عوالم شاهين الصاخبة والمركَّبة.

في هذا الفيلم، قدَّمت عبلة كامل أداءً قصيرًا لكنَّه كان بمثابة إعلانٍ مبكِّرٍ عن أسلوبها، حيث لم تكن مجرَّد جزءٍ من النسيج الفيلمي، بل كانت حضورًا نابضًا بالحياة، كأنَّها تسعى منذ اللحظة الأولى إلى تأكيدِ أنَّ التمثيل ليسَ مجرَّد تقنيَّة، بل هو فعلٌ وجوديٌّ يكشفُ عن تناقضات الحياة ذاتها. جاءت هذه البدايات في فترةٍ كانت فيها السينما المصريَّة تعيش تحوُّلاتٍ كبرى، حيث ظهرَ جيلٌ جديدٌ من المخرجين يطرح رؤى أكثر جرأةً وتجريبًا، مثل رأفت الميهي وبشير الديك وهشام أبو النصر، الذين صنعوا أفلامًا لم تكن تستسلم للأنماط السائدة، بل سعت إلى إعادة تعريف العلاقة بين السينما والواقع. في «الطوفان» - 1985 لبشير الديك، و«للحب قصَّة أخيرة» - 1986 لرأفت الميهي، و«البنات والمجهول» - 1986 لهشام أبو النصر، خاضت عبلة كامل تجربةً تمثيليَّةً تقوم على المزجِ بين التلقائيَّة والانضباط الفني، بين العفويَّة المدروسة والإحساس الفطري، حيث قدَّمت شخصياتٍ تقتربُ من الواقع بأدقِّ تفاصيله، لكنَّها تحمل في أعماقها بعدًا فلسفيًا يجعلها تتجاوزُ حدودَ التمثيل التقليدي.

في هذه الأفلام، لم تكن عبلة كامل مجرَّد وجهٍ سينمائيٍّ جديد، بل كانت تمارس نوعًا من "التفكير الحي"، حيث بدت كلُّ شخصيَّةٍ تؤدِّيها وكأنها انعكاسٌ لفلسفةٍ تلقائيَّةٍ لا تنفصل عن الإنسان الحقيقي. هذه الفلسفة، التي ناقشها ألتوسير في سياق العلوم، يمكن إسقاطها على الأداء التمثيلي لعبلة كامل، إذ لم تسعَ إلى صناعة شخصيَّةٍ وفق قوالبَ جاهزة، بل كانت تغوص في تفاصيل الدور حتى تصبح الشخصيَّة جزءًا منها، متماهيةً معه بطريقةٍ تبدو طبيعيَّةً تمامًا، لكنَّها في حقيقتها مدروسةٌ بدقَّة. لقد شكلت تلقائيَّتها نوعًا من "التدخُّل الفني" الذي يتجاوز حدودَ الأداء التقليدي، مرسِّخةً بذلك حدودًا واضحة بين ما هو زائفٌ وما هو حقيقي، بين التصنُّع والتجربة الحيَّة، بين الأداء كأداةٍ ترفيهيَّةٍ والأداء كوسيلةٍ لاكتشاف أعمق ما في النفس البشريَّة من تناقضاتٍ وانفعالات.

كانت هذه المرحلة من مسيرتها أشبه بورشةٍ فنيَّةٍ تضعها في اختبارٍ دائمٍ أمام الكاميرا، حيث منحتها تجربتها مع مخرجين مختلفين فرصةً لصقلِ أدائها بأساليبَ متعدِّدة، لكنَّها في كلِّ تجربةٍ ظلت محافظةً على جوهرها الخاص، ذلك الجوهرُ الذي يجعل الممثِّل لا يبدو كأنَّه "يمثِّل"، بل كأنَّه يعيش اللحظة بكلِّ تفاصيلها. كان هذا المنحى في الأداء متجذِّرًا في رؤيةٍ خاصَّةٍ للتمثيل، رؤيةٌ ترى أنَّ الفنَّ ليس انفصالًا عن الواقع، بل هو امتدادٌ له، وتحويلٌ للخبرة الإنسانيَّة إلى صورةٍ حيَّةٍ على الشاشة.

إذا تأمَّلنا تجربة عبلة كامل خلال الثمانينيَّات، سنجدُ أنَّها لم تكن مجرَّد سلسلةٍ من الأدوار المتعاقبة، بل كانت رحلةَ بحثٍ مستمرَّةٍ عن أسلوبِ أداءٍ يتجاوز المألوف، أسلوبٌ لا يسقط في فخِّ المبالغة أو التصنُّع، بل تحقَّق ذلك التوازن الدقيقُ بين العفويَّة المتدفِّقة والاحترافيَّة المتقنة، بين العاطفة الجيَّاشة والوعي الحاد، بين الصدق الفنيِّ والقدرة على إعادة خلق الشخصياتِ بطريقةٍ تجعلها أكثر من مجرَّد كائناتٍ سينمائيَّة، بل شخصيَّات حقيقيَّةٍ تنبض بالحياة. إنَّ فلسفة التلقائيَّة التي ميَّزت أدائها لم تكن مجرَّد خيارٍ أسلوبي، بل كانت موقفًا فنيًا يعكس فهمًا عميقًا لوظيفة التمثيل، ليس بوصفه أداةً للتسلية فحسب، إنما كوسيلةٍ للتفكير والتعبير عن تناقضات الإنسان والمجتمع، حيث تصبحُ كلُّ جملةٍ تنطق بها، وكلُّ حركةٍ تؤدِّيها، جزءًا من تجربةٍ أوسع لا تسعى إلى الإبهار بقدر ما تسعى إلى الحقيقة.

عبلة كامل ومفارقات المسرح: جدليَّة الهزلِ والجدِّ في البحث عن الحقيقة

في جوهر الأداء المسرحي، حيث تمتزجُ الفكرة بالحركة، والنص بالانفعال، تقفُ عبلة كامل كواحدةٍ من أبرز من جسدوا ذاك التقاطع الغامض بين التراجيديا والكوميديا، بين الفلسفة والمسرح، بين الفكرة المجرَّدةِ والتمثيل الحي. وإذا كانت الفلسفة قد نظرت إلى المسرح بريبة، معتبرةً إيَّاه مملكةً للزيف والتظاهر، فإنَّ عبلة كامل قلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب، محوِّلةً التمثيل إلى وسيلةٍ لفهمٍ أعمق للحقيقة، حيث يصبحُ الكذب الفنيُّ أداةً لقول الحقيقة بأكثر صورها صدقًا وعمقًا. في هذا السياق، كانت مسرحيَّة «الحادثة المجنونة» - 1993، التي كتبها لينين الرملي، من أبرز المحطَّات التي كشفت عن عبقريَّتها في تطويع الأداء المسرحي ليكون فلسفةً قائمةً بذاتها، فلسفةٌ لا تكتفي بنقلِ النص إلى الخشبة، بل تعيد خلقه عبر الأداء، وتعيد تعريف المسرح باعتباره تجربةً إنسانيَّةً تتجاوز حدود الزمان والمكان.

تميَّزت عبلة كامل في هذه المسرحيَّة بقدرتها الفريدة على التلاعب بالتناقضات الشعوريَّة، حيث قدَّمت شخصيَّةً تجمع بين الهشاشة والقوَّة، بين البراءة والجنون، بين الطرافة المضحكة والرعبِ الكامنِ في الأعماق. كانت تتحرَّك على الخشبة وكأنَّها تنسجُ حوارًا فلسفيًّا يبرز الجدليَّة بين التمثيل والواقع، بين الذات والشخصيَّة، بين الإنسان وقناعه. ومن خلال هذا المزج المتقنِ بين الجاد والساخر، بين الصدمة والضحك، أعادت كامل إحياء التقليد المسرحيِّ العريق الذي ابتدعه أرستوفانيس حين جعل الفلسفة موضوعًا للكوميديا، لكنَّه في الوقت ذاته منحها بعدًا دراميًّا شديدَ العمق يتجاوزُ حدود الفكاهةِ ليصل إلى مساءلة المفاهيم الكبرى عن الحقيقة والمعرفة والجنون والعقل.

لم تكن عبلة كامل تؤدِّي دورًا بقدرِ ما كانت تخلق عالمًا متكاملًا، تنفخُ الروح في النص الجامد ليغدو كائنًا حيًّا نابضًا بالحياة، وتحوِّل المشاهِد العاديَّة إلى مشاهد فلسفيَّة من الطراز الرفيع، حيث لا يكون الضحك غايةً بحدِّ ذاته، بل وسيلةً للكشف عن المأساة الكامنة في التفاصيل. هذا الأسلوب في الأداء يضعُها في مكانةٍ فريدةٍ داخل تاريخ المسرح العربي، فهي ليست ممثِّلةً تقليديَّةً تعتمدُ على الأداء التلقائي فقط، وليست أكاديميَّةً تغرق في تقنيَّات الأداء الصارمة، بل هي مزيجٌ فريدٌ بين الاثنين، قادرة على تحقيق توازنٍ نادرٍ بين العمقِ الفلسفيِّ والبساطة التعبيريَّة، بين العفويَّة المطلقة والقدرة على التحكُّم الدقيق في الانفعال.

من خلال هذه المسرحيَّة أعادت عبلة كامل صياغة مفهومِ التمثيل المسرحي، بحيث يصبحُ تجربةً وجوديَّةً لا تقل شأنًا عن الفلسفة ذاتها. وكما يبحثُ الفلاسفة عن الحقيقةِ عبر الجدل والنقد، فهي بحثت عنها عبر الحركة والصوت والنبرة والإيقاع، مستخدمةً كلَّ أدواتها كممثلةٍ ليس فقط لتجسيد الشخصيَّة، بل لتفكيكها وإعادة بنائها أمام أعينِ الجمهور. وهكذا، فإنَّ حضورَها على خشبة المسرح كان أشبه بجدلٍ أفلاطوني، حيث تتصادمُ الأفكار وتتشكَّل المعاني، وتنكشفُ طبقاتٌ متعدِّدةٌ من الحقيقةِ دفعةً واحدة.

في هذا الإطار، يمكن القول إنَّ عبلة كامل لم تكن مجرَّدَ ممثِّلةٍ تؤدي نصًا مسرحيًا، بل كانت في «الحادثة المجنونة» تقدِّم درسًا في فلسفة المسرح ذاته، موضحةً قدرته على أن يكون مرآة للواقع وفي الوقت ذاته نافذةً نحو عوالم أكثر عمقًا وتعقيدًا. ومن خلال هذا الأداء استطاعت تأكيدَ أنَّ المسرح ليس مجرَّد وسيلةٍ ترفيهيَّة، ولا مجرَّد أداةٍ للسخرية أو النقد، بل هو شكلٌ من أشكال التفلسُف الحي، حيثُ يصبح الجسد أداةً للتفكير، والصوتُ وسيلةً للاستفهام، والحركة شكلًا من أشكالِ الجدل المستمرِّ بين الإنسان ومصيره.

عبلة كامل وتجليات الكوميديا الحديثة: بين السخرية الفلسفية والتراجيديا الشعبية

إنَّ الحديث عن الكوميديا في السينما المصريَّة الحديثة لا يكتملُ دون التوقُّف عند تجربةِ عبلة كامل، التي استطاعت تأسيسَ مدرسةٍ خاصَّةٍ في الأداء التمثيلي، مدرسةٌ تقوم على المزج بين العفويَّة المحترفة والتلقائيَّة المدهشة، ممَّا جعلها نموذجًا استثنائيًّا يصعبُ تكراره وتقليده. منذ بداية الألفيَّة الجديدة، اتجهت عبلة كامل إلى الأدوار الكوميديَّة التي تحملُ في طيَّاتها بعدًا فلسفيًّا عميقًا، يلتقي فيه الهزل بالجد، والضحك بالسخرية اللاذعة، حيث قدَّمت أدوارًا تنبضُ بالحياة، وترصدُ التناقضات الاجتماعيَّة بأسلوبٍ يجمعُ بين الكوميديا الشعبيَّة والنقد الاجتماعي الحاد.

في فيلم «اللمبي» - 2002، كان دورها في شخصية "فرنسا" من العلامات الفارقة في تاريخ السينما الكوميديَّة، حيث استطاعت تقديم نموذجٍ للأمِّ المصريَّةِ بأسلوبٍ ساخر يمزجُ بين الفطرة الشعبيَّة والفهم العميق لطبيعة المجتمع. كانت فرنسا أكثر من مجرَّد شخصيَّةٍ فكاهيَّة، بل يمكنُ القولُ إنَّها تجسيدٌ للمعاناة المتخفِّية تحت طبقاتٍ من السخرية، فبين قسوتها الظاهريَّة ونبرتها الحادة، كانت هناك ملامحُ من الحنان والتضحية، وهو ما جعل الجمهور يرتبط بها ارتباطًا عاطفيًا عميقًا. وقد ساهم هذا الأداء في إرساء شكلٍ جديد من الكوميديا، شكلٌ يتجاوزُ مجرَّد الإضحاك إلى إنتاج خطابٍ اجتماعيٍّ يحمل نقدًا مستترًا للبنى العائليَّة والمجتمعيَّة.

لم يكن هذا الدور الوحيد الذي كشف عن براعتها في توظيف الكوميديا كسلاحٍ ثقافيٍّ واجتماعي، بل استمر هذا النهج في أفلامٍ مثل «كلِّم ماما» - 2003، «خالتي فرنسا» - 2004 و«عودة النذلة» - 2006، حيثُ واصلت تقديمَ شخصيَّاتٍ تتراوحُ بين الكاريكاتوريِّ والسريالي، ولكنَّها في جوهرها تعكسُ شخصيَّاتٍ حقيقيَّةً من عمق المجتمع. إنَّ فلسفتها في الأداء تقومُ على مبدأ أنَّ الكوميديا ليست مجرَّد تسلية، بل هي طريقةٌ لرؤية العالم، وهذا ما يتوافق مع النظريَّات الفلسفيَّة حول الضحك، والتي ترى فيه أداةً لكشفِ زيف الواقع وفضح التناقضات الاجتماعيَّة.

لا يمكنُ فصل الكوميديا التي قدَّمتها عبلة كامل عن سياقها التراجيدي، فهي تنتمي إلى نوعٍ من الكوميديا السوداء التي تقفُ على الحدود الفاصلة بين الفرح والحزن، بين السخرية واليأس. هذه الجدليَّة بين الضحك والبكاء، بين العبثيَّة والمعنى، تجعلُها ممثِّلةً قادرةً على توليد الضحك واستنباط الفكاهةِ من قلب المأساة، وتذكِّرنا بما ذهب إليه المسرحيُّون والفلاسفة الذين رأوا أنَّ الضحك شكلٌ من أشكالِ المقاومة.

من هنا، لا يمكن اختزال تجربة عبلة كامل في كونها مجرَّد نجمةٍ كوميديَّة، بل ينبغي قراءتها بوصفِها ظاهرةً ثقافيَّةً وفنيَّةً تعكس تحوُّلات المجتمع المصري وتناقضاته العميقة، حيث يتجلَّى حضورها كمؤدِّيةٍ تتمتَّعُ بقدرةٍ استثنائيَّةٍ  على توظيفِ الصوت والحركة، والنظرة وحتى الصمت، لصياغةِ شخصيَّاتٍ تبدو مألوفةً لكنَّها تحملُ أبعادًا رمزيَّةً أعمق. هذه القدرة على المزج بين الأداءِ الطبيعي والوعي الفلسفي بالكوميديا هو ما يجعل عبلة كامل واحدةً من أكثر الممثِّلات تأثيرًا في تاريخ السينما المصريَّة الحديثة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى