«الوحشي»: لغم مغلفٌ بالتعاطف

أ. رشا كمال
و
March 4, 2025

«الوحشي» (The Brutalist - 2024) هو فيلمٌ دراميٌّ ملحميٌّ من إخراج وإنتاج برادي كوربيت، الذي شاركَ في كتابة السيناريو مع شريكته مونا فاستفولد. الفيلم من إنتاجٍ مشترك بين الولايات المتحدة، المملكة المتحدة والمجر. تدور أحداثه حول المهندس المعماري المجري-اليهودي لاسلو توث (أدريان برودي)، الناجي من المحرقة، والذي يهاجر إلى الولايات المتحدة سعيًا لتحقيق الحلم الأمريكي. تتغيَّر حياتُه بشكلٍ جذريٍّ بعد لقائه بعميلٍ ثريٍّ يؤثِّر في مسيرته المهنيَّة والشخصية. يشارك في البطولة كل من فيليسيتي جونز (إرجيبت توث)، غاي بيرس (هاريسون لي فان بيورِن)، جو ألوين (هاري لي فان بيورِن)، رافي كاسيدي (ژوفيا)، ستايسي مارتن (ماجي فان بورن)، إيما ليرد (أودري)، إسحاق دي بانكولي (غوردون)، و أليساندرو نيفولا (آتيلا).

عُرضَ الفيلم لأول مرَّةٍ في الدورة الـ٨١ من مهرجان «البندقيَّة» السينمائي الدولي، حيث حصل المخرج على جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج. حظيَ الفيلم بإشادةٍ نقديَّةٍ واسعة، واختيرَ ضمن قائمة أفضل عشرة أفلامٍ لعام ٢٠٢٤ من قبل معهد الفيلم الأمريكي. كما فاز بثلاثِ جوائز غولدن غلوب في دورتها الـ٨٢، بما في ذلك جائزة أفضل فيلمٍ درامي، وكذلك أفضل ممثِّلٍ في فيلمٍ درامي لأدريان برودي، وأفضل مخرجٍ لبرادي كوربيت.

رغم أنَّ دور أدريان برودي في هذا الفيلم يعيد إلى الأذهان دوره الآخر الذي نال عنه جائزة الأوسكار في فيلم «عازف البيانو» (The pianist - 2002) للمخرج رومان بولانسكي، إلا أنَّه  عندما سُئل عن أوجه الشبه بين الفيلمين أجاب: «ليس ثمَّة تشابه بينهما، لأنَّ «عازف البيانو» ينتمي إلى  أفلام الحروب التي وقعت أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما «الوحشي» فهو عن تجربة هجرةِ أحد الناجين منها إلى أمريكا، لكن يمكنكَ القول إنَّ أحداثَ الوحشي تبدأ من النقطة التي ينتهي عندها عازف البيانو».

يجدر بنا التوقُّف عند هذه الملاحظة الأخيرة التي أبداها «برودي»، لأنَّ الفيلم، بحسبِ تصنيفه الفني، يقدِّمُ صورةً لهجرة هذا اليهودي بأسلوبٍ ملحميٍّ تجسيدًا للمعاناة حسب الأساطير التوراتية، ولا يقتصرُ الفيلم على هذا الهدفِ فحسب، بل يجعل من هذه الشخصيَّة بطلًا تراجيديًا يحملُ مأساته على كتفيه. وغالبًا ما تُستَخدم البنية التراجيديَّة لإعادةِ سردِ معاناةِ اليهود عبر التاريخ، سواء في سياق المحرقة، المنفى، أو البحث عن الهويَّة والاندماج. يكمنُ الاختلاف في أنَّ فيلم «عازف البيانو» يقدِّمُ هويَّة تراجيديَّة ممزَّقة لبطلهِ بين عالمه القديم والجديد الذي يعجز فيه هذا المثقف اليهودي عن التحكُّم في مصيره في مواجهة قوى تاريخيَّة طاحنة، أما فيلم «الوحشي» فيصوِّرُ معاناة البطل الذي يصبح أداةً في يد قوى أكبر، ليعكس موضوعات فقدان الهويَّة، الاستغلال، والانصهار القسري في المجتمع الرأسمالي الغربي.

ينقسم الفيلم، الذي تبلغ مدَّته ثلاث ساعاتٍ ونصف الساعةِ تقريبًا، إلى أربعة أقسام، ويتجلَّى أحد أهدافه الرئيسيَّة في المشهد الافتتاحي، قبل أن ينتقلَ بعدها إلى تقديم بطله الذي قد تتشابَه ظروفُه مع ظروفِ الكثيرين ممَّن عبروا البحار طلبًا للنجاة، آملينَ في حياة أفضل، وهو الهدفُ الثاني من الفيلم في تناول موضوع معاداة الساميَّة، ولا يقتصرُ الأمرُ على تجسيده سرديًّا وبصريًّا كما سنرى، بل أيضًا، وهو الأهم، تجسيده على مستوى التلقِّي.

في مستهلِّ الفيلم (الإفتتاحيَّة)، يتجلَّى مشهدُ استجواب ژوفيا ابنة شقيقة البطل، وهيَ فتاةٌ شابَّةٌ بريئة الملامح، والرعب يتجسَّدُ في نظراتها، وأوصالُها ترتعدُ خوفًا، فيما يحاولُ صوتٌ من خارج الشاشة إقناعها بالتعاون معهم بإرشادهم إلى هويَّة المرأة الأخرى، وفي المقابل يساعدوها على العودة إلى الديار، حيث منزلها الحقيقي!

يغيب معنى هذه الكلمات مع بداية الأحداث بسبب الغموض الذي يكتنفُ هويَّة الفتاة، أو بطل الفيلم، أو هويَّة صاحبة الصوت التي تقرأ خطابًا موجهًا إليه. هذا الغموض يمتدُّ ليشملَ حتى الفترة الزمنيَّة التي تبقى دون تحديدٍ في المشهد الافتتاحي، فهو يبدو أمامنا كأيِّ لاجىءٍ يطلبُ ملاذًا آمنًا في دولة تعِدُه ضمنيًا بذلك. يلجأ الفيلم إلى إحالةِ رحلة هذا اللاجىء إلى تاريخ النزوح، وثقافة الاغتراب ومشاكل الهوية، وصعوبة التكيُّف والانتماء والتحيُّزات العنصرية ضدَّ اليهودي في الثقافة العبريَّة، ليصبح هو نفسه في النهاية صورةً لرحلة المعاناة التي كان لزامًا عليه خوضها إلى أن يُدرك المعنى الحقيقيَّ للديار، وهي الرسالةُ التي يعلو صوتُها بجرأةٍ كلَّما تقدَّمت بنا الأحداث.

تطغى السعادة على وجه لاسلو عند وصوله إلى الشواطئ الأمريكية، لكنَّ المخرج ينتقل بالعدسةِ من التقاط فرحته العارمة إلى تصوير مشهدِ تمثال الحريَّة الذي يرحِّب باللاجئين على غير العادة، ليس بكونه تمثالًا شامخًا يتطلعون إليه، بل بظهوره معكوسًا مصوَّرًا بزاويةٍ مقلوبةٍ رأسًا على عقب، فكان هذا بمثابةِ النذير الأول بأنَّ هذه الحكاية ليست مجرَّد حكايةٍ جديدةٍ عن يهوديٍّ آخر يكافحُ ويحقِّقُ أحلامه في أرض الأحلام.

الوصولُ بداية الملحمة

تبدأ ملحميَّةُ الهجرة من القسم الأول في الفيلم بعنوان (لغزُ الوصول)، محدِّدًا الفترةَ الزمنيَّة التي ستقع فيها الأحداث بين عامي ١٩٤٧ و ١٩٥٢. ولكي نكشفَ كيف بُنِيَت هذه الملحمة المأساويَّة نبدأ من الدلالة التي ينطوي عليها العنوان، حيثُ تحمل كلمة "الوصول" دلالاتٍ مختلفةً في كلٍّ من الديانة العبريَّة والتاريخ العبري، منها المأساوي، ومنها الذي يحتفي بالراحة بعد عناء التيه الذي فُرِضَ عليهم. وكلمةُ الوصول في الفيلمِ تحملُ كلتا الدلالتين، إذ يعتمدُ الفيلم على الموازاة الذكيَّة بين حالتين من الوصول، من خلال دمجِ تسجيلٍ صوتيٍّ لديفيد بن غوريون أثناء إعلانه استقلالَ دولة الاحتلال، وانتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين - وهو إعلانٌ يتضمَّن وعدًا بإنهاء "حالة التيه" المزعومة لليهود - مع مشاهد بدايةِ عمل لاسلو لدى ابن عمه أتيلا في متجر الأثاث.

يمنح هذا التداخل الصوتي-المرئي في المشهدِ بعدًا سياسيًّا خفيًّا، إذ يخلقُ تضادًا بين الوصول بوصفِه تحرُّرًا قوميًّا كما تطرحُه الدعاية الصهيونيَّة، والوصولُ الفردي الذي لا يضمنُ الحريَّة بالضرورة، كما يتجلى ذلكَ في تجربة لاسلو.

يحمل لاسلو سمات البطل المأساويِّ الذي يظهرُ في الأعمالِ الملحميَّة، فهو من أصلٍ نبيل، والأصل هنا ليس بالضرورةِ مرتبطًا بالميلادِ ونسب العائلة، بل إنَّه مُكتسب، وما يؤهِّله للظفر به هو مستواه الثقافي وطبيعة مهنته، فهو مهندسٌ معماريٌّ درسَ في إحدى المدارس الفنيَّة العريقة في أوروبا «باوهاوس» (Bauhaus)، التي لاحقت النازيَّة فنانيها وتسبَّبت في هجرتهم خارج بلادهم.

من اللافت للانتباه هو إشارةُ عنوان الفيلم إلى الأسلوب الفنيِّ الذي تنتمي إليه أعمال لاسلو، أي "الهندسة الوحشية" (وتُعرفُ أيضًا بالعمارة الخموميَّة)، كما هو الحال في فيلم «عازف البيانو»، وكأنَّ هذه السرديات ترى النُبلَ مُتجذِّرًا في مهنِ أبطالها، والذي يعجز عن تقديره العدوُّ النازي، وكذلك المجتمعات التي يحاول البطل الاندماجَ والتعايُشَ فيها.

نرى سمات الهندسة الوحشيَّة متغلغلةً في سمات شخصيَّةِ البطل قبل أن نراها في تصميماته، فهوَ صريحٌ وقاسٍ أحيانًا في آرائه، كلامُه مقتضبٌ وبسيطٌ لكنَّه دقيق في إيصال ما يحمله من معنى. يبدو في الفيلم أنَّ مشكلة هذا الرجل، أو بالأحرى مأساويَّته، تنبُع من إيمانه بعيشِ حياةٍ جديدةٍ في أرضٍ أخرى، لكنَّه يُفاجَأ أنَّ العنصريَّة التي هرب من براثِنها في بلاده تتَّخذ أشكالًا أخرى في أرضِ الأحلام.

يلعبُ القدر دورًا محوريًّا في الملاحمِ المأساويَّة، حيث يَفرِضُ حصارَه على البطل، الذي لا يلبثُ أن يتحدَّاه بدوره، كما هو الحال في مأساة أوديب، أو محنة أوديسيوس، أو على غرار ما جاء في الأساطير التوراتية من محنة الأنبياء موسى وداود. يتجلَّى القدرُ في الفيلم بأشكالٍ متعدِّدة، منها العنصريَّة والتحيُّز داخل المجتمع الأمريكي، إلى جانب المفهوم الأشملِ للقدر، الذي يدفع لاسلو طوال أحداث الفيلم نحو وطنه المزعوم.

يحرصُ السيناريو على وضع لاسلو وسطَ نماذجَ متطرِّفةٍ من الشخصيَّات لكسبِ شرعيَّة التحاملِ والمعاناة، فلا نجدُ حوله من يسانده سوى الرجلِ الأمريكيِّ من أصولٍ إفريقيَّة، الذي يلقى هو الآخر نصيبَه من التحاملِ والتعصُّب من قِبَل الرجل الأبيض. عدا ذلك يتلبَّس بقيَّة الشخصيات الوجهُ القبيح المتعالي للرأسماليَّة والإمبرياليَّة الأمريكية، بدايةً من أتيلا ابن عمه، الذي غيَّر ديانته وهويَّته وتمكن من إخفاءِ لكنته الأجنبيَّة من أجل التكيُّفِ مع مجتمع ولاية بنسلفانيا المحافظ، وزوجته الأمريكيَّة التي تحاول عبثًا إغواء لاسلو، ومن ثمَّ تتسبَّب في طرده من مأواه.

تتكالب الأقدار بحقٍّ على البطل عند دخول رجل الأعمال هاريسون لي فان بيورِن إلى حياته. تجتمعُ في هذه الشخصيَّة من الصفاتِ الخبيثة ما يؤهِّلها أن تكونَ بمثابةِ سوطِ القدر الذي يجلدُ لاسلو، فهو استغلالي، يدَّعي الاهتمام بالفنون كي ينسِب لنفسه فضل اكتشاف فنانين مثل لاسلو، ولا يَظهَر معدنُه الحقيقي وإحساسُه بالدونيَّة إلا مع تقدُّم الأحداث، واحتكاكه بعائلة لاسلو، ناهيك عن ابنه هاري الذي يُعتبرُ نسخةً مصغَّرةً عن أبيه.

يصوِّر الفيلم مأساةَ لاسلو على أنَّها آتيةٌ من التحاملِ ضدَّ ديانته، والأحقاد عليه موجَّهةٌ نحوَ براعتهِ المهنيَّة وليس نحو شخصه في الحكاية، لأنَّ النص يتعاملُ بدهاءٍ مع مسألة معاداة السامية، وذلك من خلال وضعِ البطل في موضعٍ قد يكون فيه أيُّ شخصٍ آخر يمرُّ بنفس تجرُبته في أيِّ زمان ومكان، لا سيَّما أنَّ الفيلم لا يدعمُ الصهيونيَّة على نحوٍ صريحٍ من خلال موقفِ بطله، فهو لا يرغب في الذهاب إلى أرض فلسطين للاستيطان فيها رفقةَ زوجته، بل يحاول رغم جميعِ التحاملات بدءَ حياةٍ جديدةٍ في أمريكا، إلا أنَّه يُعامَل نفس المعاملة التي قد يتلقاها أيُّ لاجئٍ في أيِّ أرضٍ غريبة، من المجتمعات المتوجِّسة من الغرباء. والمعضلة تتمثَّلُ هنا في أنَّه بحال لم يتعاطف المُتلقِّي مع موقف هذا الرجل والظلمِ الواقع عليه، فإن الفيلم سيحقِّقُ رسالتَه وهي الاتِّهامُ الضمنيُّ بمعاداة السامية.

تغيبُ عن الفيلم الملامحُ الواضحةُ للصراع النفسي الذي يمرُّ به لاسلو، فلا يظهرُ أمامنا سوى رجلٍ يحاول جاهدًا إتمام عمله رغم مظاهرِ التعصُّب المحيطة به، ولكن لو تأمَّلنا مليًّا، سندركُ المغزى وراء قبوله للإهانات ومقابلتها بالصمت والمثابرة في عمله. يظهر هذا في أحد المشاهد الحواريَّة الهامَّة التي تُظهِر مدى الاختلاف بينه وبين فان بيورِن قبل أن يعرضَ الأخيرُ عليه بناء مشروعه الضخم، إذ يوضحُ لاسلو أن صمودَ أعمالِه أمام الزمن، رغم الإهانات التي تعرَّض لها قومه، هي خيرُ شاهدٍ على قوَّته.

في المقابل، نستشف من حوار هاريسون عن تاريخه مع والدته وجدَّيه - اللذين تبرّآ من والدته بسببِ حملها خارج إطار الزواج - العقليَّةَ الاستغلاليَّةَ المُهينة لهذا الرجل، فكلُّ شيءٍ لديه يباعُ ويشترى، متبجِّحًا بقدرته على الإذلال إذا شعرَ أنَّه في موضعِ قوة، ويلقي هذا الموقفُ بظلالِه على مشهد انتهاك عرض لاسلو، عندما فُسِّر صموده بأنَّه ضعفٌ وتسوُّل.

المعاناة جوهر الجمال

يحرصُ الفيلم على تأكيدِ فكرةِ أنَّ البطلَ يبني في وطنٍ غير وطنه المزعوم، من خلال فصلِه الثاني المعنون بـ "جوهر الجمال". وما جوهر الجمال إلا المعاناة حسبَ سياق هذا الفصل المليء بالإهانات الموجَّهة للبطل ومحاولاتِ صموده من أجل استكمال مشروعه.

إنَّ صورة اليهودي ومفهوم المعاناة، المنعكِس على الصورة إياها - في أساطيرهم - يقيمُ علاقةَ مفهوميَّةٍ لدى المتلقِّي؛ وهي علاقةٌ تتجاوزُ مجرَّد التصوير الخارجي، بل وتُضحي بجزءٍ من السرديَّات التي صاغت الهويَّة اليهوديَّة عبر القرون في النصوص الدينيَّة، خاصةً في التوراة، حيث يتكثَّف التركيزُ على المعاناة كجزءٍ من علاقة اليهود مع الإله، فمنَ السبي البابلي إلى الخروج من مصر، تُصوَّر المعاناة كاختبارٍ أو عقابٍ أو وسيلةٍ للخلاص، وفي التاريخ اليهودي، تكرَّرت فصول الاضطهاد والطرد (من إسبانيا في ١٤٩٢، من أوروبا الشرقيَّة، ثم الهولوكوست)، ممَّا ساهم في بلورة هذه الصورة في الذاكرة الجماعية. وترى بعض التفسيرات اليهوديَّة التقليديَّة أن معاناة اليهود هي جزءٌ من نبوءةٍ توراتيَّةٍ حول دورهم في العالم، سواءً كـ "شعب الله المختار" الذي يمرُّ بالاختبارات، أو كجماعةٍ تنتظرُ الفداء في المستقبل.

يبدأ هذا القسم بلمِّ شمل لاسلو أخيرًا بزوجته إرجيبت (فيليسيتي جونز)، وابنة أخته ژوفيا. تتَّخذُ المعاناة أشكالًا متعدِّدةً أيضًا في هذا الفصل، من الإذلال الذي يتعرَّض له لاسلو من قِبَل ربِّ عمله أمام زوجته والحضور، عندما يعلم بالمؤهِّلات العلميَّة والوظيفيَّة المرموقة لزوجته قبل الحرب.

ويُعرَض مشهد احتفال هاريسون لي فان بيورن بوصولِ عائلة لاسلو الاختلافَ بين الثقافتين المجريَّة والأمريكيَّة من خلال تبايُنِ الأسماء، فحينما يرتبكُ هاريسون عند محاولةِ نطق اسم زوجة لاسلو، إيرجيبت، تسهِّل عليه الأمر قائلة: «يمكنك مناداتي بـ "إليزابيث"». في المقابل، يُصرُّ أفراد عائلة ژوفيا على مناداتها باسمها الأصلي، وليس "صوفيا" كما يَفتَرض هاري الابن. يعكسُ هذا التمسك بالأسماء الأصليَّة حرصَهم على الحفاظ على هويَّتهم في مواجهة الانصهارِ داخل الثقافة الأمريكية.

ثمَّ تتوالى المضايقات التي يتعرَّض لها والتي تهدِّد بإيقافِ عمله، ويُضطر للتنازلِ في كلِّ مرَّةٍ من أجل المحافظة عليه، مثل قبوله بوجود مشرفٍ على عمله ومهندسٍ آخر يقومُ بتعديلاتٍ على تصميمه، وقبوله باقتطاعِ جزءٍ من أجره بحجَّة توفير النفقات. هذه المضايقات في ظاهرها تظهرُ مدى ضحالة الثقافة الاستهلاكيَّة عند هاريسون، وابنه وموظفيه، في مواجهة جماليَّات الفن والتصميم عند لاسلو.

إنَّ ضريبةَ صمودِ وإباءِ لاسلو في مواجهة تحاملِ من حوله تجعلُه ينزلقُ إلى إدمان المخدرات، فتظهرُ أعراضُه بوضوحٍ في انفعاله، وعصبيَّته وعجزه الجنسي، لتصبحَ انعكاسًا صارخًا لحالته. حتى زوجته كانت تجدُ صعوبةً في فهمه؛ فعندما تطلَّعت إلى تصميمِ مخطَّط دار العبادة الذي يعملُ عليه، أثار استغرابها ضيقُ المساحات وارتفاع السقف. لكنَّه يعبُّر لها عن فلسفته المعمارية، التي وُلدت من معاناته في معسكرات الاعتقال، بجملةٍ واحدةٍ تلخِّصُ رؤيته: "من الداخل عليكِ بالتطلع لأعلى".

تحملُ هذه الجملةُ معنى ضمنيًا لا يتَّضح إلا مع انتهاء الأحداث والاحتفاء بأعماله، وهوَ صدى نجده في رؤية المعماري البولندي اليهودي دانييل ليبسكيند (Daniel Libeskind) عند تصميمِه للمتحفِ اليهوديِّ في برلين. ففي مساحاته الفارغة ونهاياته المسدودة، والتي لا يتسلَّل إليها سوى القليل من الضوء، يقدم ليبسكيند لفتةً رمزيَّةً تتيحُ لزوَّار المتحف تجربةَ الإحساس الذي عاشه الشعبُ اليهوديُّ خلال الحربِ العالميَّة الثانية. فحتى في أحلكِ اللحظات، عندما يبدو أنَّه لا مفرَّ من العذاب، يكفي بصيصٌ من الضوء كي يُبعَثَ الأملُ من جديد.

وسرديَّة المعاناة في الفيلم ليست تقليديَّة، أي من حيث ضرورتها لأجلِ تحقيقِ النجاح، إلَّا أنَّ الفيلم يشكِّكُ فيها لإظهار الجانب القاسي منها، كما لو كان هذا الرجل يتحمَّل ما يتحمَّله من أجل هدفٍ في نفسه: بناءُ هيكلٍ يجسِّدُ معاناته.

وكما استخلصَ عالمُ النفسِ اليهودي فيكتور فرانكل من معاناتِه في معسكرات النازيَّة فلسفةَ البحثِ عن معنى، نجد أنَّ لاسلو يجسِّدُ ذلك من خلال تجرُبته في تصميم مشروعِ دور العبادة لصالح فان بيورن. لم يتخلَّ عن المشروع حتى بعدَ تعرُّضه لانتهاكٍ جسيم، بل إنَّه ازدادَ إصرارًا على استكماله، ليصبحَ الهيكلُ الجديدُ شاهدًا – كما قال مسبقًا – على معاناته داخل بلاده تحت وطأة النازية، وخارجها عندما ظنَّ أنَّه نال حريَّته أخيرًا، وبهذا تُستَخدم المعاناة في الفيلم كأداةٍ لجعل شخصيَّته أكثر تأثيرًا.

ژوفيا ونداء القدر

يرتبط المفهوم الأوسع للقدرِ والمصير في حياة لاسلو بالهدف الأساسي لرحلة معاناته، وكذلك بشخصية ژوفيا. تتصدَّر ژوفيا، الشابة الصغيرة، المشهدَ في العديدِ من اللقطات؛ فهي أوَّلُ وجهٍ نراه في الفيلم وآخرُ وجهٍ تُختَتمُ الأحداثُ به، بينما نستمعُ إلى كلماتها أثناءَ تكريم خالِها على لسان ابنتها. تمثل ژوفيا الجيلَ الجديدَ الذي اختار ألَّا يخوض معاناةً عبثيَّةً كتلك التي عاشها لاسلو وزوجته، بل أدركت منذ البداية المسارَ الذي يلمِّح إليه الفيلم طوال الأحداث.

لا تنطِق ژوفيا بكلمةٍ واحدةٍ طوال القسم الأول من الفيلم، مما يتركُ تساؤلًا مفتوحًا: هل كان صمتها ناتجًا عن أهوال الاعتقال والحرب، أم أنَّه كان خيارًا واعيًا؟ لكن في القسم الثاني، وبعد نجاتها من مطامع هاري لي فان بيورن الدنيئة وحصولها على حياةٍ مستقرَّةٍ كزوجةٍ وأمٍّ مرتقبة، تنطقُ بأول كلماتها: «سنهاجر إلى إسرائيل، سننتقل إلى القدس، هذا واجبنا».

كانت تقدم للاسلو وزوجته خيار الهجرة، الذي قوبل بالرفضِ من طرفهما، وما يلي هذا الرفض لن يكون سوى امتدادًا لهذه المعاناة، وكأنَّ القدر يوجِّه لاسلو وزوجته نحو مصيرهما الحتمي في النهاية.

يتجلى الطريق كموتيفةٍ بصريَّةٍ مهيمنةٍ ومتكرِّرةٍ طوال الفيلم، بدءًا من وصول لاسلو على متن المركب، ثم ركوبه الحافلة التي تقوده إلى ابن عمه، وأخيرًا حين يستقلُّ السيارة التي توصله إلى منزل هاريسون. جميع هذه المسارات تبدأ تحت ضوء النهار الساطع، لكن تتسلَّل الظلمةُ تدريجيًا، فتتحوَّل الطرق إلى ممرَّاتٍ غامضةٍ تنذرُ بالمصير القادم. يتجلَّى ذلك بوضوحٍ عندما تتجوَّل الكاميرا داخل الممرَّات الحجريَّة لكهوفِ الرخام في إيطاليا، وكأنها تلمِّح لما سيحدثُ هناك، ثمَّ يبلغُ هذا التدرُّج البصريُّ ذروتَه مع الطريقِ المظلم الذي لا ينيرُه سوى المصباح الخافت لسيَّارة لاسلو أثناء شجاره مع زوجته. في تلك اللحظة، وسط انفعالاته المتصاعدة وتدهورِ حالته النفسية، يصرخ قائلًا: «إمَّا أن أكمل ذلك، وإلا فنحنُ هالكون». يصبح الظلام الذي يبتلع الطرقات تدريجيًا انعكاسًا لمصير لاسلو، وكأنَّه إشارةٌ حتميَّةٌ إلى أنَّ قبولَه بالرحيل لم يعد خيارًا، بل أمرًا لا مناص منه.

لم يكن لاسلو هو المتَّخذ لقرارِ الرحيل، بل جاءت المبادرة من زوجته إيرجيبت التي كانت الداعمة الأولى له منذ البداية، خاصة بعد اعترافه لها بما تعرَّض له من إساءةٍ على يد ربِّ عمله. وفي اللحظات التي تقتربُ فيها من الموت، تتجلَّى لها رؤية الرب، ويمنحُها الإذن بمخاطبته باسمه، وهو حدثٌ يحمل دلالاتٍ روحيَّةً عميقة. ففي التقاليد اليهودية، يُعدُّ اسم الله (يهوَه) مقدَّسًا للغاية، ولا يُنطَق به إلا في حالاتٍ استثنائية، ممَّا يجعلُ هذا المشهدَ مرتبطًا بالوحي والتجلي، بالقرب الإلهي والطهارة الروحية.

كان لصوت إيرجيبت حضورٌ محوريٌّ طوال الأحداث، حتى أثناءَ غيابِها خلال الفصل الأول. وعند ظهورها، أبرزت كبرياءً لا يقل عن كبرياء زوجها، إذ كانت محادثاتُها مع فان بيورن كاشفةً لزيفِ ادعاءاته حول اهتماماته الفنيَّة. لهذا جاءت المواجهة النهائيَّة، التي كان من المفترضِ حدوثها بين لاسلو وهاريسون لي فان بيورن بعد انتهاك عرض الأوَّل، أكثرَ قوَّةً عندما خاضتها إيرجيبت بنفسها. فقد كان هذا المشهد بمثابة انعكاسٍ لمشهدٍ سابق، مشهدُ تعرُّضِ زوجها للإهانة أمامها وأمام المدعوين، ليصبح ردُّها في النهاية معادِلًا دراميًا لاستعادة الكرامة والعدالة المفقودة.

وهكذا يصبح الرحيل أمرًا لا مفر منه، فيرضخُ لاسلو لرغبة إيرجيبت قائلًا: «سأتبعكِ إلى أي مكان». يتردَّد صدى هذه الكلمات توازيًا مع ما كتبته له في أوَّل خطابٍ أرسلتهُ فور وصولِه إلى أمريكا: «اذهب إلى أمريكا، وأنا سأتبعك»، مما يجعلُ هذه العائلة، التي كانت ترعى ژوفيا — الفتاة التي أدركت الطريقَ الصحيحَ منذ البداية — تسيرُ في النهاية نحو الوجهة ذاتها، بعد أن تجلَّى الربُّ للزوجةِ ومنحها الإذن بذكر اسمه، فتقرِّرُ اتباع هذا الصوت والعودة إلى ديارها الحقيقيَّة.

ما يضاعفُ وطأةَ المعاناة في هذا الفصل هو اختفاءُ هاريسون فان بيورن عقبَ افتضاحِ أمرِه أمام عائلته، وهو اختفاءٌ يحمل دلالاتٍ أعمقَ حول استمراريَّة مفهوم المعاناة في حياة لاسلو. لقد كان فان بيورن بمثابة الشيطان في هذه الحكاية، فهو المُستغِل الذي يُبيحُ لنفسِه أيَّ شيء، ولكن حتى بغيابه تظلُّ سرديَّة المعاناةِ قائمة، لأنَّ أمثاله لا يختفون تمامًا، بل يعيدُ التاريخُ إنتاجَهم بأشكال أخرى. هكذا يتجاوز فان بيورن كونه مجرَّد فردٍ ليصبِحَ رمزًا للاضطهاد والتعصُّب الأعمى ضد المهاجر اليهودي، مما يرسّخ فكرةَ أن المعاناة ليست مجرَّدَ تجربةٍ فرديَّة، بل قدرٌ ممتدٌّ عبرَ الأجيال.

صورة المعاناة في الفيلم

يبرز القرار الإبداعي للمخرج في استخدام تقنية عرض "الفيستا فيجِن"(VistaVision) (وهي نظامٌ لتصويرِ وعرضِ الأفلام طُوِّر من قَبِل شركة بارامونت بيكتشرز عام ١٩٥٤ كبديلٍ لتقنيَّات عرضٍ مثل "السينما سكوب" (CinemaScope)، وتتميَّز بجودةٍ أعلى ودقَّةٍ أفضل للصورة) - ليس فقط لأنَّها كانت مُستخدمةً في الحقبة الزمنيَّة التي تدور فيها أحداثُ الفيلم، كما أوضحَ بنفسه، ولكن أيضًا لأنَّها تلائمُ المساحات الشاسعة التي يستعرضُها الفيلم، خاصة في تصميمِ المباني.

إضافةً إلى ذلك، تعدُّ الفيستا فيجِن الخيارَ الأمثلَ لتصويرِ الملاحمِ السينمائيَّة، إذ لا تكمنُ أهميَّتها فقط في ارتباطها الزمني بتلك الفترة، بل في قدرتها على استعراضِ العلاقةِ بين الإنسان والمكان. يتجلَّى ذلك بوضوحٍ أثناء تجوُّل لاسلو في أروقةِ الكنيسة التي يعمل على تشييدها، حيث تتيح الشاشةُ العريضةُ إبراز التناقضِ بين المساحات الضيِّقة والأسقُف الشاهقة، إلى جانب الأسلوبِ المعماريِّ القاسي والمتقَشِّف الذي يعكسُ غربتَه ومعاناته، سواء في علاقتِه بزوجتِه أو في علاقته بذاته.

تكتملُ مأساوية لاسلو من خلال طبيعةِ الأماكن التي يقطنُها منذ لحظة وصوله. يبدأ حياتَه في مخزنٍ مُلحقٍ بمتجر ابن عمه، ثم يبيتُ في منازلِ الإيواء، رافضًا طلب العون من قومه حتى لا يبدو في هيئة المتسول، قبل أن يستقرَّ أخيرًا في ملحقٍ سكنيٍّ تابعٍ لمكان عمله مع فان بيورن. تُسهمُ هذه الفضاءات، إلى جانب أسلوب تصويرها المتقشِّف، في تجسيدِ معاناة لاسلو التي لا تُفرَض عليه، بل يرتضيها هو لنفسه، كأنَّها امتدادٌ طبيعيٌّ لمسيرته في الألم والحرمان.

تُساهم الخيارات الإبداعيَّة التي بُنيت عليها عمليَّة تحريرِ الفيلم في تعزيزِ الشعور بالعزلة وإضفاءِ لذعةٍ مريرة عليه، حيث يعتمدُ المخرج بشكلٍ مكثَّفٍ على تقنيَّة اللقطات المجمَّعة (photo montage)، إلى جانب القطع إلى لقطاتٍ مضافة (insert shots) داخلَ المَشاهد. كما يُستخدم الصوت الإخباريُّ لمصاحبةِ اللقطات المجمَّعة، ليمنح الفيلم طابعًا وثائقيًا يعزِّزُ مصداقيَّة الفترة الزمنية التي يتناولها.

إلا أن المفارقة المريرة تنشأ من التباين بين ما هو مسموعٌ وما هو مرئي، وعلاقته بالبطل. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يحدث في بداية الفيلم، عند تقديم المكان الذي يتَّجه إليه لاسلو، حيث يُعرَض مقطعٌ إخباريٌّ يتناول تاريخ ولاية بنسلفانيا، مشيدًا بتطورها، باحترامها للأديان ومكانتها كـ "أرض صناعةِ القرار" لأمريكا، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو حتى على مستوى النسيجِ الاجتماعي. لكن سرعان ما يتلاشى هذا الخطابُ الدعائيُّ أمام الصور التي تعقبه، الكاشفة لواقعٍ مختلفٍ تمامًا، حيثُ تبرز ملامحُ الفقر والتمييز العنصريِّ والديني، ويُعمّق التناقض بين السردِ الرسميِّ والحقائق التي يعيشها البطل.

يواصل المخرجُ استخدام أسلوبِ المونتاج نفسه لإبراز التناقضِ بين العقليَّة العمليَّة الأمريكية، والاستغلال الرأسمالي والرؤية الجماليَّة المعماريَّة لدى البطل. يتضح ذلك في المشهدِ الذي يُساوَم فيه لاسلو، حيث يُطلب منه بناء أربعة مبانٍ بدلًا من واحد، مقابلَ حصوله على رخصةِ مزاولة المهنة في المدينة.

هذا المشهد يأتي مباشرةً بعد مجموعةٍ من اللقطات الوثائقيَّة التي تستعرضُ طبيعةَ البنية السكنيَّة في بنسلفانيا، ما يسمحُ للمخرج بعقد مقارنةٍ بصريَّةٍ بين أنماط البناء المختلفة. ومن خلال اختيار اللقطات نلاحظُ التباينَ بين الأسلوب التقليديِّ المتبعِ في بناء المنازل والمتاجر، والبنية الخرسانيَّة ذات الواجهات الزجاجيَّة التي تهيمن على شركات فان بيورن، في مقابلِ التصاميمِ التي سيعرضها لاسلو لاحقًا، والتي تحملُ بعدًا جماليًّا ورؤيةً مختلفةً عن الفلسفة السائدة في العمارة التجاريَّة للمدينة.

أما اللقطاتُ المضافة فيستخدمُها المخرج داخل المَشاهد كتعليقٍ بصريٍّ على معاناة لاسلو في محاولته للتأقلمِ داخل المجتمع الجديد، كما يظهر في مشهدِ العشاء في منزل فان بيورن. يُقامُ هذا العشاء احتفاءً بتصميم لاسلو لمكتبة فان بيورن، وهو بمثابة تقديمٍ رسميٍّ له إلى الأوساط الراقية في المدينة. يقطعُ المخرج بين حديث لاسلو عن معاناته في بلاده وإدراكِه لتعصُّبِ المجتمع الأمريكي تجاه اليهود، وبين لقطاتٍ مقرَّبةٍ للمدعوين وهم يحتسون النبيذَ في كؤوسٍ كريستاليَّة، يداعبون مجوهراتهم الفاخرة، ويلقون الأموال أثناء لعبِ القمار. هذه اللقطات المضافة تمنحُ المشهدَ دلالةً ساخرة، حيث تُبرِزُ التناقضَ الصارخَ بين تجربة لاسلو القاسية ومحنة المهاجرين، وبين هذا العالم الذي تحكمُه الرفاهية الفارغة والاستعلاء الطبقي، وجهلهم بمعاناته.

يؤكِّد المخرج هذا التناقضَ بصريًا أيضًا في مشهدٍ آخر عندما يَعزِل لاسلو وزوجتَه في إطارٍ مستقل، خاصَّةً في مشهدِ الغداء الذي أُقيم احتفالًا بوصول الزوجة وژوفيا إلى الأراضي الأمريكيَّة. بذلك يضعهما في موضع يكونان فيه محلَّ تحديقٍ من الجميع، ليعكس اغترابَهما عن هذا المجتمع، إلَّا أنَّه في الوقت ذاته يُظهِر كبريائهما وصمودَهما كأنهما، رغم اختلافهما عن بقيَّة الحضور، يرفضان التماهي مع قيم هذا العالم الذي يرحِّب بهما ظاهريًا، لكنَّه لا يمنحهما القبول الحقيقي.

المعاناة مقابل الهدف

يصل الفيلم إلى ذروته الأيديولوجية عندما تنطق ژوفيا بالحقيقةِ التي تشكِّلُ جوهره، حيثُ يتحوَّلُ الدفاعُ عن الساميَّة المطروحِ فيه إلى دعايةٍ صهيونيَّةٍ مغلَّفة، حتى وإن بدا أنَّ لاسلو قد اندفع نحوها بغيرِ اختيار منه. هنا يصبحُ السؤال المطروح منذ بداية الفيلم حول "الوطن الحقيقي" محضَ تبريرٍ لمقولةٍ صهيونيَّةٍ مألوفة: إن الهدف هو المهم، وليس الرحلة.

تتقاطعُ هذه الإجابةُ مع رؤية لاسلو الخاصَّة للهندسة، حيث يرى أنَّ المعاناة لا معنى لها طالما أنَّ أعماله تبقى صامدة، متجاهلًا بذلك كلَّ الإهانات التي تعرَّض لها، وتاريخ النفي والاضطهادِ الذي يطاردُ أمثاله. هذه النبرة، التي تبدأ كقصيدةٍ ملحميَّةٍ عن صراعِ الإنسان مع الاغتراب والهُوية، تنتهي برسالةٍ مسمومة، قد يتحفَّظ البعض ضدَّها قبل المشاهدة، لكنَّها تُعرَض بمهارةٍ سينمائيَّةٍ تجعل من الصعب تجاهلها.

في النهاية، ورغم التحفُّظات على توجُّهات الفيلم الفكريَّة، لا يمكن إنكارُ مهارة المخرجِ في صياغةِ عملٍ بصريٍّ شديد الإحكام، مستعينًا بكلِّ أداةٍ متاحةٍ لصناعةِ ملحمةٍ دراميَّةٍ تتركُ أثرًا لا يُمحى. وهنا لا بدَّ من استعارة نصيحة الناقد محمود عبد الشكور في كتابه «كيف تشاهد فيلمًا سينمائيًا»:

«يجبُ أن تعرف أنَّ هناك فيلمَين يؤثران عليك: فيلمٌ داخليُّ يتمثَّلُ في كلِّ ما يدور بعقلك، وحالتك النفسيَّة والعاطفية، وفيلمٌ خارجيٌّ هو العمل الذي تشاهدُه على الشاشة. وكلَّما نجحتَ في تقليلِ تأثير الفيلم الداخلي، كانت ظروفُ استقبالك وتذوقك أفضلَ وأعمقَ للفيلم الخارجي!»

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى