يقدم المخرج التونسي مهدي البرصاوي مناقشة الراهن التونسي من خلال أفلامه، حيث يذكر انطلاقته في فيلم «بيك نعيش» 2019 من «حكاية بسيطة لعائلة تجد نفسها في مكان ما وفي توقيت سيئ، [واضعا إصبعه] على مسائلَ حساسة ومعقدة كالفساد والحريات، [مصوّرا] التناقضات المجتمعية العميقة في مرحلة ما بعد الثورة» في تونس، وبهذه الخلطة حصد البرصاوي الجوائز من عدة مهرجانات، وكسب التقدير من خلال تعريف المشاهدين على تونس عبر الأفلام التي أصبحت وسائل العصر الحديث الأكثر بلاغة. ويأتي البرصاوي هذا العام بفيلم «عايشة» 2024 بعد أن تم اختياره بوصفه أفضل فيلم شرق أوسطيّ من أكاديميّة الفنون الجميلة في مهرجان «فينيسيا» السّينمائيّ لهذا العام؛ ليكون منافسا قويا ضمن مسابقة الأفلام الطويلة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وقد تزين الفيلم بوجود شعار «CineWaves Films» كمنتج مشارك، وحقق نتائج جيدة من قبل، مُنبئًا بالمزيد في الأيام المقبلة.
تعقيد الحكاية
يصبح التعقيد أحيانا موطن جذب؛ متى ما كان مجدولا في ضفيرة لا تحيد عن خط سير الحكاية، فأي فيلم في وقته المحدود يُلزم نفسه بخطٍ وهمي يسير عليه، ويصحب معه مشاهدي الفيلم في رحلة معروفة الزمان والمكان.
يركز مهدي البرصاوي حكايته -افتراضًا- منذ العنوان بكلمة لــ«اسم علم» أو «حال»: (عايشة)، في شخصية واحدة، وهذا ما يجعل المشاهد يفترض الاحتمالين، «الشخصية» أو «الحال» المُنبئ عن العيشة فقط، ولذلك لا غرابة من تفتيش المشاهد في بداية الفيلم عن «عايشة» دون أن يجدها! بينما يجد «آية» (فاطمة صفر) التي تنفرد بصورتها على أفيش الفيلم، ويعلم أنها هي البطلة ابتداء، ويترقب الدهشة التي لا تكون بحجم الإخفاء ما دامت مُعلَنة منذ العتبة الأولى في عنوان الفيلم.
تبدأ القصة بـ «آية» فتاة تعمل في فندق، وتُستغل جنسيا من أجل سفرها لتونس العاصمة وزواجها من مديرها، وهذا الوعد لا يأتي، كما هي كل الوعود التي تجيء قبل العلاقة، وترحل بعدها!
بُنيت شخصية البطلة على درجة من القلق والتباين، فـ «آية» تسلّم نفسها حينا، وترفض ذلك حينا آخر، وتمتلك سذاجة القرية، ودهاء المدينة، ومسئولية تحمّل والديها، والفرار من بين أيديهم، بعد أن ضمنت تسلمهم لمبلغ يكفيهم، بناءً على تأمين حياتها من الفندق، وسيل من التناقضات في شخصية واحدة!
هذا التعقيد والتركيب جيد ومُحفّز، وقد نتفق أو نختلف على قبول ذلك في نفسٍ بشرية تحتمل كل شيء؛ غير أن الأمر -دراميا- يضعُف بتشتت الحكايات وتوالدها، من بعد وقوع أكبر صدفة في الفيلم، عند ركوب سيدة في الباص رفقتهم، ثم إعلان وفاتها، وتحشيد القضايا، كما صرّح بذلك المخرج من قبل، ليأتي الكشف عن فساد الشرطة، وضعف النظام، والاستغلال الجنسي، وإخفاء الأدلة، وتسلط المسئولين، وضياع حقوق الأبرياء.
سلسلة ممتدة من القضايا -في فيلم واحد- تُضعف تواصل المشاهدين مع الرسالة الرئيسة، وتحد من التعاطف مع شخصيات الفيلم المبنية على التضاد، فلكل شخصية ضدها، من تسلط الأم وسلبية الأب، واستغلال الصديقة الحديثة، وتعاطف مالكة المخبز، وطيبة المحقق، وغش رئيسة الشرطة، وغيرها من القصص التي تتوالد على هذا المنوال في التضاد، ويسهم، في تهَلهُلِها، كونها وليدة الصدف في الطرق الفرعية من الحكاية الرئيسة.
التعاطف
لا شك أن القصة جاذبة للانتباه ابتداء من السطر التعريفي للفيلم. وأغرب القصص ما كان متصلا بالواقع، لأن الواقع أشد غرابة مما نراه، وتظل محاولة نقل الواقع ضربا من التشتيت إذا ما اصطبغ بدراما تتعدد فيها الخطوط السردية، لأن هذا التعدد يفضي إلى ضعف التركيز على القصة الرئيسة، ويقود إلى خلق مزيد من الشخصيات.
هذا التعدد في الفيلم يأتي من منطلق ممارسة قسوة ما على بطلة الفيلم تتزايد أكثر فأكثر كل مرة، من أجل الإيغال في تعذيبها، وتوجيه مزيد من التعنيف إليها في كل خطوة تخطوها، وهذا ما تسبب في وميض تشتت الانتباه، والإحساس بأن الفيلم مزدحم بالأحداث؛ لأن وجود عدد كبير من القصص الفرعية جعل الفيلم يتشظى، وهذا التشظي يؤثر على تجربة المشاهدة بشكل سلبي، وخاصة في فيلم يتجاوز الساعتين، ولا يبدأ في لملمة الحكاية إلا عند الختام.
الخاتمة جاءت لجَدْلِ ضَفائر ما تم نكثه، وحل ألغاز الحكاية في الفصلين الأولين، والخُلوص إلى النهاية بكشف سر البداية بعد أن خَفَت بريق الدهشة بكثرة الأحداث، وتعدد الشخصيات، وكثرة مرور العابرين لأداء واجبات ومهام صغيرة وقصيرة، كان من الممكن القفز عليها دون أي تأثير يذكر على سياق الفيلم، في محاولةٍ للتخلص من الصُّدف بصدف مشابهة مثل مجيء والدي آية عن طريق من شاهدها في المحل، وزرع مشهد تلو آخر، في سلسلة متتابعة من المشاهد لتعرية شخصية آية أمام من احتضنتها في المخبز.
إن التعاطف مع آية، أو أميرة، أو عايشة لا يحتاج إلى هذا التحشيد في تعذيبها، فيكفي ما أُجبرت على تحمّله من مسئولية منذ بلوغها الرابعة عشرة من عمرها، وتكفلها بوالديها، وخيبة رجائها مع مديرها، وفقدانها لعذريتها التي تبحث عن ترقيعها، ولكن كيف لها أن ترقّع سمعتها التي صارت نهبًا لصُويحباتها، اللواتي يُلمّحن بمعرفتهن لمستجدات ما سيحدث، دون أن تعلم هي بشيء؟ فـ «آية» دمية للاستغلال كلما جاء المدير للفندق، من أجل تعويض غيابه عن زوجته بلعبة مؤقتة وقليل من العبث، ولا تتجاوز تكلفة هذا العبث سوى وعودٍ تتجدد كل عام مقابل امتياز عدم الاستغناء عنها أثناء التسريح!
النفور
هذا التعاطف الذي نمّاه مهدي البرصاوي -مخرجا وكاتبا- فقد شيئا من تماسكه بعد ضياع آية في تونس العاصمة، ونزولها عند من قبلت بها دون أوراق ثبوتية، واستغلتها لأغراض لا تتجاوز ما مارسته من قبل، فكثرة التطورات المتعاقبة على وتيرة واحدة -دون أن تحمل قدرا أكبر من الإدهاش- تُضعف عادة تركيز القصة وتعقيد الحبكة، مما يضع التطور العاطفي لدى المشاهدين مع البطلة في حالة سبات، ولا يُوقِظ هذا السبات إلا مُبرر سردي قوي يشفع بحدوث ما نشاهده، وهذا ما لم يأتِ، لأسبابٍ تم إيرادها على لسان المخرج في مطلع هذه المراجعة.
نعم هذا ما تفرضه كثرة القضايا المُراد الزجُّ بها، من فساد الشرطة في عنوان قضية الفيلم الكبرى، وتمرير القصة الرئيسة التي كانت بوصلة الفيلم، لتدور في دولاب الأحداث، فتأتي بقضية أخ المحقق المقتول، وبناء قصة على قصة، وحدث على آخر، وهكذا مواصلا سرد القصص الثانوية على قارعة الطريق في رحلة البحث عن عايشة.
ختاما
يظل فيلم «عايشة» واحدا من الأفلام الأكثر حظا ونصيبا، بما يمتلكه من أداءٍ رائعٍ للممثلة «فاطمة صفر»، واللقطات الناطقة بالشارع التونسي، والنكهة الخاصة التي تمتاز بها أفلام مهدي البرصاوي التي لمستها أكثر بعد مشاهدتي لهذا الفيلم، فهذه النكهة والبصمة الفارقة هي ما تنشده المهرجانات، ويطلبه الجمهور لمعرفة واكتشاف بلادٍ لم يزرها، لأن الأفلام -ببساطة- رحلاتٌ مجانية لا تتطلب منك سوى تذكرة مشاهدة الفيلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش