في النكبة المستمرة للشعب والأرض، لم يكن أمام الفلسطيني سوى المقاومة، فإن الفلسطيني -كما يشرح التاريخ- ليس مجرد ظاهرة بسيطة، فهو أكبر من الأرض بالتأكيد، والأرض هي اتساعه الفعلي ووجوده الفعال. لمن لا يعرف أبو صالح الذي قاتل الإنجليز واليهود، قائد فصيل حطين، لمن لا يعرف شيئًا عن تمثيله الواعي على الأرض، فإن أبو صالح ليس فردًا، ولكنه حالةٌ، ووجودٌ مستمر للمناضل الفلاح الذي عرف العز والكرامة في نضاله الطويل مع الاستعمار الإنجليزي في البداية، ومع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بعد ذلك. ذلك الرجل، الذي يظن أنه يفقد هامته وصلاحيته بعد انتهاء الصراع المسلح مع العدو، يكبر حجمه في كل مرة يحمل فيها السلاح، يكبر إيمانه بحقه أو «حكِه» بالدارجة الفلسطينية، لم يحارب الإنجليز فحسب، بل حارب فكرة التقسيم الطبقي في المجتمع الفلسطيني آنذاك، فهو المناضل الفلاح، الذي يعود فلاحًا بعد أن ينتهي الصراع المسلح؛ لذلك كان يقول لأخيه بعد أن رفض أن يعود إلى القرية بعد انتهاء ثورة فلسطين الكبرى: «أنا لقيت روحي بالثورة، كنت أحارب اليهود والإنجليز، على قد ما كنت أحاربهم وانتصر عليهم، كُنت أحارب حالتنا الأولى، وأنتصر عليها، الثورة كانت حمولتي، اللي صارت أكبر من كل الحمايل، الثورة كانت عزوتي، اللي صارت أكبر من كل العزوات، وكيف بدي هسه أرجع لحالتنا الأولى؟ كيف بدي أرمي البارودة؟». هذا الرجل لم يكن سوى تمثيلٍ للثائر الحقيقي، الذي لم يفقد الهدف ولكنه ولم يحقق النصر، وبقيت الأمور عنده معلقة.
هذا التنقل المرن الذي مارسه كلٌ من الكاتب وليد سيف، والمخرج حاتم علي في مسلسل «التغريبة الفلسطينية» (2004)، مثَّل واقعًا معقدًا، فهو يدور في سياق طبقة الفلاحين ذات الأغلبية في المجتمع الفلسطيني آنذاك، حول الحالة الأكثر انتشارًا وهي الأسرة الفلاحية الفقيرة، فلم يكن من السهل البدء من هناك، فإن تلك العائلة المقطوعة -التي تملك مساحة صغيرة من الأرض تفقد وجودها في الامتداد العام للقرية- تصبح طبقة مسحوقة، خفية، منبوذة. من هنا يبدأ الأمر في التشكل، ومنه تبدأ تغريبة الفلسطيني.
تبتدئ تغريبة فلسطين في التغريب والنبذ الذي يقع على الفلاحين بعمومهم، والفقراء غير أصحاب الأملاك خصوصًا، فإن عائلة أبو أحمد خانيونس، هي عائلة فلاحية صغيرة، تتكون من نسيج متنوعٍ من النفسيات، ورغم حالة النبذ التي تعيشها في القرية، فإن جيل الأبناء يؤمن بوعي تام بقيمته، وحقه، رغم ما يتلقاه من نبذ وعدم قبول من سادة القرية خصوصًا.
ورغم اتساع مصطلح «التغريبة الفلسطينية» فإن له خصوصية، فكل فرد من أفراد عائلة أبو أحمد يعيش تغريبته الخاصة، فرغم اشتراكهم الأولي في تغريبتهم الأولى الناتجة عن النبذ والفقر، فإن كُلاً منهم كان يملك بُعده المعنوي الخاص، ومعاناته الخالصة، فأبو صالح الذي عاش غربة مضاعفة لأنه القائد الثائر المحارب، الذي لم يرضَ بالذل، لم يكن من السهل أن يتعايش مع الخسارة، ولم يكن من المنطقي بالنسبة إليه أن يتخلى عن الأرض، ولكن أي أرض تلك؟ لم تكن أرض القرية فقط، بل كل فلسطين، فيغترب أبو صالح قبل النكبة، حيث يبدأ اغترابه الشخصي منذ انتهاء الثورة، فيعيش اغترابه عن ذاته وعن واقعه المثقل بالهزيمة التي تسببت بها نهاية الثورة الفلسطينية المفتوحة، ومن ثم يغترب ككل الناس في النكبة، وفي اغترابته هذه شيء شخصي يحمله مثقلاً، كشظايا الرصاص التي أصابته وبقيت في صدره، مسببة له الوجع، ورغم اغترابه عن الواقع مسبقًا فإنه لا يقبل أن يغترب بعد النكبة، فيعيش الواقع كما هو، ويقبله من دون تسليم ومن دون أن ينسى.
وتُعَدُّ تغريبة حسن ذات أثر راكز على التغريبة الشخصية للعائلة، فحسن -«ذلك الفتى النبيل»- كانت تغريبته مبكرة، حيث أراد حسن أن يتعلم ولكن الفقر والعمر وقفا في طريقه، في حين استطاع أخوه علي أن يذهب إلى مدرسة المدينة، حين حرمت وزارة المعارف حسن من ذلك لأن سنه غير مناسب، وهذه تغريبة كان لها أثر عليه وعلى أخيه علي بعد ذلك؛ لذلك يقول لأخيه أبو صالح بعد ذلك: «أنا مت من يوم ما ركّبت علي على الحمار وأخذته على مدرسة المدينة، وتركتوني وراكم». وتغرَّبَ تغريبته الكبرى بعد أن قُتلت حبيبته جميلة، الفتاة النقية التي أحبها، وأحبته، ووقف سيل من العادات والأعذار أمامهما، حتى قُتلت باسم العرض والشرف، وانتهت تغريبة حسن عندما قرر أن يقاتل من أجل أرضه، فاحتضنته الأرض في انتمائه الأخير، ووجوده الثابت، فلم يعرف حسن صورة المخيم، ولم يسكن الخيمة. كان حسن نقيًا وصادقًا في حبه للأرض، فلم ترغب أن تخذله، فدُفن فيها شهيدًا، ولكن استشهاده ضاعف من تغريبة أفراد عائلته، وإحساسهم الدائم بالذنب، كأن حياتهم أصبحت أخذًا من حق حسن.
هذه الصور المتماسكة التي تُعنى بالإنسان الفلسطيني المكافح المناضل، الذي ترتكز عليه الأرض، هي ما تجعل الأرض تنفر من اغترابها، محاولة أن تلفظ الاحتلال الذي تشكل بالوحشية وصناعة التغريب لكل شيء فيها، ففي الواقع تدخل الأرض في حالة اغتراب أيضًا لما يفعله المستعمر الأوروبي من غربنة لا تشبهها، فترفضه من خلال الفدائيين الذين يحكي عنهم غسان كنفاني: «هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين.. هي تخلف وفلسطين تأخذ».
يعرض المسلسل منظر النكبة، مستحضرًا صورة المفتاح بوعي للتأكيد على حق العودة، فرمزية المفتاح مرتبطة على نحو كبير بالأرض، كما تقول رضوى عاشور في روايتها «الطنطورية»: «أغلب نساء المخيم يحملن مفاتيح دورهن تمامًا كما كانت تفعل أمي. البعض كان يريه لي وهو يحكي عن القرية التي جاء منها. وأحيانًا كنت ألمح طرف الحبل الذي يحيط بالرقبة وإن لم أر المفتاح، وأحيانًا لا ألمحه ولا تشير إليه السيدة ولكنني أعرف أنه هناك، تحت الثوب»، فمن يحمل مفتاحًا فهو يملك أرضًا، هي حقه، وحقه ليس قابلاً لأن يُساوَم عليه، ومن ثم ينتقل إلى تعميم الشخوص، وتخصيصها، فكل المهجرين يحملون همًا خاصًا يبعدهم عن المأساة، وكلهم يعيشون ذهولاً بحجم ما حصل لدرجة تبعدهم عن استيعابه، كما يروي علي: «أما في ذلك الحين، وفي غمرة التفاصيل الشخصية المفزعة التي خلقتها الظروف المتجسدة، كان الذهول هو الحالة السائدة، ذهول الدوامة التي تحتويك تمامًا، وتشل وعيك حتى لا تستطيع أن تقدر حدود ما أنت فيه». وتكبر النكبة مع المخيم، بعض الناس يدرك حجم ما حصل ويعون النكبة، وبعضهم يضل في حالة ذهوله، فتعميه الذاكرة، ويصدمه الواقع كما حدث مع أبو أحمد الذي رفض المخيم، وأعماه حزنه الشديد عن الواقع، ولم يكن ذلك الوضع دائمًا لدى ذلك الجيل من الفلسطينيين، فهو مؤقت، حتى تستقر الأوضاع، كما قال مريد البرغوثي في سيرته «رأيت رام الله»: «في نكبة ١٩٤٨ لجأ اللاجئون إلى البلدان المجاورة كترتيب "مؤقت".. تركوا طبيخهم على النار آملين العودة بعد ساعات!.. انتشروا في الخيام ومخيمات الزنك والصفيح والقش "مؤقتًا". حمل الفدائيون السلاح وحاربوا من عمّان "مؤقتًا" ثم من بيروت "مؤقتًا" ثم أقاموا في تونس والشام "مؤقتًا". وضعنا برامج مرحلية للتحرير "مؤقتًا" وقالوا لنا إنهم قبلوا اتفاقية أوسلو "مؤقتًا".. إلخ إلخ. قال كل منا لنفسه ولغيره إلى أن تتضح الامور».
تستمر التغريبة بكل ما فيها من مآسٍ، فكم من سكان غزة مغربون ومهجرون من بلداتهم في فلسطين عمومًا، فهم يعيشون تغريبة أخرى، تبعدهم عن فلسطين وتُقربهم إلى النكبة الأولى، وفي ذلك يقول مريد البرغوثي: «موتانا ما زالوا في مقابر الآخرين، وأحياؤنا ما زالوا عالقين على حدود الآخرين». ولكن التاريخ يعيد صنعه المناضلون، يعيدون رسم حدوده، ورسم حدود العالم أجمع، فإن الاحتلال مسألة وقتية، ملعونة وكارثية، و«مؤقتة» في ظل استمرار النضال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش