اعتمدت رسومات عصر النّهضة على تقنية المنظور التّشكيلي. استندت الرسومات إلى قياسات رياضية وهندسية لتمثيل
الأجسام والأشكال، فكانت تنقلها إلى اللّوحة بدقة تلتقط كلّ جزئيات العنصر الموصوف وتهتمّ بتفاصيله حتى كأننا نراه في
الواقع تبعًا لبعدنا عنه، وتعطينا انطباعًا بأننا نرى المشهد من خلال نافذة تنفتح على العالم وفق تشبيه ألبرتي ذائع الصّيت.
ولكن في القرن الثّامن عشر، تم اختراع آلة التّصوير الفوتوغرافي التي تنقل أدقّ تفاصيل العالم الخارجي آليًا، وظهرت
تيارات فنية مناكفة للواقعية الطامحة إلى تشخيص العالم الخارجي عبر تقنية المنظور، وطُرح التّساؤل حول مدى صلة
الفنّ عمومًا والفنّ التّشكيلي خصوصًا بالقدرة على نقل عناصر العالم الخارجي، وكانت الانطباعية منطلق التّمرّد ضد
عقلانيّة عصور النّهضة على المستوى التّشكيلي، فقد أخذ رسّاموها يسجّلون انطباعاتهم عن الطبيعة مباشرةً دون الاهتمام
بالدّقة أو التّفاصيل المميزة لرسوم معاصريهم، واعتمدوا طاقة الألوان للإيحاء بالعمق وبالأبعاد والهيئات والأشكال 1 ،
فعوّلوا على ضربات الفرشاة المجزّأة وخرجوا من المراسم إلى الطبيعة والشّوارع، ثم تفرّعت إلى اتجاهات عديدة منها
تيار ما بعد الانطباعية، وكان «فان غوغ» والتّكعيبية التي قادها «بابلو بيكاسو».
مثّلت التّعبيريّة المروق الثّاني الكبير على المنظور، فظهرت أولًا عام 1905 بظهور مجموعة Die Brucke التي
تهتم بمختلف الفنون، وكانت ردّة فعل ضد تيار الانطباعية الذي خلف الرّسم المنظوري في نهاية القرن التّاسع عشر،
ولخّصت طموحها في الوصول إلى «فنّ يمنح شكلًا للتجربة التي نعيشها في أعماق الذّات» وفق تعريفها من قِبَل
«هيروارث والدن» Herwald Walden مدير المجلة الفنية الطليعية «دير شتورم» (العاصفة)، في عام 1910 2
، وكانت الفكرة التي تجمعهم هي مناهضة المحاكاة «العاجزة عن خلق الفن»، فما يجب أن يُرسم ليس ما نراه في العالم،
فذلك عنصر زائف لا يتضمّن حقيقة الإنسان ومشاعره، وإنما ما يخلقه هذا الخارج فينا. وعليه، فالتّعبيرية ليست أسلوبًا
وإنما رؤيةً للعالم. ومن منطلق هذه الخلفيات، ثارت على المحاكاة التي اعتبرتها عاجزة عن خلق الفنّ ورأت أن
الانطباعية ابتدعت أساليب جديدة لهذه المحاكاة لا أكثر، وهكذا قدّمت نفسها لا باعتبارها أسلوبًا أو تقنية، وإنّما رؤيةً للعالم
وصرخةً ثائرةً ضدّ مصادرات الرّسم الكلاسيكي والانطباعي في آن.
بدأت خصائص الرّسم التّعبيري تتجسّد من خلال تجربة الرّسام الألماني «فرنز مارك» الذي ابتكر أسلوبًا يجعل للألوان
دلالات تعبّر عن القوى الحيوية للإنسان، فعبّر بالأزرق عن الزّهد وعن كل ما هو روحاني في الإنسان، ووجد في
الأصفر الأنثويَّ النّاعم والجميلَ والحسيَّ، وفي الأحمر عنفَ المادة التي تُسلط على اللونين السّابقين، ثم غيّر من هيئة
الأشكال وجعلها تتفاعل مع الألوان، وكان يستهدف الكثافة الدّلالية. وكانت التّعبيرية -المدفوعة برفضها للمحاكاة في
التّجارب الواقعية أو الانطباعية- ترفض الاعتراف بالحقيقة الموضوعية للعالم، وترى أن الحقيقة الحقّ تظهر على سطح
التّجربة الدّاخلية للفنان وفي ما يعيشه من الفوضى والقلق والخوف ومن الحيرة والارتباك إزاء تعدد الحقائق. ولهذا كلّه
كانت تطمح إلى تشكيل الواقع من منطلق تصوّر الشّخصيّة البؤرويّة وعالمها وتبحث عن الحقيقة في عالمها
الباطني الذاتي.
ولكن كيف لفنّ بصري لا يلتقط من الأشياء والكائنات غير صورتها الخارجية أن ينفُذ إلى هذه الحقيقة الباطنية؟ جعلت
التّعبيرية من الكنايات والمجاز سبيلها إلى ذلك، فلم تكن تُشخّص الفضاء الخارجي وهي ترسمه على اللّوحة، وإنما تُحوّله
إلى تجسيد للذّهني المجرّد وللاعتمالات النّفسيّة التي يعيشها الكائن، فاشتملت رسوماتها على نِسَب التّباين المرتفعة بين
الأضواء والتّعرجات والنّتوءات والخطوط المنكسرة والزوايا الحادّة التي تحرّف الفضاء وتشوّهه، وكانت عبر هذا
الأسلوب تعبّر عن الأحلام والهلوسات والكوابيس وعالم الجنون، وعبرها كانت تعمل على نقل هذه الرّؤية القلقة إلى
المتقبّل.
بعد أن انتقلت الرّؤية التّعبيرية من الفنون التّشكيلية إلى الأدب والمسرح، وصلت سنة 1920 إلى السّينما، وسَعَت إلى
تحويلها إلى موضوع فنّي وإلى وسيلة تعبير تنقل تصوّراتها إلى المتفرّجين بعد أن كانت تطردها من حضرته -في
صيغتها النّمطية- وتعتبرها وسيلة للتّسلية لا أكثر، فمن البديهي أن تحررها من شروط الحبكة التّقليدية حتّى تكون قادرة
على تصوير العالم المتشذّر الفاقد لتوازنه وعلى التّعبير عن أزمة إنسان العصر الحديث وفق رؤية الفنان التّعبيري.
ولأسلوبها الخاصّ المتعلّق بتحريف العالم الخارجي وعدم الاعتراف بحقيقته الموضوعية، اعتمدت الكاميرا الثّابتة خاصّة،
فالمشهد عندها لوحةٌ تشكيلية ذات تركيب بصري محدّد هو نتاج للتفّاعل بين جسد الممثّل والفضاء بما يشمل من إضاءة
وديكورات وماكياج. فضلًا عن ذلك، كثيرًا ما كانت تعوّل على الخداع البصري كأن تفتعل الظّلال من خلال طلاء
الألوان الرمادية حتى تمنحها التّحريفات التي لا ينتجها الانعكاس الآلي النّاتج عن الإضاءة، وتحريك الكاميرا إذَن سيغيّر
من حاصل هذا التّركيب بلا شك وسيؤثر في مقروئية المشهد بالنّتيجة، فمثّلت العلاقة بين التّعبيرية والسّينما شكلًا من
أشكال التّبادل التّعاوني، فمَنَح البُعدُ التّشكيلي للأفلام أساليبَ جديدة في التّعبير، وبالمقابل منحت حركةُ الشّخصيات -بما
هي موضوعات تشكيلية- الفنّانَ التّعبيري القدرة على الانتقال الحر بين الحلم واليقظة وبين الشّعور واللاشعور، وخوّلت
له التّعبير عن الصّراع النّفسي الذي تعيشه شخصياته المسكونة بالقلق، وهو قلق يعيشه المبدع ذاته نتيجةً لتحولات ما بعد
الحرب العالمية الأولى في ألمانيا خاصّة، فكان الحرمان النّفسي والنّسيان الصّادم والخوف من موضوعاتها الأثيرة، وكان
الغموض والغرابة يغلبان على أحداثها.
يُعدّ فيلم «عيادة الطبيب كاليغاري» (1920) للمخرج «روبار واين» أول الأفلام التّعبيرية، ويروي قصّة
«كاليغاري»، مديرِ مصحةٍ عقلية بالقرب من مدينة هولستنفال، خوّل له ابتكاره لطريقة خاصة في التّنويم المغناطيسي أن
يسيطر نفسيًا على الشّاب المنوَّم «سيزار» وأن يتحكّم في ردود أفعاله، فسخّره لارتكاب سلسلة من الجرائم بالوكالة عنه.
ومن بين ضحاياه -فضلًا عن كاتب البلدة الّذي رفض السّماح له بتقديم عرضه على الملأ- خطيبة «فرانسيس جان» التي
تعرّضت لمحاولة خطف.
وينجح «فرانسيس» في كشف حقيقة مدير المستشفى، فيُحبس في إحدى الحجرات بعد أن تظهر للعموم أمارات الجنون
التي كان يخفيها. ولكن الفيلم الذي يسرد «فرانسيس» حكايته عبر تقنية الارتداد أساسًا، ينتهي إلى عملية جدْل (twist)
تخدع المتقبل وتتلاعب به وتقلب مسار الأحداث كلّيًا، فنكتشف أنّنا كنّا نتقبّل الحكاية من منطلق إدراك «فرانسيس» الذي
يعاني من مس وأن «كاليغاري» سليم، فيعود الطّبيب إلى سالف عمله ويودع «فرانسيس» في حجرة من حجرات
المصحّة ويعمل «كاليغاري» على مساعدته لتجاوز محنته. بيّن إذن أن الفيلم يطرح السّؤال حول الحدود الفاصلة بين
العقل والجنون، وهي التّيمة الأثيرة للمدرسة التّعبيرية.
غلبت على الفيلم:
● اللّقطات المتوسطة التي تعرض الشّخصية والفضاء معًا وتوجه انتباهنا إلى القراءة الحركية وإلى التّفاعل بين
الشّخصية والفضاء (التّنويم المغناطيسي، السّيطرة على الشّخصيات، الجرائم المرتكبة)، فلم يخلُ تشكيل المشاهد
من القوة والعنف.
● اللّقطات الكبيرة أو الكبيرة جدًا التي تعرض الملامح الشّخصية وتأخذنا إلى القراءة الوجدانية وتثير فضولنا حول
ما يجول في باطنها من أفكار ومشاعر، وهذا ما تعمل عليه الرّؤية التّعبيرية كما كنّا قد رأينا.
ولكنّ هذا الاختيار الثّاني أسهم في إظهار تكلّف أداء الممثّلين، وهي تلك المبالغة التي وسمت التّمثيل الفيلمي في النّصف
الأول من القرن العشرين عامّةً، بفعل عدم تحرّر السّينما إلى حينها من مخلفات تأثرها بالفن المسرحي.
لقد كان «روبار واين» يعالج الصّورة على اعتبارها نحتًا، فلم تخلُ الدّيكورات -التي استعان المخرج في ضبطها بثلاثة
رسامين تعبيريين- من النّتوءات والتّحريفات والتّباين الشّديد بين المضيء والمعتّم، ومثّل هذا الاختيار سبيله لإبراز
التّحولات الشّعورية والرّوحية التي تعيشها شخصياته.
ضمن هذا الأفق عبّر الفيلم، بما بني عليه من رعب و مشاهد قتل و جنون، عمّا عرفته ألمانيا بعد الحرب العالميّة الأولى
من تحوّلات سياسيّة و اقتصاديّة، فقد كان على جمهوريّة فايمار أن تقاوم أتباع النّظام الملكي في ظل عجز اقتصاديّ خانق
نتيجةً لحدّة الدّيون المفروضة عليها جرّاء معاهدة فرساي، وكانت أجواء الخوف والتّوتر والقلق والشّعور بفقدان الكرامة
الوطنية تغلب على الألمان بعد الهزيمة. لذلك، كان الفيلم يجسّد عبر قصّته ضعف المواطن الألماني الّذي يصيبه الجنون
جرّاء محاولة اجتثاث السّلطة السّياسيّة.
أنتجت التعبيرية أفلامًا عديدة بعد «عيادة الطبيب كاليغاري» منها «من الصّباح حتى منتصف الليل» 3 (1920) لكارل
هانز مارتن و«الأضواء الثلاثة» (أو «الموت المتعب») 4 (1921) لفريتز لانغ و«ظل» 5 (1923) لأرتير
روبيزون و«الرّجل الأخير» 6 (1924) لفريدريش فيلهلم مورناو و«أم الملعون» 7 (1931) لفرتز لانغ، ولكن مع
صعود الحزب النّازي، مُنعت الفنون التي عُدّت مائعةً تشجع على الانحلال، فهاجر التّعبيريون إلى الولايات المتحدة
خاصّةً. ورغم تفكّك هذا التّيار، لم يضمحل تمامًا، فقد ظهرت مكوناتٌ منه في أفلام الرّعب وفي الفيلم الأسود البوليسي 8 ،
وأشهر لقطات فيلم «ذهان» (1960) لهيتشكوك -الحمام- على سبيل المثال، هو إعادة لمشهد محاولة قتل «سيزار»
لـ«جان» من فيلم «عيادة الطبيب كاليغاري» إلى حدّ بعيد، وإلى اليوم تُعتمد تقنياته في توظيف التّباين بين المعتّم
والمضيء للتّعبير البصري عما تعيشه الشّخصيات من الاعتمالات النّفسية، ولكنها باتت من التّقنيات المبذولة التي قد يجهل
مستعملها منابتها الفنية الأولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1 يرتبط هذا الاتّجاه بعلم الألوان، ومداره على أنّ الألوان الحارّة توحي بالقرب وأنّ الألوان الباردة توحي بالأبعاد وتمنح الأشياء
المرسومة أشكالها، فممّا اكتشفه «إسحاق نيوتن» أنّ الأضواء تشتغل وفق موجات كهرومغناطيسية ذات ذبذبات قصيرة أو طويلة وأنّ
العين تدرك الموجات التي تقع بين 400 و800 نانومتر، والألوان الحارة قريبة من 800 نانومتر، أمّا الألوان الباردة فقريبة من 400
نانومتر.
2 Marie-Bénédicte Vincent, Anne-Laure Anizan, Raphaëlle Branche, Véronique Harel,
Hélène Bourguignon: Images et sons, In Vingtième Siècle. Revue d'histoire 2007/2 (no
94), page 257.
3 Von Morgens bis Mitternacht
4 Der müde Tod
5 Schatten
6 Der letzte Mann
7 M – Eine Stadt sucht einen Mörder
8 على «المستوى الفنّي فقد أثّر التعبيريون الألمان بإضاءتهم النيّرة والمعتمة وزوايا النّظر المحرّفة وديكوراتهم الرّمزية التأثير
الأبرز في جمالية الفيلم الأسود». Alain Silver et James Ursini, Taschen, Paris 2004, P11