الزمان، ربيع عام 1997 وتحديدًا خلال انعقاد دورة ذلك العام من مهرجان «كان» السينمائي في الجنوب الشرقي الفرنسي. كانت الدورة الخمسينية التي مُنح فيها السينمائي المصري الكبير يوسف شاهين سعفة الخمسينية الذهبية عن مجمل إنتاجه السينمائي بالتزامن مع عرض فيلمه «المصير» (1997) ضمن المسابقة الرسمية.
المكان، صالة السينما الرئيسة التي كانت تعرض «المصير» بحضور شاهين وفريق فيلمه وعدد من السينمائيين والنقاد الأصدقاء. ولا شك أنه كان بين الحضور يومها مخرج من أصل تشيلي يعيش في قرطبة الأندلسية وكان مهتمًا بالعرض بصورة استثنائية، من ناحيةٍ لأن أحداث «المصير» تدور في المدينة الإسبانية التي يعيش فيها ولكن قبل زماننا بألف عام تقريبًا، وثانيًا لأنه كان مهتمًا بكون يوسف شاهين نفسه من أهل الإسكندرية في مصر وربما كان يود أن يعرف لماذا بدلًا من العودة إلى حكاية الفيلسوف الأندلسي ابن رشد في فيلمه، لم يُقْدِم على العودة نحو ألفي عام إلى الوراء لتصوير حكاية فلسفية مشابهة كانت الإسكندرية بمدرستها الشهيرة ميدانها.
ما كان يفكر فيه ذلك المخرج الذي يعيش في قرطبة كان فيلمًا عن حياة فيلسوفة مكتبة الإسكندرية هيباتيا، ابنة العالِم الموقر وأستاذ الفلسفة في المدرسة الإسكندرانية «ثيون». والغريب في الأمر أن أليخاندرو آمينابار -وذلك هو اسمه- الذي كان يحمل منذ سنوات، بين مشروعاته السينمائية الأكثر إلحاحًا، مشروعًا عن هيباتيا، سيدهشه ما لاحظه وهو يشاهد «المصير»، من ذلك التشابه بين مشروعه ومشروع الفيلم الشاهيني، بل ذلك التقابل بين المشروعين، كما لو أن كلًا منهما كان مرآةً تعكس الآخر في صدفة لافتة.
ولسنا ندري طبعًا ما إذا كان قد حصل لقاء بين شاهين وآمينابار في ذلك الحين، لكننا نعرف الجواب عن السؤال الذي افترضنا أول هذه السطور أن المخرج ذا الأصل التشيلي كان بودّه أن يطرحه على السينمائي العربي الكبير ذي الأصل الشامي والهوى والهوية المصريين. والجواب يتعلق بحكاية تعود نحو عقد ونيف من السنين سبق تحقيق «المصير»، ففي ذلك الحين كان كاتب هذه السطور قد نشر في صحيفة «الحياة» مقالًا مطولًا حول «هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية»، وبعد أيام قليلة من ظهور المقال اتصل بي يوسف شاهين متسائلًا عما إذا كان لديّ مزيد من المعلومات عن تلك الفيلسوفة الإسكندرانية، إذ إن قراءته للمقال فتحت شهيته على تحقيق فيلم عنها، كما قال. وبالفعل ما إن مرت أيام حتى جمعتُ له عددًا من الوثائق والدراسات بعثتُ بها إليه وقد استثار الأمر حماسي. وهو بالمناسبة نفس ما كنت سأفعله بعد حين، حين سألني الراحل توفيق صالح أن أوفيه بكل ما يمكنني توفيره من مقالات ودراسات عن.. ابن رشد. وكان صالح يفكر في الوقت نفسه بمشروع فيلم عن فيلسوف قرطبة العربي الكبير.
طبعًا لعبت لعبة «الكراسي الموسيقية» كالعادة دورها، فشاهين توقف عن الحديث عن مشروعه عن هيباتيا ليخبرنا لاحقًا أنه قد «نُصح» بعدم الدنو من تلك الفكرة «في الوقت الحالي على الأقل». وفي المقابل تراجع توفيق صالح عن مشروعه المتعلق بابن رشد والذي كان شاهين يستعد لإنتاجه بنفسه عن طريق شركته «مصر العالمية» وبدعم فرنسي تؤمنه شركة الراحل أومبير بالزان بمساندة من وزير الثقافة الفرنسية في ذلك الحين جاك لانغ. وانتهى الأمر بعد انتظار شاهيني طويل وإلحاح منه بأن أقدم شاهين بنفسه على إخراج فيلم ابن رشد، فيما طوى النسيان مشروع هيباتيا حتى عاد ورأى النور فعلًا في عام 2009 ولكن بإخراج بديع وميزانية ضخمة ومن تحقيق آمينابار نفسه الذي لا شك أن الفكرة قد تعززت لديه من خلال مشاهدته «المصير» فيلم شاهين الكبير عن.. ابن رشد.
بالنسبة إلى موضوعنا هنا، يتوقف التدخل الشخصي في هذه الحكاية، إذًا، مع ذلك العام العربي الكبير في «كان»، وهو عام لا بد دائمًا من وضعه في البال لأنه ومن خلال عرض «المصير» وتكريم يوسف شاهين فيه، كان عامًا عربيًا مدهشًا. أما بقية الحكاية فتتعلق بتلك «المرآة» التي شكلها تقابُل الفيلمين، مرآة مدهشة تحمل كثيرًا من التقابلات التي لا يمكن أن تكون من فعل الصدفة. ونحن لئن كنا نعرف حكاية ابن رشد كما تُروى في «المصير» وتتعلق بمرحلة من حياة ذلك الفيلسوف وعلاقته بسلطان متنور وصراعه ضد المتطرفين والاضطهاد الذي تعرض له، وصولًا إلى إحراق كتبه ومحاولة اغتيال الظلاميين له، وفقدانه الحظوة لدى السلطات حين تبدلت السياسات وما إلى ذلك، فإن ما لا بد لنا منه إنما هو إلى حكاية هيباتيا، كما قدمها آمينابار في فيلمه «آغورا» الذي عُرض عام 2009، خارج المسابقة الرسمية، في مهرجان «كان».
ولعل أول ما يمكن قوله عن هذا الفيلم، هو أن النتيجة أتت مفاجئة، عصرية، قوية. وتكاد تكون ترجمة حرفية، ليس لحياة هيباتيا فحسب، بل لفكرها في مرحلة ما قبل الدخول الإسلامي إلى مصر، ويتناول بالتحديد وبصيغة روائية بالغة القوة والعمق، حكاية هيباتيا وحكاية مكتبة الإسكندرية، بين أمور أخرى عديدة يقولها، مبرزًا أن العرب المسلمين لم يكونوا هم مَن أحرق المكتبة ودمرها، فهي مُحيت قبل ذلك بكثير، بيد التعصب الديني بخاصة، الذي يأتي فيلم «آغورا» ليقول إنه وباء لا دين له ولا فكر، ويكاد يكون بلا وجه.
هذا التأكيد يبدأ مع العنوان الذي اختاره آمينابار (صاحب «افتحوا عيونكم» و«الآخرون») لفيلمه: «آغورا»، وهي كلمة إغريقية تعني، في آن معًا، الساحة العامة، والجمهور الذي يُقاد كالخراف خلف أي خطيب مفوه، أو خلف أي مالك لإيديولوجيا يبثها وسط ذلك الجمهور. ونعرف، سيكولوجيًا، أن من هذه الكلمة اشتُق مصطلح «آغورافوبيا» الذي يعني «رهاب الجموع». ولن يكون خروجًا عن الموضوع أن نقول إن الفيلم يترجم حرفيًا -أيضًا- هذا المصطلح، ما يجعله يتسم بتلك الحداثة التي تظهره واضعًا الإصبع على الجروح العميقة لأيامنا الحاضرة.
تجري أحداث الفيلم نحو القرنين الميلاديين الرابع والخامس، في الإسكندرية في مصر حيث كان العلماء والفلاسفة، من ورثة الفكر اليوناني، قد أقاموا حضارة فكرية لا مثيل لها، جاعلين من المكتبة مدرسةً ومختبرًا ومركز بحث علمي، يهتم بالتقدم والتطور الفكري، من دون أن يكون مهتمًا أول الأمر بمعرفة إيمان العاملين فيه أو الطلاب. ومن بين علماء المكتبة كانت هيباتيا، الحسناء التي اختارت الفلسفة العملية وتدريسها لطلابها، هدفًا لحياتها، تحت رعاية أبيها المفكر المبجل تيون.
كان ثمة انسجام داخل المكتبة التي كانت تعيش في عزلة عما حولها. أما ما حولها فكان بدايات المسيحية، وتهديدها اليهودية، وصراع الاثنتين مع أديان الآلهة القديمة، لكن الأمر تبدل بعدما كان الصراع يتخذ أول الأمر طابع السجال الحاد في «الساحة العامة» غير بعيد من المكتبة. ولكن، ذات يوم، يتبدل ذلك كله، ويبدأ الصراع الدموي ينذر بالخطر ليرينا بسرعة آثار الصراع: خوف طرف من آخر، يدفع الجموع، بتحريض قادتهم ولا سيما رجال الدين المتنوعين، إلى التدافع ضد بعضهم بعضًا. تبدأ الكراهية بوصفها واجهة للتعصب الديني والطائفي. وعلى الرغم من أن الأديان تنادي، مبدئيًا، بعكس ما يحصل، تهجم الجموع على الجموع، وتهجم على المكتبة تحرقها وتدمرها وتطرد علماءها بمن فيهم هيباتيا. أما طلاب هذه الأخيرة، فينقسمون بدورهم، مسيحيين ويهودًا ووثنيين وما إلى ذلك. ومن بينهم اثنان مغرمان بالعالمة، سرعان ما يصبح واحد منهما أداة في يد «المسيحيين» الطالعين بقوة، والثاني حاكمًا للمدينة لانتهازيته. أما بقية الحكاية فتتأرجح بين هيباتيا وعاشقيها السابقين، حتى اللحظة التي يُحكم عليها بأنها ساحرة، لأنها ابتكرت نظريات علمية لن تعرفها البشرية إلا بعد اثني عشر قرنًا من ذلك على يد كيبلر وتكون النتيجة أن تُعدم هيباتيا على يد أحد عاشقيها من دون أن يتمكن حبيبها الآخر الحاكم من إنقاذها لانتهازيته، في حين يجنبها حبيبها الآخر القتل رجمًا إذ يخنقها بيديه.
في النهاية، ما لدينا هنا فيلمان يتكاملان ويتشابهان في موضوعيهما على نحو مدهش، يتوزعان بين مدينتين ومخرجين: الإسكندراني يحقق فيلمًا عن فيلسوف قرطبة، وابن قرطبة يحقق فيلمًا عن فيلسوفة الإسكندرية. وهما معًا وكلٌ على طريقته، يخوضان المعركة نفسها مع القوى نفسها التي تريد اغتيال العقل. والحقيقة أن في مقدورنا العثور على عشرات التفاصيل الأخرى لنصل في آخر المطاف إلى دور للسينما غير متوقع يبرز من هذين الفيلمين ويصل إلينا من غياهب التاريخ متحدثًا وبقوة مدهشة، عن زمننا الحاضر.. زمننا الذي لا يزال «حيًا» للأسف، ولكن بوصفه استمرارًا لذلك الماضي الذي لا يريد أن يمضي. وحسنًا تفعل السينما حين تركز أضواءها عليه بوصفه فعلًا راهنًا وليس فقط حكايةً من حكايات تاريخ متحفي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش