جعلنا نظام الاستوديو مدخلنا للحديث عن السّينما الأمريكية لتقديرنا أنّه يسعفنا بفكرة أشمل عن منظومة الإنتاج السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك نقدّر أنه ليس من الهيّن اختزال مسار هذه السينما في كلماتنا القليلة أو في عرض الأنساق التي تنظمها والعناصر التي تميّزها التي يقتضيها سياق التأليف، فإنتاجاتها ضخمة وتأثيرها، عبر تاريخها الطويل، عميق. لذلك لم نشأ أن نعنون عملنا بسينما هوليوود وإن كانت ستستأثر بعامة اهتمامنا، لأننا سنشير إلى مؤسسات غيرها. ولم نشر إلى نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر منذ اختراع إديسون للكيناتوسكوب 1Kinétoscope، فهذا المدخل سيفتح باب السّجال غير المجدي حول نسبة ابتكار السّينما للأمريكيين أو الفرنسيين. ورغم أن مدخلنا يقصي السّينما المستقلة أو السّرية اللتين توازيان هذه المنظومة، فإننا اعتمدناه لأنّنا سنتعرض إلى هاتين الحركتين عند دراستنا للسّينما المستقلة لاحقًا.
1- نظام الاستوديو: منظومة إنتاج متكاملة
تُعتبر الصّناعة السّينمائية الأمريكية الأكثر انتشارًا في العالم والأكثر تأثيرًا في المتفرّج، فهي تمثل منظومة إنتاج متكاملة نشأت أساسًا بمدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بداية من سنة 1910، وكانت هذه الصناعة قد تشكّلت حول استوديوهات هوليوود بعد أن انتقلت إليها شركات صغيرة كثيرة هربًا من هيمنة شركة إديسون على إنتاج الأفلام وتوزيعها في الولايات المتحدة الأمريكية، فأسّست نظامًا يعمل بشكل رأسي، فيتولّى إعداد الفيلم من البداية حتى مرحلة التوزيع والعرض، وفرضت «نظام الممثّلين النجوم»، فخلق كل استوديو نجومه الخاصين واستقدم بعضهم من المسرح ليكفلوا استدراج الجمهور إلى القاعات السّينمائية، ثم بدأت ملامحها الفنية تتشكّل شيئًا فشيئًا، فاقترضت من التراجيديا حبكتها القائمة على بناء هرمي، ونوّعت في موضوعاتها، فاتجهت إلى الأدب واقتبست منه الروايات الشعبية والتاريخية، وجعلت أفلام الحركة والإثارة في مقدمة موضوعاتها وعوّلت على مختلَف أساليب الدعاية لتسويقها، واهتمت بالقصّة القادرة على شد المتفرّج. وظلّ الإخراج في المقام الثاني، فكان المخرج ينفّذ رؤية شركة الإنتاج وينسّق العمل مع محترفين في الاختصاصات المختلفة، فيتعاون الجميع لخلق المؤثرات القادرة على انتزاع المتفرّج من واقعه عبر خلق الإدهاش والحلم ضمن تصوّر يجعل من السّينما فنًّا للتسلية يبحث عن استقطاب الجماهير العريضة. وفي بداية العشرينيات أمكن لهذه السينما التي تعتمد نظام إنتاج مكلف وتحقّق بالمقابل الإيرادات المالية الضخمة، أن تكتسح السّوق الأوروبية وأن تهيمن على نظام الإنتاج السينمائي العالمي رغم مقاومة أوروبا لهذا المد حمايةً لصناعتها السينمائية.
ولم يكن جميع المخرجين يخضعون لهذه المنظومة، فقد عَرفت السّينما الأمريكية على مدار تاريخها سينمائيين متمردين يضيقون باختياراتها وبأنماط الإنتاج فيها ويحاولون الخروج عن معهود أفلامها لابتكار أسلوبهم الفريد في السّرد. ولعل أورسن ويلز مخرج رائعة «المواطن كين» (1941) التي تُعتبر الفيلم الأفضل في تاريخ السينما، أن يكون أشهر هؤلاء. أما في راهننا فتُعتبر أفلام مايك ميلز الأكثر ضيقًا بهذه المنظومة، فتحاول أن تبحث عن أسلوبها المميّز، ونَخُصّ بالذكر منها فيلم «أرواحنا الطّفولية».
2- صناعة التّسلية فخًّا لتسريب الإيديولوجيا
على خلاف بقية الفنون تمثّل السّينما عنوانًا للتّقاطع بين الفن والصناعة والاستثمار، فانتماؤها إلى الفنّ يحوّلها إلى أداة للتّعبير ويجعل من الأثر السّينمائي وجهة نظرٍ ما جمالية ودلالية في الآنِ نفسه، وانتماؤها إلى الصّناعة والاستثمار يدفعها نحو البحث عن الإيرادات وجني الأرباح. ومختلف المؤشرات الحافّة بالسّينما الأمريكية تؤكد أنها فن جماهيري يستهدف الترفيه بامتياز ودون إسفاف، ولكن عند البحث الرّصين في أنساقها الكامنة وفي خلفياتها الفكرية غير المعلنة نكتشف أنّ فن التّسلية لم يكن يُعتمد للتسلية في حقيقة الأمر، فحالما بدأت الولايات المتحدة تتسيّد العالم وتشكّل قوتها العظمى في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي انخرطت في الترويج للحلم الأمريكي بأنه يمثل «حياة أفضل وأكثر ثراءً وسعادة»، الشعار الذي استُخدم أول مرة من قِبل جيمس تروسلو آدامز في كتابه «ملحمة أمريكا» (1931)، وأسهمت مؤسسات عديدة في نشره، وكان لها دور مركزي في تكريسه2.
لقد كانت هذه السّينما منذ بداياتها واجهة دعاية للنظام الأمريكي ولقِيَمه3، فبعيدًا عن هذه المؤشرات المخادعة تشكّلت هوية السّينما الأمريكيّة إيديولوجيّةً بالأساس، فكانت تعمل على أن تجعل من مختلَف التّعبيرات الثّقافيّة تنويعًا على الأصل الغربي الأمريكيّ المهيمن، ومن ثم كانت تمجّد أسلوب الحياة الأمريكي، رغم بعض النّقد الذي لا يلامس جوهرها، وتحتفي بتفوق الرّجل الأميركي (الأبيض أساس) فتنشر ثقافته في العالم وتحث متفرّجها على تبني شكل إقامته في الوجود.
3- السينما والآخر المنبوذ
يمثل الآخر كلّ مختلِف عنّا وغير متماثل معنا. ومن اختلافه هذا نشكّل هويتنا ونجعل من عناصر التّضاد في كينونته المختلفة عاملاً مساعدًا على الوعي بذواتنا، فيأخذ الطفل في إدراك هويته الجندرية وهو يحاكي والده ويتباين مع سلوك شقيقته التي تحاكي سلوك أمها، ولسُمرته يعرّف نفسه بأنه أسود من أصل إفريقي مثلاً لأنه ليس الأبيض أو الملوّن إلخ.. والأمر نفسه يتعلّق بالهوية في مستواها الحضاري والديني أو الاقتصادي والاجتماعي.. وتفرض علينا فلسفة العيش معًا قبوله باعتباره هوية مختلفة، ولكنّ هذه السّينما المتمركزة حول ذاتها كثيرًا ما تميل إلى تشويهه وهي تمثّله على شاشاتها. وحتى يتسنى لنا التّبسط في هذه الفكرة آثرنا أن نعرض شيئًا من صورة الآخر المختلف حضاريًا فيها، فأشرنا إلى صورة العربي على شاشات هوليوود.. أو المختلف عرقيًا، فأشرنا إلى صورة الأسود من أصل إفريقي.
أ- صورة العربي: الفظّ المتعطّش للدماء
بقدر ما تضخّم هذه السّينما من صورة الأمريكي من أصول يهودية أو مسيحية وتبالغ في تمجيدها بنرجسية فجّة، تمعن في تشويه العربي المسلم المختلف حضاريًا وعقائديًا، فتورده متوحشًا ومهووسًا جنسيًا، أو فظًا متعطّشًا للحروب والدّماء، أو إرهابيًا، أو متحيّلاً وقاطع طريق، وتجعله بدويًا ساذجًا لا يوقّر المرأة ولا يرى فيها غير موضوع للجنس. يقول جاك شاهين في ذلك: «توقّف وتبصّر صور العرب في بَكَرات الأفلام، فماذا ترى: شخوصًا بلِحَىً سوداء وأغطية على الرّأس ونظارات سوداء وفى الخلفية سترى سيارات الليموزين، والحريم وآبار البترول والجمال أو ربما كان يُخفي أسلحة أوتوماتيكية وهوس الكراهية يطلّ من عينيه وكلمة الله على شفتيه. فهل تستطيع أن تراه؟
«فكّر في الأمر: متى كانت آخر مرة شاهدت فيها فيلمًا يقدّم صورةً لعربي أو أمريكي من أصل عربي بوصفه شخصًا عاديًا مثل بقية النّاس، رجلاً ربما يعمل عشر ساعات في اليوم، ويعود إلى بيتِه وزوجتِه المحبة له وأسرتِه، ويلعب الكرة مع أطفاله، ويصلّي مع أفراد عائلته في جامع محترم أو كنيسة محترمة؟ إنه نوع من الرّجال تحب أن يكون هو الشخص الذي يسكن في المنزل المجاور لك، والسّبب أنه يشبهك إلى حد ما»4. ويجد حسن عطية في فيلم «مجمل كل المخاوف» (2002) للمخرج فيل ألدن روبنسون (Phil Alden Robinson) أنموذجًا لتعاطي هذه السّينما مع صورة العربي المسلم: «فمع حملات التشويه المتعمدة للعرب وعقيدتهم الدينية "الإسلام"، غزت الولايات المتحدة الأمريكية العالم بفيلم سينمائي، هو أحد أسلحتها الفنّية والإعلامية للتّسلل إلى نفسية وعقلية المشاهدين البسطاء [خصوصًا]، والذين يمثلون الركيزة الأولى لكل مجتمع إنساني، ما [إن] تتخلخل هذه الركيزة، حتى يبدأ المجتمع في التّداعي والانهيار، حتى ولو امتلك أعتى الأجهزة والأسلحة التكنولوجية»5.
ب- صورة الأمريكي من أصل إفريقي: مغتصب النساء المهووس جنسيًا
ولم يكن حظ الأمريكي ذي الأصول الإفريقية باعتباره آخرَ مقارنة بذاك الوافد من أوروبا، أفضل من العربي المسلم، فقد مُدح فيلم «مولد أمة» كثيرًا وعُدّ ثورة في السّرد السينمائي، ولكن هذا التميّز الشّكلي ارتبط بانحطاط قيمي، فظهوره كان إعلانًا لولادة سينما عنصرية تمجّد الأبيض وتحتفي بقتل الأسود، فقد جعل غريفث الزنجيَّ مهووسًا جنسيًا يتعقب النساء البيض لاغتصابهنّ، ومنح حركة «كو كلوكس كلان» العنصرية الحق في ملاحقته وتصفيته جسديًا دون أي أساس قانوني. وجعله فيلم «ملك الزومبي» (1941) للمخرج جون ياربروه جبانًا على نحو مضحك وغير إنساني.
ينتهي ناقد السينما الأمريكية والمؤرخ إلفيس ميتشل إلى صياغة قاعدة تنسحب على مختلف مشاهدها، فإذا رأيت الممثل الأبيض يتأنق في ارتداء ملابسه فتوقع أنه سيذهب إلى حفلة وسيستمتع بملذات الحياة، أما إذا رأيت الممثل الأسمر يلبس ربطة العنق، فاعلم أنه يذهب إلى العمل في مطعم أو ما شابه6. ولا يتعلّق الأمر بالشّاشة الكبيرة فحسب، فنظام الفصل العنصري الصّارم في الولايات المتحدة الأمريكية كان يحرم السّود من مشاهدة الأفلام أيضًا، فلم تكن توجد مسارح خاصّة بهم تقريبًا، باستثناء مسرح أو مسرحين، ولا تُعرض فيهما إلاّ الأفلام القديمة التي ظهرت منذ سنتين أو ثلاث. ويشمل الفصل البُعد الرّمزي، فلا أثرَ لهذا الأسود في أفلام رعاة البقر أو أفلام المغامرات مثلاً، رغم أنّه يمثّل مكوّنًا مهمًا في المجتمع الأمريكي، فالمتفرّج يشاهد الفيلم ويتفاعل معه ولكنه يُصدم في منتصفه حينما يكتشف غياب الممثلين السّود، فلا وجودَ فيه لأدوار لهم ولا حضورَ لمشاغلهم، ذلك أنّ هذا العالم الموازي الذي يخلقه الخيال يقوم بعملية «تطهير» تُقصي العرق الأسود، فقد ظهرت أفلام روائية لمخرجين سود في أربعينيات القرن الماضي، ولكن المفارقة السّاخرة أنّه لم يُتح لأصحابها حضور عرضها في هوليوود بحكم الفصل العنصري الذي ذكرناه سابقًا، ومن المخرجين الذين مُنعوا من مواكبة عروض أفلامهم بسبب عرقهم الأسود باول ليندسي وأوسكار ميتشو وبيل أليكساندو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. هو جهاز عرض من اختراع الأمريكي توماس إديسون (Thomas Edison 1888) يمكّن المُشاهد الواحد من متابعة عرض صور تتعاقب لفترة وجيزة، تحاكي الحركة في العالم الخارجي، وإليه تُنسب تسمية السينما بصندوق الدنيا أو صندوق العجب.
2. يؤكّد خطاب إريك جونستون رئيس الجمعية الأمريكية للسينما سنة 1946 أمام جمعية كُتّاب السيناريو (شوماك) ما نزعم. فقد ورد فيه: «"لن يكون لدينا المزيد من عناقيد الغضب، ولن يكون لدينا المزيد من طرق التبغ، ولن يكون لدينا المزيد من الأفلام التي تتناول الجانب السيئ من الحياة الأمريكية". فالأمر، بالنسبة إلى رئيس MPPA، يتعلق بإخفاء أي صورة من المحتمل أن تسهم في تدهور الأمة الأمريكية، والبشرية جمعاء بالتبعية. أليست أمريكا مختار الله ومهمتها قيادة العالم"» SCHUMACH, Murray. 1964. The Face on the Cutting Room Floor. The Story of Movie and Television Censorship. New York :Morrow.P 129.
3. يشير نوربار (Norbert Multeau) إلى ظهور هذا التحالف بين البيت الأبيض وسينما هوليوود منذ أن قدّم الجيش الأمريكي مساعدته اللوجيستيكيّة لتصوير فيلم غريفث (W. Griffith) «مولد أمة» The Birth of a Nation فـ«منذ هذا الفيلم أضحى التاريخ الأمريكي، يكتب في أفلام هوليود التّخييليّة، بحيث تعكس الإيديولوجيا هذا الوطن» Norbert Multeau, Quand la guerre est un spectacle, in Le Cinéma et la guerre, direction assurée avec Hervé Coutau-Bégarie, Paris, Commission Française d’Histoire Militaire, Institut de Stratégie Comparée, Economica, 2006 P 147.
4. جاك شاهين: الصورة الشريرة للعرب في السينما الأمريكية، الجزء الأول "A-F" ترجمة خيرية البشلاوى، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة 2013، صص 13-14.
5. حسن عطية: السينما في مرآة الوعي، سلسلة آفاق السينما عدد 33، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الشركة الدولية للطباعة 2003.
6. إلفيس ميتشل في فيلم «هل تجد هذا الزنجي أسود كفاية؟» (2022) ?!?Is That Black Enough for You .