مقالات

السينما فن جماهيري؟

«أما الجمهور فينتهك جميع هذه التمييزات العددية فهو واحد وكثير ومثل هذا الخداع عمل شيطاني».
-مايكل هارت وأنطونيو نيغري

مقدمة:

إن العلاقة بين قيمة ضرب من ضروب الفن وبين ارتباطه بالجمهور قديمة جدًا، أي أن فنًا ما يُبخس حقه لأنه ببساطة فن جماهيري، لذلك يقول أرسطو في كتابه "فن الشعر": «ورُبّ سائل يقول أيُ وسيلتَي المحاكاة أجدر بالتفضيل: الملحمة أَم التراجيديا؟ فإذا كان الفن الأقل سوقية وشعبية هو الأفضل وأن هذا الأقل سوقية وشعبية هو الذي يجذب دائمًا مشاهدين من نوع أرقى فقد اتضح أن الفن الذي يتوجه إلى الكل وإلى أي إنسان هو الأقل شأنًا» لذلك السؤال هنا ببساطة: هل الجمهور -كما يصفهم عادةً الفلاسفة وغيرهم- يتصفون بالسذاجة والحمق؟ بل هل دلالة لفظ الجمهور هي ذاتها دائمًا وأبدًا، أم أنها متغيرة على مر العصور؟ هل جمهور عصر الصورة والتواصلية الرقمية هو ذاته جمهور عصر التراجيديا اليونانية؟ في هذه المقالة سوف أنتصر للذكاء الجماهيري سواءً كان ما قبل عصر التقنية أو بعده، والتشديد على عصرنا الحالي بلا شك.
مُنطلقًا ومُتخدًا من مفهوم الحس المشترك طريقًا نحو فهم تعقيد البنية الجماهيرية مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف عصرنا، وتحديدًا ما أسميه التواصلية الرقمية، والتي ساعدت في نشوء فضاء قيم غير عادي، فالجوال الذي يضعه الكادح في جيبه يحوي تاريخ العالم بأسره، فهل بعد ذلك يحق لنا أن نتكلم عن سذاجة الجماهير كما لو كنا نعيش في عصرٍ يحتكر المعرفة على طبقة بعينها دون الآخرين؟ ثم بعد ذلك سوف أتطرق إلى تعبير يرتبط أيضًا بالجماهير، هو المتعة أو التسلية، حيث نعلم أن كثيرًا من الفلاسفة والمنظرين بعامة يستهجنون الفعل لغرض المتعة فحسب، بل لا بد -بزعمهم- من وضع رسالة أخلاقية سامية، أو -كما يقال- الاعتناء بالأعمال الجادة، وكأن المرح والضحك والمتعة لأجل المتعة خطيئة لا تُغتفر.
لن أذكر هنا ذلك السؤال الشهير الذي يرتبط بسؤال مقالتنا -هل السينما فن؟- لأنه يكفي لتمهيد طريق الإجابة على هذا السؤال نقدُ تعبيرَي الجمهور والتسلية، هذا فضلًا عن أن هذا السؤال يغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن الفن ذاته لم يعد شيئًا مدركًا بذاته حتى يمكن لنا بكل سهولة تعيين ما هو داخله وما ينبغي عليه الخروج منه، وهذا اللاتحديد في ماهية الفن يُعد قيمة ثرية وخصبة، ويجب المحافظة عليها. بمعنى آخر، جزء من جمالية الشيء يكمن في لاكماله، ومن ثم علينا أن نتخلى عن تلك الأحلام الطوباوية التي تنادي بالتعريفات الجامعة المانعة. في نهاية المطاف، قد تكون السينما هي الفن الذي أثبت -بجدارة- قدرة الجماهير على الحكم الجمالي، وعليه، فهي فن جماهيري وليس في ذلك مثلبة.

الجمهور وعبقرية الحس المشترك:

هناك عدة طُرق للولوج داخل بنية الوعي الجماهيري، فمثلًا من خلال علم الاجتماع أو السيكولوجيا وغير ذلك من ضروب المعارف، إلا أننا هنا سوف نتخذ من الفلسفة تحديدًا سبيلنا نحو فهم هذا السؤال جيدًا، ومن ثم تلّمُس الإجابة عليه. في القرن العشرين سجلنا ما صار يُسمى المنعرج اللغوي في الفلسفة، وهذا يعني أن الفلسفة لم تعد تكترث بطريقة مباشرة بمباحث الوجود والجمال والأخلاق، فهذه كلها تقع على عاتق العلم، إلا أن مهمة الفلسفة هنا التحليل اللغوي، وهذا ما فتح بابًا متسعًا نحو فهم اللغة والكلام، وكما هو معتاد في تاريخ الأفكار ستنقسم الفلسفات في رؤيتها للغة ما بين رؤى ترفع من شأن ما هو يومي -أي الكلام العادي، والذي غالبًا لا يكون باللغة الفصيحة أو القديمة- وبين فلسفات ترى وجوب وضع لغة دقيقة مثالية لأن اللغة اليومية مليئة بالمغالطات. تبنّى "فيتغنشتيان" في مرحلتين من مسيرته كلا الاتجاهين، وكذلك "جورج مور" الذي دافع عن الفهم المشترك بوصفه أنه هو من يعبّر عن الحقيقة، وهكذا صارت اللغة اليومية أكثر من كونها لغة عادية وساذجة، فحاصل هذه الرؤى هو أن المعضلات الكبرى تنشأ من الابتعاد عن اللغة اليومية، ومن ثم على الفلاسفة أن يتقيدوا بهذه اللغة، ومن جهة أخرى، إذا لم تكن المعضلات الكبرى ناشئة عن هذا الابتعاد، فإن القضايا الكبرى التي يفرح بها ما يطلقون على أنفسهم النخبة تنبع من هذه اللغة اليومية، ونجد هذا الموقف مثلًا عند "هايدغر".
النتيجة هنا هي أن الفهم المشترك أو الحس المشترك والعام ليس بهذه السذاجة التي نتصورها، وقد اتضح ذلك مع ظهور هذه الفلسفات التي حللت بنية هذه اللغة العادية، وتبين بعد ذلك أنها لغة في عمقها تحوي منطقًا أكثر تعقيدًا من المنطق الأرسطي وكذلك المنطق الهيغلي، بل لا أبالغ بالقول بأن هذه الأنظمة المنطقية لا تعدو كونها تبسيطًا مخلًا للمنطق العميق الذي يحدث فيما هو يومي، وعليه نستخلص نتيجة وحيدة وهي كافية في هذا المقام: اللغة اليومية تُظهر عمقًا لا يُسبر غوره، مما يجعلنا نعي بأن ظاهرة الجمهور أبعد ما تكون عن اللغة التبسيطية التي تحتكره داخل تعبيرات كالسذاجة والحمق، بل أكثر من ذلك عندما يطلق أحدهم لفظ "رعاع" وكأنه قد بلغ المنتهى في تفكيره وتفكره المطلق، على أننا لا نُغفل هنا التذكير بأن كل تلك الأحكام التي تُطلق على الجمهور تنطلق من مسلمات حول ماهية الحقيقة والأخلاق وغير ذلك، لذلك من الغريب أن يدّعي أحد بأن ما يراه هو حقًا مُلزَم على البقية، كما أنه ليس من الدقة أن نتحدث عن الجمهور بهذه الطريقة المجردة وكأنهم طبقة ذات قوانين ثابتة وأزلية.
إن تعبير "الجمهور" هو بلا شك مسح للفردية والتفرد، وعليه قد أثبت الحس المشترك مع ظهور هذه الفلسفات بأنه أكثر عبقرية مما كنا نتوقع، وختامًا أذكر هنا في مجالي علم الجمال منذ كانط تبين أن الجمهور يملك حسًا ذوقيًا يخوله للحكم على الجميل بما له من قدرات غريزية، لذلك يُعد كانط الذي وضع الخطوط الأساسية لعلم الجمال الحديث المنتصر الأول لعبقرية الجماهير، وذلك عندما أقر بقدرة الحس المشترك على الحكم الجمالي وإن كان بشيء من التحرج، لكن كل هذا ينقلنا لسؤال جوهري: هل ظاهرة الجمهور ثابتة على مر العصور أم هي كغيرها من الظواهر تتبدل بحسب تبدل المتغيرات عبر التاريخ؟

التقنية ونزع السحر عن العالم:

ليس من اليسير أن نحصر كل المتغيرات التي قادت إلى صورة الإنسانية كما هي عليها اليوم، إلا أن هناك ظاهرتان تُعدان -بحق- الأبرز، أو لنقُل إن هاتين الظاهرتين قد أسهمتا في تغيير البنية العميقة للجمهور، وأعني التقنية والانفتاح الكوني. إن جمهور اليوم ليس هو بأي حال من الأحوال جمهور القرون السالفة، بل إن هذه الظاهرة -أي الجمهور- لم تكن يومًا ثابتة على حالها، إلا أنني أحب أن أبدأ في أرخنة قوة التغيير التي حدثت للجماهير منذ عصر الطباعة، فنحن نعلم أن المعرفة قبل ذلك كانت حكرًا على طبقات محددة، ومع ظهور الطباعة بدأت ظاهرة ديمقراطية المعرفة، لكن هاجسنا هنا ليس تاريخيًا، ولذلك فإن عصرنا الحالي هو عصر التقنية والصورة وكذلك التواصلية الرقمية1.
إن التقنية ليست مجرد أداة نستعملها، بل هي ثقافة تخيم على حاضرنا، فمثلًا مع التقنية سادت رؤية طبيعانية للعالم، أي رؤية تعتقد بالعلم التجريبي وتؤمن بمنجزاته، ومن هنا عبّر "فيبر" عن ذلك بأنه نزع السحر عن العالم. مع التقنية لم يعد الجمهور كما كان، بل نحن أمام أفراد محترفين في استخدام هذه التقنية، وأمام جمهور يتلقى كافة المعلومات على الدوام، بل ويسعى من خلال محركات البحث إلى إيجاد إجابة لكل ما يشغله، فليس من الحكمة أن نتحدث اليوم عن الجمهور كما نتحدث عن الجمهور في بابل أو اليونان -رغم أنني لا أقول إن الجمهور كان ساذجًا قديمًا أو حديثًا- ومن الصعب اليوم أن نحدد عقلانية الجمهور، فقد بات متغيرًا باستمرار ويصعب التنبؤ به، ثم من جهة أخرى، انفتح فضاء رقمي تُستعرض فيه ومن خلاله كافة القيم وأخلاقيات الأمم والشعوب، حتى صار كل الناس على معرفة ولو جزئية بكل من يسكن هذه الأرض، ولنتذكر قديمًا عند اليونان والعرب مفهوم "الآخر" الذي هو غيرهم بربري لأنهم ببساطة يجهلونه. أخيرًا سوف أضرب مثالًا محسوسًا على قدرة التقنية على تغيير الثقافة الجماهيرية، وأعني تعلم اللغات غير اللغة الأم، ففي السابق، لتتعلم لغةً ما، كان عليك أن تجمع ثروة لا بأس بها وترتحل عن وطنك لتمكث عدة سنوات قبل أن تجيد هذه اللغة، أما اليوم فيكفي أن تولد في القرن الواحد والعشرين لتتعلم لغة أخرى وبعض كلمات من لغات أخرى، ولذلك فإنه ليس من العدل أن نتحدث عن الجمهور دومًا من دون الوعي الحاد بالعصر الذي نعيش فيه والمتغيرات التي حدثت وشكلت هذا القرن.

السينما فن للجماهير؟

نعم هو كذلك؛ لقد ارتبط هذا الفن بالجماهير منذ ظهوره، مما جعله عُرضة للنقد وللإخراج من دائرة الفنون، ولذلك لم أتخذ في هذه المقالة سبيلي لتفكيك هذا الحكم من خلال إثبات جدوى وعمق السينما باعتبارها فنًا، بل من خلال الدفاع عن الجماهير، مما يعني أن معطيات هذا الحكم قد نُقدت من أصلها وهو ما يجعل السينما فنًا وجماهيريًا في نفس الوقت؛ هي فن لأن دلالة الفن ذاتها لم تُحسم مطلقًا، وهذا ما يقودني إلى تهمة لصيقة بالأولى، أي أنه فن جماهيري وأعني المتعة والتسلية، فنحن نعلم أنه على مر التاريخ، كانت هناك محاولات عدة لرفع الفن عن كونه مجرد متعة كما نجد ذلك عند أفلاطون وأرسطو وكانط وهيغل… إلخ، فقيمة المتعة في تاريخ الفلسفة والثيولوجيا لم تكن محببة، بل كانت دنيئة، وعليه، فإن الفن في نهاية المطاف هو ما يُمتعنا دون أن يكون خاليًا من المصلحة2 وهذا التعريف يقف في تعارض صارخ مع كانط، إلا أنه يعيد الاعتبار للجمهور والمتعة، والأهم من كل ذلك أنه يضع الفن على أرضية طبيعانية -أي البيولوجيا- فالفن في نهاية المطاف غريزة تنزع للعب والمتعة والمرح، ولا عزاء للرؤى القاتمة التي تنطلق من أصول ميتافيزيقية يصعب إثباتها، فضلًا عن كونها بعيدة عن الحس المشترك. السينما الهوليوودية على سبيل المثال تُعد واحدة من تلك الظواهر القليلة التي أدركت عمق هذه الفكرة، فخذ على سبيل المثال أفلام الرعب التي يعشق الفلاسفة الوقوف عندها بوصفها ظاهرة خارقة: فكيف لما هو مرهب ومخيف أن يكون ممتعًا؟
هذه الظاهرة تلاعب بها جيدًا "هيتشكوك" و"جيمس ويل" وتحديدًا في فيلميه "Frankenstein" سنة 1930 و"Bride of Frankenstein" سنة 1935، إلا أنني لست معنيًا الآن بتحليل الرعب، بل بالقول بأن المتعة التي تحقق مصلحة أو غاية شريفة ليرفع رايتها الفن، وعليه ليس الجمهور ساذجًا، وليست المتعة قيمة غير شريفة، بل هي في غاية النبل، فهل هناك شيء أكثر روعةً من نشر المتعة والفرح؟ وهنا أريد أن أختم بواحد من أغرب الآراء وهي عادة الفلاسفة  «ومن هذا الباب أيضًا جميع تلك الألعاب التي لا فائدة ترجى منها سوى أنها تساعد على أن يمر الزمن من دون الشعور به» عندما قرأت هذه الأسطر شعرت بشيء من خيبة الأمل، فهل ما يجعلنا لا نشعر بالزمن لا جدوى منه؟ وهذا يعني أن المتعة والتسلية التي هي حتمًا تخفف علينا وطأة الحياة لا قيمة لها، إذن ما الجدوى من كل تلك الأنساق الكبرى إن لم تكن تعيننا على حياة سعيدة؟ على كلٍ، السينما فنٌ جماهيريٌ بامتياز وهذه فضيلته أو إحدى فضائله، وكذلك لا عيب في المتعة، فهي أحد أركان تركيبتنا البيولوجية، وعليه أقول: نعم، السينما فن جماهيري وفي غاية الإمتاع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.هذا المصطلح يعني ببساطة انفتاح فضاء رقمي جعل من التواصل بين الأنا والآخر ممكنا
2.التعريف بشكل عام في نظري غير ممكن وأعني التعريف الجامع المانع لذلك ما أضعه من تعريفات هو أشبه بعلامة على الطريق نسلك من خلالها ومن ثم نتجاوزها
يزيد السنيد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا