أوراق سينمائية

السّينما التّجريدية

«السّينما التّجريدية» اصطلاح قلق لما بين النعت والمنعوت من تباعد، فمن المصادرات أنّ السّينما هي التّعبير بالصّورة وباللّغة البصرية أساسًا.  تُعرّف الصورة في المعاجم بكونها إعادة تمثيل الأشكال أو الأشياء كما في الفنون التّخطيطية والتّشكيلية، أو بكونها استنساخ العناصر المادية بواسطة نظام بصري عاكس سواء كان مرآة أو«السّينما التّجريدية» اصطلاح قلق لما بين النعت والمنعوت من تباعد، فمن المصادرات أنّ السّينما هي التّعبير بالصّورة وباللّغة البصرية أساسًا.  تُعرّف الصورة في المعاجم بكونها إعادة تمثيل الأشكال أو الأشياء كما في الفنون التّخطيطية والتّشكيلية، أو بكونها استنساخ العناصر المادية بواسطة نظام بصري عاكس سواء كان مرآة أو تقنية من تقنيات التّصوير الفوتوغرافي. ولسمتي إعادة التّمثيل والاستنساخ نقول على سبيل المجاز: الولد صورة من أبيه. أما التّجريد فعمل فكري يجافي التّجسيد، فينطلق غالبًا من عالمنا أو من الأشياء المجسّدة التي تحيط بنا فيعزل خاصية منها ويحوّلها إلى صفة -كالجمال مثلًا- أو علاقة -كالتّعاون- أو حكم -كالجودة- أو قيمة -كالخير- بصرف النّظر عن الأشياء التي يمكن أن نتخيّلها. من هذا المنطلق وجد «جون ماري باترس» أنّ السّينما -على خلاف الأدب- تعتمد العالم المرئي جسرًا للتّعبير عن حالات الرّوح وتتجاوز الظّاهر، بغاية النّفاذ إلى باطن الأشياء. 

ويقدّر «أمبرتو إيكو» «أنّنا ندرك الأشياء قبل كلّ شيء بصفة بصريّة، وحتى بالنّسبة إلى الأشياء غير البصريّة فإننا ندرك منها بالأساس الخصوصيات التّشكيليّة (جرم مستدير أو أحمر، صوت خفيض أو قويّ، إحساس عند اللّمس بالحرارة أو الوخز، إلى غير ذلك)». وهذا ما يصادق عليه كل من «جورج لايكوف» و«مارك جونس» بقولهما إننا «ندرك العالم بواسطة الكناية عندما نحدّد هوية الشّخص من خلال وجهه وعندما نتصرّف وفق هذا الإدراك».، ذلك أنّ المعنى يتوالد في اللّغة البصريّة عبر التّداعي والجوار وإنابة الجزء عن الكّل أو السّبب عن النّتيجة، ممّا يجعلها تشتغل بنظام الكناية والمجاز المرسل أساسًا، فيتولّى متقبّلها العبور من المجسّد إلى المجرّد. يدفعنا هذا الجمع بين عبارتين على طرفي نقيض إلى مساءلة مصادراتنا المحسومة والمصنّفة ضمن دائرة اللاّمفكر فيه وإلى العودة إلى أصل نشأة الفنون التّجريدية من رسم وتصوير فوتوغرافي وتصميم ونحت وإلى تصوراتها الجمالية وخلفياتها الفكرية لنتمثل رؤاها المؤسِّسةَ أولًا والمشكلة لهذه السّينما التّجريدية ثانيًا.

اكتسب الرّسم التّجريدي شيئًا من الاعتراف الفنّي سنة 1910، لمّا شكّل «كاندينسكي» من الخطوط وبقع الألوان لوحةً مائية وُصفت بالتّجريدية، ثم حاول أن يمنح تجربته هذه خلفيةً نظريةً تفرض مبادئ جمالية جديدة، فكتب مقالة حول ميتافيزيقيا الأشكال وروحانية الفنّ وأعلن فيها رفضه لتمثيل الواقع الملموس ومعارضته للفنّ التّصويري. وبعد هذه المحاولة الأولى، أسهم المنظّرون المنخرطون في هذا الاتجاه في ضبط مجمل من القيم الجمالية المشتركة بين التّجارب المختلفة، على ما بينها من التباعد، وهي:

  • محاولة الوصول إلى المجرّد عاطفةً أو فكرةً أو قيمةً من خلال الشّكل واللّون دون التّوسّط بتمثيل الأشياء أو استحضار الوقائع.
  • التّخلي عن محاكاة الأشياء المستخدمة تقليديًا لاستحضار الواقع وعن قواعد المنظور التّشكيلي ومصادر الإضاءة اللّذين قام عليهما الرّسم الأوروبي منذ عصر النّهضة. 
  • ترتيب الأشكال هندسيةً كانت أو غير منتظمة على اللّوحة واعتماد الخطوط المتواصلة أو المتقطّعة والألوانِ النقيةِ التي لا تعيّن شيئًا آخر غير نفسها، أسسًا لهذا الرّسم.

 ولمّا استقامت هذه النّظرية واكتسبت منطقها الدّاخلي، أعلن الرّسام الألماني «بول كلي» Paul Klee أنّ «الرّسم لا يعيد إنتاج المرئي، إنما يجعله مرئيًا» وأنه «يترجم العناصر الباطنية ويسعى للاقتراب من روح الإبداع».

يبحث الإيطالي «برونو كورا» Bruno Corra في أصل المبادئ التي تحكم الفنون التّجريدية على اختلافها، فينتهي إلى أنّ «التّجلي الوحيد لفن الألوان المستخدم حاليًا هو الرّسم. فاللّوحة عبارة عن مزيج من الألوان يتمّ وضعها في علاقات متبادلة من أجل تمثيل فكرة. (ستلاحظ أنني عرّفت الرّسم على أنه فن الألوان. رغبة مني في الإيجاز، ولن أهتم بالخط، ذلك العنصر المأخوذ من فن آخر.) يمكن إنشاء شكل جديد وأكثر بدائية من الفن التّصويري عن طريق وضع مجمل الألوان مرتبة بشكل متناغم فيما يتعلق ببعضها البعض فوق السّطح، وذلك لإمتاع العين دون تمثيل أي صورة. هذا يتوافق مع ما يُعرف في الموسيقى بالتّناغم، وعليه يمكننا تسميته بالتّناغم اللّوني. وهذان الشّكلان من الفن، التّناغم اللّوني والرّسم، فضائيان. [أما] الموسيقى فتنبؤنا بوجود شيء مختلف جوهريًا، باختلاطِ النبرات اللّونية المقدمة تباعًا للعين أو بحافزٍ من الألوان أو بموضوع لوني. ولن أستمر في الحديث عن شكل رابع من الفن، بما أنّه ليس ضروريًا بعد، ذلك الذي يتوافق مع الدراما الموسيقية، والذي من شأنه أن يؤدّي إلى الدراما اللّونية». ولم تلبث هذه الرّؤية الجديدة في الرّسم أن انتشرت في جميع أنحاء العالم، واتخذت من الولايات المتّحدة مركزًا لها. وفي الآن نفسه، اخترقت مختلَف الفنون، مثل النحت والهندسة المعمارية والتّصميم والسّينما، فكانت امتدادًا للتّجريب الذي يعكس تمرّد الإنسان المعاصر ضد الاستبداد وضدّ كلّ أنواع السّلطات التي تستلب كيانه، في مجال السّياسة والاجتماع.

حاول فنانو التّصوير الفوتوغرافي الانخراط في الموجة بدورهم، وعملوا على استكشاف ما لا يمكن رؤيته بالعين المجردة. وباتت مدينة براغ مركزًا للتّصوير الفوتوغرافي الطليعي، أي التّصوير التّجريدي الذي يعرض تشكيلات مرئية يمكن التقاطها بواسطة معدات التّصوير الفوتوغرافي التّقليدية مثل الكاميرا وغرفة تحميض الأفلام. ويمكن أن تُستعمل أجهزة المعلوماتية أو أي وسائط أخرى كأن يلوّن الفنّان التّجريدي الفيلم يدويًا أو أن يستعمل الورق، فيتصرف في مكونات المشهد المرئي مستخدمًا الألوان والأضواء والظلال وضبط التّشكيل لنقْل مشاعره وأحاسيسه وانطباعاته ولتغيير الانطباع المتأصل في ذهن المشاهد.  ويدّعي أعلامُ الفنون التّجريدية قدرتهم على تجسيد الأفكار المجردة دون وساطة الصّورة، كما يفعل روّاد التّصوير الفوتوغرافي الواقعي أو الوثائقي، وذلك بحثًا عن الموضوعية. وعليه، فهم لا يلجؤون إلى وجهات النّظر أو المنظور لتشكيل صورهم لما فيه من سمات ذاتيّة.

من هذا العمق النّظري استمدت السّينما التّجريدية هويتها إذن، فقطعت مع السّينما التّجسيدية التي توقف الخيال عند صور بعينها. وعملت على تحرير الأثر من علاقاته مع الواقع الحقيقيّ بحثًا عن أعمالٍ يتجسّد فيها الشّكل الموسيقيّ عبر العناصر البصريّة فحسب. فمن حالة الحركة الدائمة للأشكال والألوان والهيئات والعلاقة فيما بينها، يتولّد الإيقاع البصري بين تناغم وانسجام بصريين أو تنافر مولّد للطباق. يقتضي الوصول إلى الذّهني إقصاء المستوى التّمثيلي الذي ينهض عليه التّصور السّائد للسّينما، الذي يفهمها باعتبارها سردًا لوقائعَ تحدث في أفضية معينة وأزمنة وحضور شخصيات في هيئة وشكل لا أكثر . ومن رفضها لمقومات القص هذه برّرت مناهضتها للسّينما التّقليدية، وللمستوى الأدبي منها خاصّة، وهذا بديهي، فقد كان أغلب مخرجيها رسّامين في الأصل، ينتمون إلى التّيّارات التّشكيليّة التّجريديّة. عمليًا يمكن أن نجعل عام  1912 بداية ظهورها، فقد أخرج الرّسامان الشقيقان «برونو كورا» و«أرنالدو جينا» -من خلال الرّسم مباشرة على الفيلم- شريطين قصيرين هما «قوس قزح» و«الرّقصة». وبعد سنة ضبط الرّسّام «ليوبولد فريديريك ليوبولدوفيتش شتورتسواج» -المعروف باسم «ليوبولد سيرفاج»- مفهوم «الإيقاع البصري» وقواعد الفيلم التّجريدي في مقالته «إيقاع ملوّن» التي

إثر الحرب العالمية الأولى تشكّلت حول الألماني «روتمان دي والتر» حلقة تضمّ كلًا من الرّسّام السّويديّ «فايكينغ إيغلينغ» والألماني «هانز ريختر» و«أوسكار فيشينجر» وأنتجت أفلامًا تجريديّة بطرائق مبتكرة. وككل اتجاهات السّينما اللّانمطية وتياراتها، فترت حماسة منتسبيها دون أن تختفي تمامًا. أما اليوم فتتعامل السّينما التّجريبية عامّة بشكل أقل مع الصّورة المجرّدة «باستثناء بعض الحالات المعزولة (كريستيان ليبرات أوجوست ريكفيلد، حديثًا). ولا يجب فهم هذه الظّاهرة على أنها استنفاد لإمكانات التّجريد في السّينما وإنما على أنها فتور ملحوظ في حماسة في السّنوات الأولى، أو باعتبارها تغييرًا جذريًا في أشكال التّعبير التّجريدي. وفي الواقع يبدو أن مصطلح التّجريد لم يعد له أي معنى حقيقي في السّينما المعاصرة. فلم نعد قادرين حقًا على الحديث عن الصور المجردة» أو «التّصويرية، ولكن فقط عن الصّور ذات السمات الغامضة».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

 1 جون ماري باترس: «بواسطة الكلمة يكون الفهم في استعمال مفهوم ما سبق لنا تعرّفه، بينما يقتضي فهم المعنى بواسطة الصّورة فقط عمل الإدراك. وبوسع المرء أن يعرّف هذا الفرق أيضًا كأن يقول: إنّ الكلمة تعطي مفهوم شيء ما: أي تجريدًا ناشئًا عن التّفكير، بينما الصّورة هي مدرك حسيّ أي تجريد ناشئ عن إحساس». جون ماري باترس Jan Marie Peters  من مقالة «بنية اللّغة السّينمائيّة»، تعريب قيس الزّبيدي، بنية المسلسل الدّرامي التّلفزيوني نحو دراميّة جديدة، قدمس للنشر والتّوزيع، ط1 دمشق، 2001، ص 115.
 أمبرتو إيكو، السّيميائيات وفلسفة اللّغة، تعريب أحمد الصمعي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2006.ص ص 2289/290.
 جورج لايكوف ومارك جونس، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد الجحفة، دار توبقال للنشر، ط 1، الدّار البيضاء 1996، ص 356.
4 لمزيد من التّوسع انظر مقالة السّينما التّجريدية- موسيقى لونية . Bruno Corra : Abstract Cinema-Chromatic Music ضمن الرّابط التّالي: https://www.unknown.nu/futurism/abstract.html
نشرها في العدد 26-27 من مجلة «أُمسيات باريس» وعنى به الإيقاع البصري الناشئ عن الأشكال المتحرّكة.
5 «ليس الإيقاع الملون بأي حال، توضيحًا لعمل موسيقي أو تفسيرًا له. إنه فن مستقل… [فـ]ـالعنصر الأساسي في فني الحيوي هو الشكل البصري الملون، المشابه في دوره لصوت الموسيقى»:  Léopold Frédéric Léopoldovitch Stürzwage : In Cinéma : théorie, lectures, textes réunis et présentés par  Dominique Noguez ,Klincksieck, 1978, page 275
6 Emmanuel Lefrant, Un cinéma de la réminiscence, Des Rives de Yann Beauvais, in Nicole Brenez, Christian Lebrat (dir.), Jeune, dure et pure ! Une histoire du cinéma d'avant-garde et expérimental en France, Paris, Cinémathèque française / Mazzotta, 2001, p 516
د. أحمد القاسمي
March 10, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا