في مقال نُشر له في النيويورك تايمز فبراير 2019، يقول الناقد السينمائي بن زايزمير Ben Zauzmer: "إذا كنت تعتقد أن جوائز الأوسكار أصبحت مُسيسية للغاية، فإليك الأسباب التي تؤكد ذلك"، ثم أتبع ذلك بقوله: "عبر رصدي لأفضل 554 فيلمًا مرشحًا على مدار تاريخ جوائز الأوسكار، خلصت إلى أن التركيز على السياسة هذا العام تجاوز الـ 75 عامًا التي مضت". ويتابع الناقد أن السياسة حاضرة بطبيعة الحال في كل مسعى إنساني، ويمكن تفسير أي فيلم على أنه نوع من التعليق على عدد من القضايا التي تتماس مع المجال السياسي بشكل أو بآخر. لكن في الواقع ليست العلاقة السينما سياسية هي المقصودة هنا؛ لأن التوظيف السياسي لفن السينما يعود تاريخيًّا إلى المراحل الأولى من نشأتها. فقد استخدمها ألمانيا النازية، وبريطانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية، واستخدمها الاتحاد السوفيتي في أوائل القرن العشرين؛ منذ فيلم (مولد أمة) عام 1915، مرورًا بـ(المدرعة بوتمكين) في 1925، وصولًا إلى (الديكتاتور العظيم) في 1940، وأفلام كثيرة بعدها.
لكن ربما ما أراد قوله ناقد النيويورك تايمز -وما نناقشه في هذا المقال- أن اختيارات الجوائز العالمية -وفي مقدمتها الأوسكار- خلال العشرين عامًا الماضية، اتجهت أكثر وأكثر صوب ترسيخ شكل جديد من القيم، فيما أصبح معروفًا اصطلاحًا بالصوابية السياسية Political Correctness. فإلامَ يشير هذا المصطلح؟
في الواقع لم يعرف التاريخ معنًى واحدًا لهذا المصطلح، ففي ثلاثينيات القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي استُخدِم لوصف مدى مواءمة الأشخاص وولائهم لسياسات الحزب الشيوعي من عدمه. وفي الفترة الممتدة من الستينيات حتى الثمانينيات أُعيد إحياء المصطلح ليتخذ معنى أكثر اتساعًا يرسخ فكرة تمكين الجماعات المضطهدة والمهمشة، مثل النساء وأصحاب البشرة الملونة والأقليات العرقية المختلفة. واليوم يرتبط المصطلح كثيرًا بفعل انتقاء الكلمات، بفعل التردد قبل أن تقول رأيًا مخالفًا أو غير مقبول أو له شعبية كبيرة، يمكن على أثره أن تُتهم بأنك عنصري ومُعادٍ للسامية ومتحيز جنسيًّا… إلخ.
يتمثل المبدأ الأساسي للصوابية السياسية في تعزيز الشمولية والاحترام والحساسية تجاه الأفراد أو الجماعات التي هُمِّشت وحُرِّفت على مر التاريخ. وفي حين أن المبدأ العام جدير بالثناء، فإن تأثير الصوابية السياسية على صناعة السينما -بما في ذلك جوائز الأوسكار- كان موضوعًا مثيرًا للاهتمام والنظر؛ لأنه يفرض قواعد جديدة في عملية التقييم، ويدفع الأفلام نحو ضرورة الامتثال لها.. وتلك هي المشكلة الرئيسة.
إحدى القوى الدافعة وراء صعود الصوابية السياسية في السينما هي المطالبة بزيادة التمثيل والتنوع على الشاشة. ما دعا الجمهور والنقاد -على حد سواء- إلى تصوير أكثر شمولًا ودقة للمجتمعات الممثلة تمثيلًا ناقصًا، والدعوة إلى تمثيل الحكايات التي تعكس تنوع العالم الذي نعيش فيه. وقد أثر هذا الضغط من أجل التمثيل على الخيارات التي اتخذتها الأكاديمية، حيث تسعى جاهدة للتعرف على الأفلام التي تتماشى مع هذه المثل العليا.
بالإضافة إلى ذلك، أدى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والتأثير المتزايد للإنترنت إلى توفير منصات لسماع الأصوات المهمشة، ما جعل القضايا المتعلقة بالعرق والجندر والحساسية الثقافية مركزية في الخطاب العام. وقد مارست هذه المركزية ضغطًا على صناعة السينما لمعالجة هذه المخاوف، كما دفعت الرغبة في تجنب الجدل ورد الفعل العام صانعي الأفلام والاستوديوهات إلى الإبحار في مشهد يؤكد بشدة على امتثال قيم الصوابية السياسية.
وفي حين أن تعزيز الشمولية والتمثيل هدفان جديران بالثناء، فإن تأثير الصوابية السياسية على الحرية الفنية والجودة الشاملة للأفلام كان موضوعًا للنقاش. يجادل بعضهم في أن التركيز المفرط على الصوابية السياسية يمكن أن يخنق الإبداع وينتج عنه رواية قصصية يقدم فيها صانعو الأفلام الأولوية للوفاء بمعايير محددة بدلًا من دفع الحدود واستكشاف الروايات المبتكرة. في حين يرى آخرون الصوابية السياسية بوصفها أداة أساسية؛ لتصحيح التحيزات التاريخية، وضمان أن يكون للمجتمعات المهمشة صوت في السينما السائدة.
من المهم الاعتراف بأن صعود الصوابية السياسية في السينما هو جزء من تحول مجتمعي أوسع نحو وعي اجتماعي وحساسية أكبر. وتتحمل صناعة السينما -باعتبارها وسيلة ثقافية قوية- مسؤولية تعكس تنوع الخبرات البشرية وتتحدى الصور النمطية طويلة الأمد. ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان تحقيق توازن بين تعزيز الشمولية والجدارة الفنية، وضمان عدم اختزال الأفلام في مربعات اختيار محدودة الموضوعات فحسب، بل لا بد من تقييمها بناءً على جودتها الشاملة وتأثيرها.
إذا أخذنا مثالًا قريبًا من الناحية الزمنية على فكرة الانحيازات المستندة على الصوابية السياسية أو الأخلاقية، سنجد ترشح فيلم (بلاك بانثر) 2018 -مثلًا- ليس فقط للأوسكار التقني كالمؤثرات البصرية مثلًا، بل يتم تصعيده للمنافسة على أوسكار أفضل فيلم، وفي المقابل يتم تجاهل فيلم آخر أكثر فنية بكثير منه وهو (بوابة الأبدية)! في الدورة ذاتها يفوز فيلم (الكتاب الأخضر) بجائزة أفضل فيلم [الجائزة الأهم من جوائز الأوسكار]، على الرغم من أنه لا يعدو كونه فيلمًا مسليًا متوسط المستوى، قُدمت قصته أكثر من مرة، ويخلو قالبه السردي من أي جدة أو ابتكار!
ثمة شبه اتفاق على أن المستوى العام لأفلام 2018 جاء أقل من تلك التي عرضت في السنوات السابقة عليها، الأمر الذي يمكن أن نتبين قدر صحته عند المقارنة بين مستوى الأفلام التي ثار الجدل حولها في 2016 و2017 مثل (لالا لاند) و(مانشستر على البحر) و(أم) و(بليد رانر 2049) و(دونكيرك) و(ثلاث لافتات إعلانية خارج مدينة إبينج ميسوري) و(لوجان)، وبين المستويات المتفاوتة لأفلام ثار حولها الجدل بين مؤيد ومعارض في 2018 مثل (الكتاب الأخضر) و(ملحمة بوهيمية) و(حرب باردة)، وهو نتيجة طبيعية لإقحام معايير سياسية تحت ادعاءات أخلاقية ذات شعارات محددة تتبناها الأكاديمية المانحة للجوائز.
انحيازاتٌ واضحةٌ:
بصفة عامة، يمكننا رصد شكلين من أشكال الانحيازات الصريحة في تاريخ الأوسكار: أولهما الانحياز المباشر لكل ما يخدم الفكرة الأمريكية وتصوراتها للعالم. في حين يتمثل الثاني في دعم قيم الصوابية السياسية.
بدأ الشكل الأول مع بداية الأربعينيات عندما ابتعدت السينما الأمريكية عن سينما المشاعر أو الوجدان، وبدأت تتجه نحو الأفلام السوداء التي قامت على العنف والحروب والكسر الفج للتابوهات. ومن الممكن الإشارة هنا إلى فيلم المخرج الأمريكي مايكل كورتيز (كازابلانكا) الذي أُنتج عام 1942 وحصل على الأوسكار عام 1943، وهو من بين أفلام الحرب العالمية، وكان يحمل تبريرًا لدخول الولايات المتحدة الحرب، كما يكرس الفيلم لفكرة أن المغرب ولاية تابعة لفرنسا.
وعندما سيطرت على أمريكا فكرة الدولة العظمى التي تحكم العالم مع بداية الأربعينيات، انعكست تلك الفكرة على معظم الأفلام الأمريكية التي فازت بالأوسكار في تلك الفترة، ومن بينها (نهاية الأسبوع المفقودة) الذي فاز بالأوسكار عام 1945، و(كل رجال الملك) الفائز بأوسكار أفضل فيلم أيضًا عام 1950.
مع نهاية الستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، كان هناك مشروع أمريكي متكامل لتصدير فكرة المارد الأمريكي الخارق عن طريق شخصيات المصارعين ورعاة البقر التي لا تُهزم. ويعد فيلم (راعي بقر منتصف الليل) من أبرز الأفلام التي نجحت في تكريس هذه الفكرة، وحصل الفيلم على أوسكار أفضل فيلم عام 1969، في حين حصل فيلم (روكي) على الجائزة ذاتها عام 1977.
ثم بدأت هوليوود بعد ذلك في ترسيخ سياسة جديدة للعالم، وهي فكرة البطل المخلص؛ منقذ العالم من الطغيان. ظهر هذا في فيلم (القلب الشجاع) الذي حصل على عدة جوائز أوسكار عام 1996؛ من بينها أفضل فيلم. ثم فيلم (المصارع) الحاصل على عدة جوائز أوسكار عام 2001. وفي السياق ذاته يفوز فيلم سيد الخواتم (عودة الملك) بأوسكار أفضل فيلم عام 2004. ومن المهم هنا التأكيد على أن الخلفية السياسية لتلك الأفلام الفائزة بالأوسكار لا تعني ضرورةً أنها لا تستحق ما نالته من جوائز، بقدر ما يشير هذا إلى أن سياسة الأوسكار في توزيع الجوائز تستند على منهجية لا تلقي بالًا فقط بالجوانب الفنية داخل العمل، بل تراعي أيضًا مجموعة من الأخلاقيات التي تتبناها الأكاديمية. غير أن هذا التوازن بين الجوانب الفنية وتلك الأخلاقيات سيختل تمامًا مع الشكل الثاني.
يتمثل الشكل الثاني للانحيازات في دعم قيم الصوابية السياسية، أو كما يشير بعضهم إليه باسم [النقاء الأخلاقي]. وعلى الرغم من أن توجه الأكاديمية في السنوات الأخيرة صوب دعم هذه القيم جاء فجًّا بطريقة لا تُخطئها عين، إلا أن هذا التوجه له أصوله التاريخية أيضًا؛ فقد شهد العالم عددًا من الأعمال السينمائية، التي مُنع عرضها وتداولها بدعوى تبنيها أفكارًا عنصرية أو على أساس أنها تجرح مشاعر إحدى القوميات أو تُسيء لجنس من الأجناس. ففي عام 1946 صدر فيلم (أغنية الجنوب) أحد كلاسيكيات ديزني، والحائز على جائزة أوسكار أفضل أغنية أصلية. وقد أُعيد عرض الفيلم عدة مرات، وحقق نجاحًا تجاريًّا قياسيًّا حتى ذكرى صدوره الـ40 عام 1986، حين منع الاستوديو صدور أي نسخ فيديو من الفيلم داخل الولايات المتحدة وخارجها من وقتها حتى الآن؛ لتعرضه إلى دعاوى تتهمه بالعنصرية والتصوير اليوتوبي للجنوب الأمريكي، والوقوع في فخ التصوير الرومانسي للعبودية.
قوالبُ جديدةٌ:
"لمئة عام من تاريخ السينما، جاء تصوير الأمريكيين الأصليين Native Americans بشكل ثابت وبأدوار محددة: إما وحوش ضارية، وإما روحانيون وصوفيون. وقد حان الوقت ليظهروا على الشاشة كأناس عاديين". المقولة لمخرج الأفلام الأمريكي كريس إيري، وهي تكشف عن توجه عام بدأ يهيمن على صناعة الأفلام في الآونة الأخيرة يرسخ قيمًا ومعايير جديدة، تبنتها أكاديمية العلوم والفنون، وترسخت بمرور الوقت كشروط لمنح الجوائز. في يناير 2016، أعلنت الأكاديمية نيتها إجراء سلسلة واسعة من التغييرات في عدد أعضائها؛ ليصبح ضعف العدد الحالي من النساء والأقليات العرقية والملونين بحلول 2020، وذلك بهدف زيادة التنوع بين الأعضاء، وبالتالي الأفلام المرشحة.
جاء ذلك ردًّا على النقد الحاد الذي تلا نتائج توزيع جوائز أوسكار عام 2015 المفتقرة إلى التنوع العرقي. وقد ألقى إعلان الأكاديمية بتوابعه على ترشيحات وجوائز عام 2017، فقد رُشح -لأول مرة في تاريخ الأكاديمية- سبعة من ذوي البشرة الملونة في أقسام التمثيل الأربعة للجائزة، ووصلت ثلاثة أفلام تناقش قضايا السود إلى القائمة النهائية لجائزة أفضل فيلم، وثلاثة مرشحين من السود في جائزة أفضل سيناريو. واختتم الترشيحات فوز فيلم (ضوء القمر) بجائزة أفضل فيلم، وتحكي قصته بلوغ شاب أسود مثلي الجنس ومراهقته.
في العام 2018 نرى فيلمًا مثل (شكل الماء) الذي حاز على عدد من جوائز الأوسكار، لا يتضمن أي فكرة أو معالجة سوى أنه قام بتمثيل شخصية غريبة الأطوار وصديقتها سوداء البشرة وصديقهما ذو الميول غير الطبيعية في دور الضحية، في مواجهة الرجل الأبيض التقليدي المحافظ الذي يلعب دور الشرير بالطبع. مجرد مجموعة من الأفكار النمطية الخالية من أي قيمة جمالية.
وفي عام 2019 تجدد الجدل مرة أخرى مع فوز فيلم (ملحمة بوهيمية) أو (افتتان بوهيمي) بأربع جوائز [أفضل ممثل، وأفضل مونتاج، وأفضل خلط أصوات، وأفضل مونتاج صوتي]. ما أثار التساؤل مرة أخرى حول المعايير التي فاز الفيلم على أساسها!
وضعٌ ملتبسٌ:
هل يفيد التوجه الجديد الذي بات ملموسًا في الجوائز الكبرى -ومنها الأوسكار- في ترسيخ بعض القيم الإيجابية في الأعمال السينمائية، بحيث تخدم عددًا من القضايا الإنسانية بصورة حقيقية، أم أن هذا التوجه سيؤثر سلبًا على صناعة الأفلام بحيث تمتثل لا إراديًّا لخدمة تلك المعايير؟
في الواقع يمكن أن يكون للتركيز على الصوابية السياسية داخل صناعة السينما -بما في ذلك جوائز الأوسكار- آثار كبيرة على حرية صانعي الأفلام الإبداعية. في حين أن تعزيز الشمولية أمر بالغ الأهمية؛ فإن التركيز المفرط على الصوابية السياسية يمكن أن يحد من تنوع الروايات ويعيق من حرية التعبير الفني المستقل.
بصفة عامة، عندما يشعر صانعو الأفلام بضغط المعايير -أيًّا كانت- فإن ذلك من شانه أن يعمل على عرقلة قدرتهم على استكشاف مواضيع معقدة أو مثيرة للجدل. بالإضافة لذلك، ستفضي هذه المعايير في النهاية إلى تجانس الروايات والحبكات المقدمة، حيث ستتبع الأفلام أنماطًا يمكن التنبؤ بها وتتجنب الانخراط في موضوعات معقدة أو مثيرة للتفكير.
إن صناعة الأفلام مسعى إبداعي يشمل عناصر مختلفة، مثل سرد القصص والتصوير السينمائي والمونتاج وغيرها، والتركيز على الصوابية السياسية سيفضي -ضرورةً- إلى إنتاج أفلام تبدو نمطية أو سطحية، وتفتقر إلى العمق والسرد المركب، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع التجربة السينمائية بشكل عام.
وتذهب بعض الآراء إلى أن الإقحام المفتعل داخل الأفلام لقضايا إنسانية محددة -كقضايا الأقليات والمهمشين- لن يفضي في النهاية إلى كسب حقوقهم على أرض الواقع؛ لأن معظم تلك الأعمال لا يعكس أي عمق أو صدق لشخصياتها، فتظل مجرد أعداد على الشاشة، ما يكرس للإبقاء على الوضع الراهن لتلك المجموعات. ويبدو الأمر كأن هوليوود تحاول إزاحة إرث ثقيل رسخته سابقًا من سوء تمثيل الأقليات والمهمشين في السينما، ويبدو أيضًا كأن الأمر في مجمله يحكمه سوء التقدير وأنه خارج عن السيطرة؛ إذ انجرف كثير من الأفلام صوب تلك المعايير واتخذتها مرشدًا لها، فتحولت إلى كليشيه نمطي يعد إنتاجه وتكراره بصيغ ليست مبتكرة، الأمر الذي ضاعف الشكوك كثيرًا حول قيمة جوائز الأوسكار واستحقاقية منحها. وربما -على المستوى القريب- يكون لتلك الموجة المتشككة فائدتها في ضبط البوصلة مرة أخرى صوب التركيز أكثر على الجوانب الفنية في صناعة الأفلام وتقليص دور الانحيازات والعوامل الأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. Ben Zauzmer, If You Think the Oscars Have Gotten More Political, Here’s Why You’re Right.
2. ضحى حمدي، هكذا تغير «الصوابية السياسية» مسارات السينما والتلفزيون.