ترجمات

الشغف وفقًا لتاركوفسكي

أُصدِر الفيلم الرئيسي لأندريه تاركوفسكي «أندريه روبلوف» (Андрей Рублёв) عام 1966. وقصَّة هذا الفيلم هي قصَّة شغفِ فنَّانٍ يواجهُ معاناةَ شعبِه وشغفه. ولكن ألا يكمنُ مصيرُ الفنَّانِ في مخاطرة الإبداع التي تجعله يتجاوز الحدود ويندمج مع فعلِ الخلق الإلهي؟

*
عام 1966 صدرَ واحدٌ من أبرز الأعمال في تاريخ السينما – ألا وهو فيلم «أندريه روبلوف» من إخراج المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي (1932 – 1986). الفيلمُ مستوحى بحريَّةٍ من حياة أندريه روبلوف، الراهب المتنقِّل ورسَّام الأيقونات من القرن الخامس عشر والذي نعرفه أساسًا من أيقونة الثالوث. من خلال تتبُّع حياة الراهب على مدار ثلاثٍ وعشرين سنة، يطوِّر الفيلم تأمُّلًا سرديًا حول جوهر الإبداع الفني. كيف تنبثق هذه الأخيرة من تجربة الفنان في استحالة رجوع وجوده؟ كيف للفنَّان، في تفرُّده، أن يصبح في الوقت ذاته "وعي المجتمع، قمَّة خياله وتجسيدَ عبقريَّته"1؟ وأخيرًا، وبما أنَّ الفنَّان دائمًا ما يكون على حافَّة التاريخ: هل يمكن أن يكون الفعل الإبداعي ممكنًا في عالمٍ يعاني العنف؟ على مدار مدَّة الفيلم البالغ مئة وثمانين دقيقة، تتلقَّى هذه الأسئلة إجابةً مفاجئة، بليغة ولا يمكن مقاومة شدَّتها الدراميَّة. وكما يشرح تاركوفسكي، كان من المفترض أن يُظهِر الفيلم كيف أنَّ طموح شعبٍ بأسره نحو الأخوَّة، في زمن الحرب الأهليَّة والاحتلال التتري، أدَّى إلى ولادة الثالوث العبقري، المكوَّن من مثاليَّة الأخوَّة، والحبُّ والقداسة الهادئة. تلك هي الفكرة الأساسيَّة للسيناريو. في الوقت نفسه كان يتكوَّنُ من سلسلةٍ من الحلقات، مثل القصص القصيرة، حيث لم يكن من الضروريِّ إظهار شخصيَّة روبلوف في كلٍّ منها. ولكن حتَّى في تلك اللحظات، كان لا بدَّ أن يستشعرَ نفَسَ روحه وارتعاشةَ الأجواء التي كانت وراء فهمه للعالم. لم يكن من الضروري أن تكون الحلقات مترابطةً وفقَ تسلسلٍ زمنيٍّ تقليدي، بل حسب المنطق الداخلي المرتبط بالحاجة التي شعر بها روبلوف لرسم أيقونته الشهيرة "الثالوث". هذه الحاجة كانت تشكِّلُ نوعًا من القاسم المشترك، والذي منه انطلقت كلَّ حلقةٍ لتستمدَّ موضوعها وفكرتها الخاصَّة. كانت الحلقات تتوالدُ من بعضها البعض، متصادمةً في جوهرها، بيد أنَّ هذه التصادمات كانت تنشأ بما يتماشى مع المنطق الشعري، لتصبحَ تعبيرًا بصريًّا عن العلاقات المتناقضة والمعقَّدة التي تربطُ بين الحياة والإبداع 2الفنِّي.
صُوِّرَ الفيلم بالأبيض والأسود، بأسلوبٍ واقعيٍّ دراميٍّ يعكسُ قسوة الزمن والأحداث، قبل أن «ينفجر في المشهدِ الأخير بظهور الألوان، ممَّا يرمز إلى انبثاق الأمل والإلهام في عالمٍ مليءٍ بالفوضى3». في هذه الخاتمة، تظهر أيقونات روبلوف بكلِّ روعتها أمام أعيُن المُشاهد، حيثُ تتجوَّل الكاميرا بحنانٍ عبر سلسلةٍ من اللقطات القريبة التي تركِّزُ على نحوٍ خاص على "الثالوث". يغدو جمال الأشكال والمشاهد الملوَّنة أكثر إبهارًا حين نُدركُ أنَّ الدراما الحياتيَّة التي سبقتها قد أبرزت قيمتها: كان من الممكن ألَّا تكون موجودة. لذلك تنبضُ هذه المشاهد بالشغف الذي أوجدها. وتسعى الصفحات التالية، بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على صدوره، إلى الإشادة بالشغف الذي يشكِّلُ الأساس لهذا الفيلم بأكمله – كان الشغف وفقًا لأندريه أحد العناوين الأولى التي أُطلِقت على هذا الفيلم الطويل. من المؤكَّد أنَّ هذا الشغف هو شغف الراهب والرسَّام روبلوف الذي يجسِّده الفيلم، وهو أيضًا شغف المخرج أندريه تاركوفسكي بالقدر نفسه. وستتناول الفقرات التالية العلاقة العاكسة التي تجمعُ بين أندريه روبلوف وأندريه تاركوفسكي، موحِّدةً الأيقونة بالفيلم والفيلم بالأيقونة.

الفيلم الذي كاد ألَّا يكون

شهِدَ أندريه روبلوف، الفيلم الطويل الثاني لتاركوفسكي بعد «طفولة إيفان» (Ива́ново де́тство – 1962)، عمليَّة إنتاجٍ مليئةٍ بالتقلُّبات عل نحوٍ خاص. في بداياته تميَّز الفيلمُ بحادثةٍ أثَّرت بعمقٍ لدى المخرج: فقد أضاع النسخة الوحيدة من السيناريو. كتب تاركوفسكي في مذكَّراته بتاريخ 6 أبريل 1973 ما يلي: «تذكَّرتُ الطريقةَ التي أضعتُ بها المخطوط الأصلي لسيناريو روبلوف، بينما لم يكن لديَّ أيَّ نسخةٍ احتياطيَّة. كنتُ قد تركته داخل سيَّارة أجرة عند زاوية شارع غوركي {...}. ومضت سيَّارة الأجرة في طريقها! من شدَّة اليأس ذهبتُ لأشرب وأسكر. (بعد ثلاث ساعات)، بينما كنت أنزل الشارع، بالضبط في المكان الذي فقدت فيه المخطوط، توقَّفت سيَّارة أجرة (مخالفةً تمامًا لقانون السير)، ومدَّني السائق بالمخطوطِ من النافذة. لقد كانت معجزة4». في مذكراته يعود تاركوفسكي بشكلٍ متكرِّر إلى الظهورِ المعجزِ للمخطوط. الحقيقة أنَّ هذه الحادثة كانت تعيدُ إنتاج ما كان يستكشفه فيلمه بشكلٍ درامي: عشوائيَّة العمل الفني في هشاشته الجوهريَّة.
لم تجنِّبه عمليَّة إخراج الفيلم (من أبريل إلى نوفمبر 1965 ومن أبريل إلى مايو 1966) من مصاعب جديدة، هذه المرَّة من النوع السياسي والبيروقراطي. وجَّهت الرقابة السوفيتيَّة انتقادًا لفيلم تاركوفسكي الطويل، معتبرةً إياه "طبيعيًا جدًا" و"مناهضًا للوطنية". طُلب من تاركوفسكي إجراء عمليات حذفٍ مستمرَّة، بينما ظلَّ الفيلم مستبعدًا من دوائرِ العرض. ومع ذلك عُرِضَ في «مهرجان كان» في مايو عام 1969. مجدَّدًا كان بقاء العمل على قيد الحياة أمرًا إعجازيًّا. إنَّ حصول الفيلمِ على جائزة النقَّاد الدوليَّة (Prix FIPRESCI) أتاح عرضه في الدول الغربيَّة، ممَّا أثار استياء المسؤولين في موسكو. من ناحيةٍ أخرى، فقد ظلَّ الفيلم ممنوعًا من العرض حتَّى ديسمبر عام 1971. مرَّةً أخرى عكست مسيرة العمل شيئًا من حبكته: إذ يشير الفيلم مرارًا إلى السيطرة التي سعى أمراء روسيا القديمة إلى فرضها على الفنانين. كانت الحريَّة الإبداعيَّة بالنسبة لروبلوف، الراهب الرسَّام، مرتبطةً بالتنقُّل الدائم؛ أما بالنسبة لتاركوفسكي، المخرج السينمائي، فقد تجسَّدت في المنفى، إذ غادرَ الاتحاد السوفييتي نهائيًا عام 1982 ليستقر في إيطاليا.

عن استحالة الابتكار

من المؤكَّد أنَّه من الاستحالة استعراض فيلم تاركوفسكي هنا بكلِّ لحظاته: مقدِّمة، ثماني لوحاتٍ مشهديَّةٍ وخاتمة. ستركِّزُ الفقرات التالية على المشاهد الثلاثة الأخيرة ("الغارة – Набег"، "الصمت – Молчание" و "الجرس – Колокол") حيث تصلُ مسألة الإبداع الفنيِّ إلى ذروتها الدراميَّة.
بإيجاز، تحكي قصَّة أندريه روبلوف عن شغف راهبٍ فنَّانٍ يواجهُ شغف شعبه. نفهمُ في بداية الفيلم أنَّ روبلوف غادر دير الثالوث بعد أن قضى فيه عشر سنوات5. بصحبة رفاقه، وهم أيضًا رسَّامو أيقونات، يمضي روبلوف قاصدًا موسكو. وهكذا يبدأ روبلوف حياته المتنقِّلة، التي ستشكِّل مسرحًا لتجربته ومحكًّا لاختباراته. كتب تاركوفسكي ما يلي: «بمجرَّد خروجه من خلف أسوار ديره، يجدُ روبلوف نفسه أمام واقعٍ غير متوقِّعٍ ومرعب، في مواجهةٍ مع مأساة عصرٍ يشعرُ بالحاجة الملحَّة إلى التغيير6». تُظهرُ الحلقات المتتالية روبلوف كشاهدٍ على معاناة الشعب، يعاني جهله ومثقلٌ بحزنه. لا يفوِّتُ الراهبُ الذي فيه شيئًا ممَّا يراه، ويدخلُ الفنَّان الذي فيه في أزمة. داخل كاتدرائيَّة فلاديمير، حيث طلبَ منه الأسقف رسم جداريَّةٍ عن يوم القيامة، يكتشف روبلوف عجزه عن الإبداع. يمرُّ الوقت وتظلُّ جدران الكنيسة الكبيرة مغطاة بالجصِّ الأبيض. يوبِّخه رفيقه الراهب دانييل قائلًا:

« - عليكَ أن ترسُمَ يوم القيامة، افعل ذلك! على اليمين، يتواجدُ الخُطاة داخلَ قدورٍ من القطران المغلي، ما يكادُ يسبِّبُ لك قشعريرة. حتى إنَّني تخيلت شيطانًا ينفث الدخان. بعينين...

- الأمرُ غير متعلِّقٍ بالدخان. لا أستطيعُ رسمَ هذه الأشياء فهي تثير اشمئزازي. لا أريدُ أن أرعِبَ الشعب».

وعندما يعلم أنَّ الأمير قد أمر بفقءِ عيون بعضٍ من رفاقه – لكي لا يستفيد شقيقَه من فنِّهم – يلطِّخ روبلوف، في غمرة ألمه، جدرانُ الكنيسة البيضاء بالألوان.
فيما يتعلَّقُ برعب الشعب، فإنَّ الأسوأ لم يأتِ بعد. وجد التتارُ في أميرٍ روسيٍّ طامعٍ بالسلطة حليفًا لهم؛ ومعًا قام الطرفان ينهبِ مدينة فلاديمير. سرعان ما يصلُ الغزاة إلى الكاتدرائيَّة حيث لجأ الشعب، بمن فيهم روبلوف. بضرباتٍ من المدقِّ اقتحمَ التتار والمهاجمون الروس الباب واندفعوا على ظهور الخيل إلى داخل الصحن الواسع وهم يقطِّعون أوصال الشعب المتضرِّع للصلاة رجالًا ونساءً وأطفالًا. إنَّه دمُ هؤلاء الضحايا الذي يلطِّخُ الآن جدران الكاتدرائيَّة، بينما تشتعلُ الأيقونات المقدَّسة والكتب الدينيَّة بالنيران. في خضمِّ المجزرة، يمنع روبلوف اغتصابَ فتاةٍ صمَّاء بكماء بقتله للمعتدي الروسي. في المشهد التالي يتحرَّك روبلوف وسط الكاتدرائية المدمرة، منخرطًا في حوارٍ خياليٍّ مع رفيقه الراهب والرسام ثيوفان، الذي قضى نحبه في أثناء المذبحة. يعلنُ له أنَّه لن يرسُمَ من الآن فصاعدًا، وأنَّه قد نذر الصمت، فيقول: «قرَّرتُ أن أهبَ صمتي لله. لم يعد لديَّ ما أقوله للبشر». منهزمًا أمام عنف البشر – وأمام عنف فعلته هو نفسه – يحكمُ روبلوف على نفسه بالصمت كرجلٍ وكفنَّان. ورغم أنَّ رفيقه سيريل سيقول له لاحقًا في الحكاية بأنَّه «لا يوجدُ خطيئةً أسوأ من ترك الشرارة الإلهيَّة تموت»، يختار أندريه روبلوف دفن موهبته.

الجرس

بعد خمسة عشر عامًا تبدأ مرحلة إعادة الإعمار: قرَّر الأمير صبَّ جرسٍ جديد. يجوب الناس الريفَ بحثًا عن صانع أجراس، بلا جدوى: فقد اختفى جميع الحرفيين المهرة، إما كضحايا للغزو التتاري أو لوباء الطاعون. يتقدَّمُ مراهقٌ معرِّفًا عن نفسه، ألا وهو بوريسكا ابن صانع الأجراس نيقولاي. بثقةٍ غريبةٍ يصرُّ قائلًا: «أنا من سيصنعُ لكم جرس بلدتكم. لقد أورثني والدي سرَّ النحاس الرنَّان وهو على فراش الموت. أنا أعرف السر». يقودُ الشاب المشروع في كافَّة مراحله بسلطةٍ قاطعةٍ تكاد تكون استبداديَّة – من المكان الذي يجبُ حفر الحفرة فيه، إلى الطين اللازم للقالب، ومن ثمَّ المزيج المحكم من السبائك. يُجنَّد الشعب بأسره للعمل، ولا يوجد أحدٌ إلِّا ويخضعُ في نهاية الأمر لسلطةِ بوريسكا وإصراره. يواجهُ الشابُّ صانع الأجراس وكيل الأمير، مطالبًا بمزيدٍ من الفضَّة في خليط البرونز: «قل للأمير ألَّا يبخل. من يعرف سرَّ صانعي الأجراس؟ أنتَ أم أنا؟». في أثناء كلِّ ذلك، كان أندريه روبلوف، الراهب الصامت، يراقبُ بوريسكا بنظراته. سرعان ما ينشغلُ عمَّال الورشات في عملهم حول القالب المدفون، رافعين المعدن إلى درجة الانصهار. في اللحظة التي لا يعرفها سواه، يعطي الشاب صانع الأجراسِ إشارة الصب، غير أنَّه يطلبُ سرًا مساعدة الله. تنسابُ خيوطُ الحُممِ الملتهبة من المحادِد وتتلاقى متَّجهةً نحو القالب. وعندما يكتمل العمل، يبدأ الرجال في ضرب الجبل بالمطارق ويزيلون الجرس من غلافه الطيني المحترق، والذي ما زال ينبعثُ منه الدخان. وُلِدَ الجرسُ من أعماق الأرض، من ثمَّ رُفِعَ نحو السماء نحو السماء معلَّقًا على برجٍ مؤقَّت، وهو هيكلٌ ضخمٌ من الدعائم الخشبيَّة.
عندئذٍ تأتي اللحظة المناسبة. يدفع رجلٌ البندول ليبدأ حركتَه، فيصدرُ صريرًا خافتًا وهو يدورُ حولَ محوره. الأنفاسُ معلَّقة، وأندريه روبلوف هناك، منصتًا بكلِّ جوارحه. مع كلِّ تأرجحٍ يقتربُ الجرس من جدار ناقوسه (في تناغمٍ مدهشٍ مع مشهد ضربات المدق في أثناء نهب كاتدرائيَّة فلاديمير). لئن كان بالجرس أدنى تشقُّق فسيُسمعُ في الحال، وسيتحمَّل المراهقُ تكلفة ضمانه، هكذا أعلن الأمير. لكنَّ المعجزة تحدث: يضربُ الجرس جدار الناقوس المعدنيِّ ويتناغم معه، فينبعثُ رنينٌ نقيٌّ وعميقٌ يملأ السهل الشاسع. ولكن بدلًا من متابعة موجة الفرح التي تجتاح الناس، تأخذنا الكاميرا إلى بوريسكا المنهار في الوحل. يلتحق الراهب بالمراهق ويحتضنه على ركبتيه. بين دموعه وجزعاته الطفولية يكرِّرُ الفتى صانع الأجراس: «أبي، ذاك الوغد، لم يعلِّمني السرَّ أبدًا! مات دون أن يبوحَ لي به! أخذه معه إلى القبر، ذاك البخيل». في هذه اللحظة يعودُ أندريه روبلوف للكلام. ومواسيًا بوريسكا، يتعهَّد أن يبتكر أعماله هو بنفسه: «أترى، لقد نجحت في نهاية المطاف! سنتابعُ معًا. أنت تعملُ على سبكِ الأجراس، وأنا في رسم الأيقونات. يا لها من فرحةٍ للناس! يا له من سرورٍ وأنتَ تبكي!».
عندئذٍ يُفسحُ الأبيضُ والأسودُ المجال للألوان. تملأ الأيقونات الشاشة، رائعةً بتفاصيلها التي تتجلى ببطءٍ تحت عدسة الكاميرا7. وهكذا ينتهي الفيلم بوعدٍ منفَّذ: «سأرسمُ الأيقونات». ومع معجزة الجرس البرونزي تتجاوب معجزة الأيقونات الذهبيَّة.

الجرأة الخلَّاقة

يمكنُ فهم ذلك: حلقة صَهرِ الجرس هي استعارةٌ لكلِّ عمليَّة إبداعٍ فنِّي. من المؤكَّد أنَّ الفنَّان رجلٌ محترف، ملمٌّ بتقنيَّات فنِّه، ومزوَّدٌ بخبرةٍ عميقة. ومع ذلك، وفي اللحظة الأقصى من فعله الإبداعي، يغامرُ الفنان بتجاوز الحدود، متوغِّلًا في أرضٍ مجهولةٍ لم يسبق لأحدٍ أن وطئها، حيث لا أسرار قد نُقِلَت إليه. في هذه اللحظة، وفي ذاك الموضع، يكون الفنان وحيدًا، مستسلِمًا تمامًا لمخاطرةِ الابتكار، بما يحمله من عفويَّةٍ وضرورةٍ في آنٍ واحد.
موضوع مخاطرةِ الابتكار حاضرٌ منذ مقدِّمة فيلم تاركوفسكي، ممَّا يوجِّه فهم العمل بأكمله. تجسِّدُ المقدِّمة لحظة تاريخيَّة فريدة: ينجحُ فلَّاحٌ يُدعى ييفيم في التحليق، معلَّقًا في منطادٍ مصنوعٍ من الجلود والحبال، قبل أن يتحطَّم على الأرض. كتب تاركوفسكي ما يلي: «بالنسبة لنا، كان ذلك رمزًا للجرأة الإبداعيَّة – بمعنى أنَّ الإبداع يتطلَّبُ تقديم الكيان بأكمله. سواء كان شخصٌ يريد الطيران قبل أن يصبح ذلك ممكنًا، أو آخر يحاولُ صبَّ جرسٍ دون أن يتعلَّم كيفيَّة القيام بذلك، أو يرسم أيقونةً بطريقةٍ غير مسبوقة... جميع هذه الأفعال تتطلب ذوبان الإنسان في عمله بالكامل، وأن يهبَ ذاته بشكلٍ تامٍّ مقابل إبداعه. هذا هو معنى هذه المقدمة: لكي يطير، يضحِّي الإنسان بحياته»8.
ترتبط دراميَّة الإبداع الفنِّي عند تاركوفسكي بالبُعد اللاهوتي ارتباطًا لا ينفصم. إنَّ رؤية الشاب صانع الأجراس وهو يخاطرُ بهذه الطريقة قد أيقظت لدى الراهب الرغبة في الاستجابة مجدَّدًا للموهبة التي وهبها الله له، والسعي للتشبُّه به. لأنَّ الفن، وكما يشرحُ تاركوفسكي، «هو القدرة على الإبداع، انعكاسٌ لفعل الخلق الإلهي في المرآة. نحنُ كفنَّانين لا نفعلُ سوى تكرار هذا الفعل وتقليده. الفن هو إحدى اللحظات الثمينة التي نشبه فيها هذا الخالق9». يمكن القولُ إنَّ فيلم أندريه روبلوف يذهب إلى حدِّ قلبِ منظور التشبيه، دافعًا إيانا للتساؤل: أليس الإبداع الفني في حدِّ ذاته كاشفًا عن جوهر الله؟ ألا ينبغي لنا، بفضل فعل الفنَّان بما يحمله من عفويَّةٍ مليئةٍ بالمخاطر، أن نتخيَّل الله كخالق؟

«هناك مُتَّسعٌ للعالم بأسره وللخالق»

بعد أن يكون جرس صانع الأجراس الشاب «قد صار له لسان»، يُولدُ من صوته نشيدُ أجراس البلاد الأخرى. تمثِّلُ هذه الظاهرة التوسُّعيَّة، كما رأينا، الحقيقة النهائيَّة للعلاقة بين الشاب الصائغ والراهب، الذي يستعيدُ ميلاده الفنِّي ويعودُ إلى رسالته كفنَّان. وبشكلٍ مشابهٍ كان فيلم تاركوفسكي نقطةَ انطلاقٍ للعديدِ من الأفعال الإبداعية. وتُشتهرُ كلمات إنغمار بيرغمان التالية: «عندما اكتشفتُ أفلام تاركوفسكي الأولى، كان ذلك معجزةً بالنسبة لي. وجدتُ نفسي على نحوٍ مفاجئٍ أمام باب غرفةٍ كنتُ أفتقرُ إلى مفتاحها حتَّى ذلك الحين. غرفة طالما رغبتُ في دخولها، فيما كان هو يتحرَّكُ داخلها بحريَّةٍ تامَّة. شعرت 10بالتشجيع والتحفيز: شخصٌ ما قد عبَّر توًّا عمَّا كنتُ أرغب دائمًا في قوله، دون أن أعرف كيف».
كما أنَّ عمليَّة الخلق الإبداعي تحدثُ أيضًا من خلال تعاقب الأجيال. وقد تفاعلت أعمال الشاعر والمغنِّي البولندي ياسيك مارشين كاتشمارسكي (1957 – 2004) مع أعمال تاركوفسكي في عدَّة مناسبات. كيف لا نستشهدُ هنا بمقطعٍ من القصيدة الطويلة «روبلوف»:
من هذه الأرض، الغافلة عن الأحياء،
أفضل ما فيها هو الطين، المخصص لصهر أجراس الكنائس.
إلى أنغامها التي تنبع من أعماق الأرض، أمزج الأصباغ
لأيقونة أرسمها على لوح خشبي:
هناك مُتَّسعٌ للعالم بأسره وللخالق.
وفي الجيل التالي، لا بدَّ من الإشارة إلى المخرج ديمتري تراكوفسكي، المولود في موسكو عام 1985 (قبل أن تُهاجر عائلته إلى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة)، أي قبل عامٍ واحدٍ من وفاة تاركوفسكي. هذا المخرجُ يحملُ الاسم نفسه مع اختلافٍ طفيفٍ في حرفٍ ساكنٍ واحد، لكنَّ القرابة بينهما تظلُّ فنيَّةً فقط. احتفالًا بالذكرى العشرين لوفاة المخرج الكبير، أنجز تراكوفسكي عام 2008 فيلمًا وثائقيًّا بعنوان «لقاء أندريه تاركوفسكي» (Meeting Andrei Tarkovsky)، وحاز هذا الفيلم على عدَّة جوائز. يتَّخذ التحقيق – المكوَّن من خمسَ عشرة مقابلة مع أصدقاء ومساعدين للمخرج الروسي – شكلَ يوميَّاتٍ شخصيَّةٍ تعكسُ 11الإيقاع المميَّز لأفلام تاركوفسكي. لا تخلو هذه المقابلات من لحظاتٍ كاشفة، أبرزُها شهادة شابٍّ راهبٍ أرثوذكسيٍّ يروي كيف أنَّ أفلام تاركوفسكي كانت السببَ في اكتشاف رسالته الروحية.

المخطوط الأدبي

على الرغم من بلاغة الفيلم وكتابات أندريه تاركوفسكي، إلَّا أنَّها تتركنا أمام لغزٍ حول ولادة شخصيَّة أندريه روبلوف. تمَّت الإشارة سابقًا إلى السيناريو الأدبي للفيلم12. ونُشِر النصُّ النهائي لهذا السيناريو في مجلَّة Искусство кино (فنُّ السينما) في أبريل ومايو من عام 1964، ويُعتبرُ عملًا أدبيًّا قائمًا بذاته (تتألَّف نسخته الفرنسيَّة من 123 صفحة13)، ولا يشبه مجرد ملخص أو نصٍّ مقسَّمٍ تقنيًا كالمعتاد في السيناريوهات. النص هو سردٌ حقيقي، مدعومٌ بتصاعدٍ دراميٍّ مكثَّفٍ ومُقسَّمٍ بحواراتٍ نابضةٍ بالحياة على نحوٍ خاص. ويشغلُ فصل صبِّ الجرس وحده سبع عشرة صفحة؛ وكما هو الحال في الفيلم، يمثِّلُ هذا الفصل ذروة الحبكة بأكملها. ومع ذلك لا بدَّ من ملاحظةِ وجود اختلافٍ ملحوظٍ في المشهد الختامي، والذي يجمع بين الشاب بوريس (بوريسكا في الفيلم) وأندريه روبلوف بعد عمليَّة صبِّ الجرس. في النسخة الأدبيَّة، يكون الراهبُ هو الوحيد الذي يتحدَّث، حيث يواسي المراهق دون أن يكشف الأخير أيَّ شيءٍ عن عدم تلقِّيه سرَّ المهنة من والده. لذلك لا يختبرُ قارئ السيناريو الأدبي التغييرَ الدرامي الذي يُطلب من مشاهدِ الفيلم أن يعيشه. بالنسبة لهذا القارئ، تكمن المعلومة المهمَّة في ما قُدِّمَ في المشهد الأول من الفصل، كما قال الشاب بوريس حينها: «أنا أعرف السر. كان والدي يعرفُ سرَّ النحاس المُستخدم في صناعة الأجراس، وأورثني إيَّاه عند وفاته! لا أحد يعلمُ هذا السر سواي14». لذا لا يحتوي السيناريو الأدبي على عنصر المفاجأة الذي يقلبُ الأمور رأسًا على عقب كما هو في الفيلم، ويُجبرُ الراهب والمُشاهِدَ على إعادة النظر فيما حدث من قبل: لقد صنع بوريسكا الجرس الضخم دون أن يمتلك السرَّ الخاص بصُنَّاع الأجراس15. في النسخة الأدبيَّة تغيبُ تمامًا تلك اللحظةِ الكاشفةِ التي تشكِّلُ المحورَ الدراميَّ للفيلم بأكمله.
كيف يمكن منح الحق لهذه البيانات؟ يمكننا تخيُّل أنَّ تاركوفسكي قرَّر أن يُغفِل في نشرِ السيناريو (المبكر) ما سيكون العنصر الأكثر قوَّةً في الفيلم: كان على المفاجأةِ أن تكون من نصيبِ مشاهدي النسخة السينمائيَّة. ولكن من الممكن أيضًا أن تكون حبكة "روبلوف" قد تطوَّرت بشكلٍ تدريجيٍّ في ذهنِ تاركوفسكي. كان صبُّ جرسٍ كبيرٍ على يد حرفيٍّ مبتدئ، بناءً على سرٍّ نُقِلَ إليه في اللحظة الأخيرة، يحملُ طابعًا دراميًّا بالفعل. غير أنَّ الحلقة كانت لتصبحَ أكثر دراماتيكيَّةً بشكلٍ لا يقاس في حال عدم نقلِ السر. هل عاش تاركوفسكي هذه القفزة الإبداعيَّة في مرحلةٍ أكثر تقدمًا من تطوُّر الفيلم؟ هل جرَّبها في لحظة التصوير نفسها؟ هل أعاد التفكير في معنى العمل بأسره انطلاقًا ممَّا لم يكن يعرفه في البداية16؟ وهذا من شأنِه أن يخلق تأثيرًا مدهشًا كالمرآة بين الخلق الذي يُمثَّل – سواء كان صبَّ الجرسِ أو رسمَ الأيقونة – وخلق الفيلم – أو ابتكار الفيلم – الذي يروي تلك القصص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.أنظر:
Andreï Tarkovski, « Eto ochen’ vazhno », Literaturnaia gazeta, 20 septembre 1962, p. 1 ; cité dans Robert Bird, « Andreï Roublev d’Andreï Tarkovski », Cinéphilie, Les éditions de la transparence, 2008, p. 24.
2.أنظر:
Andreï Tarkovski, Le temps scellé, Éditions de l’étoile, « Petite bibliothèque des Cahiers du cinéma », 2004, pp. 42-43
3.أنظر:
R. Bird, Roublev, p. 12.
4.أنظر:
Andreï Tarkovski, Time Within Time. The Diaries 1970-1986, Faber and Faber, Londres, 1994, p. 74.
5.دير الثالوث المقدس في سيرغييف بوساد (الذي كان يُعرف سابقًا باسم زاغورسك)، مهد وقلاع الإيمان الأرثوذكسي الروسي، تم تأسيسه على يد سيرجي رادونيج في منتصف القرن الرابع عشر.
6.أنظر:
Andreï Tarkovski, Temps scellé, p. 105.
راجع أيضًا من الكتاب نفسه: «جوهر الفيلم هو أن الفنان لا يمكنه التعبير عن المثالية الأخلاقية لعصره إذا لم يمس جراحه الأكثر نزيفًا، إذا لم يختبرها ويعاني منها في نفسه» (p. 198-199).
7.كان تاركوفسكي يهدف بوضوح إلى التمييز بين لغة السينما ولغة الأيقونة. ومع ذلك، هناك تشابه يجمع بينهما في أعماله: «مثل الأيقونة، لا يمتلك عالم تاركوفسكي مركزًا مميزًا: بل يوحده مقصد غير مرئي، خارج الإطار، يصبح هو محور اهتمام المشاهد الرئيسي» (R. Bird, Roublev, p. 93). في هذا نجد بلا شك تأثير الجماليات التي طرحها بافيل فلورنسكي (1882-1937) على تاركوفسكي، وخاصة في مقالته «المنظور المعكوس». إذا كانت الأيقونة تمثل نافذة مفتوحة على عالم الله، فإنها تعكس أيضًا زيارة من الواقع الإلهي لعالمنا؛ فهي شاهدة على المطلق وفي الوقت نفسه دليل على وجوده.
8.أنظر:
Andreï Tarkovski, Andreï Roublev, Les éditeurs français réunis, 1970, p. 18.
9.أنظر:
Laurence Cossé, « Portrait d’un cinéaste en moine poète. Entretien avec Andreï Tarkovski », Les mardis du cinéma, France Culture, 7 janvier 1986.
إلى جانب موضوع المحاكاة الإلهية، تُضاف حبكة إنجيلية. يقول أنطوان دو باك في هذا الصدد: «يُعد فيلم أندريه روبلوف تجسيدًا للغز يُكشف تدريجيًا، وهو مثل مواهب الإنجيل. يجب على الإنسان أن يردّ أكثر مما تلقى [...]. على روبلوف، الذي حكم على نفسه بالصمت والجفاف الفني ودفن موهبته، أن يستعيدها ويبدع من أجل سيده؛ هذه هي الحبكة السردية للفيلم، الذي يرتكز بأكمله على هذه المَثل الإنجيلي» (Ant. de Baecque, Tarkovski, p. 99).
10.أنظر:
Ingmar Bergman, « Le plus grand », Positif, n° 303, mai 1986, p. 8.
11."السلالة الإبداعية" المذكورة هنا يجب أن تُعاد أصولها إلى ما قبل أندريه تاركوفسكي، وصولاً إلى شخصية والده، الشاعر والمترجم أرسيني تاركوفسكي (1907-1989).
حول مصيرهما المشترك في الخلق، أنظر:
Paola Pedicone et Aleksandr Lavrin, I Tarkovskij. Padre e figlio nello specchio del destino, Synthesis, Éditions Tracce, Pescara, 2008.
12.تمت كتابة السيناريو الأدبي للفيلم بالتعاون مع أندريه كونتشالوفسكي.
13.أنظر:
Andreï Tarkovski, Roublev, pp. 33-156.
14.المرجع السابق نفسه، ص 138-139.
15.هكذا ورد في النص الروسي الأصلي. أما الترجمة الفرنسية، التي نُشرت بعد عرض الفيلم، فتُضيف في ملاحظة: «في الفيلم، يعترف الفتى لأندريه وهو يبكي: "لم يخبرني أبي بسرّه! ذلك الوغد القذر، ذلك النذل الحقير! مات دون أن يقول أي شيء..."« (Andreï Tarkovski, Roublev, p. 154, note 1).
16.المَثَل الرمزي عن الفلاح الطائر الذي يفتتح الفيلم لا يظهر أيضًا في السيناريو الأدبي المنشور عام 1964.
بهاء إيعالي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا