مقالات

القاهرة سَفَر الأحلام

قدم المخرج سمير سيف أولى تجاربه التليفزيونية عام 1986 بالتعاون مع وحيد حامد الذي أنجز كتابة سيناريو مسلسل «سفر الأحلام» وشَجع مُخرج العمل على أن يكون هذا التعاون باكورة أعماله التلفزيونية.
تبدأ رحلةٌ طولها 16 حلقة مع «أنيس» (لعب دوره الممثل محمود مرسي) وهو رجل وحيد يعمل موظفًا في السكك الحديدية. هو أحد هؤلاء الموظفين المحبين لعملهم وزملائهم وحتى الركاب الغرباء بشكل يومي. لا زوجة لديه ولا أبناء، وعليه، انحصرت متعته وسعادته ودِفْؤه في التعامل مع المسافرين الغرباء بشكل يومي، حتى خروجه على المعاش ورحيله عن المحطة لتُكمل القطارات رحلاتها وحيدة. وهنا تبدأ قصة العمل حين يفكر أنيس في حلٍ لكسر وحدته، إذ يقترح عليه أحد الأصدقاء بأن يحوّل شقته الواسعة إلى بنسيون يستقبل فيه بعض السكان لكي لا يشعر بالوحدة بعد تقاعده. يبحث عن مديرة للبنسيون، ليقع الاختيار على مدام ماريكا، وهي يونانية، إلا أنها لم تكن غريبة عن القاهرة أو عن وظيفتها، ففي حديثها وأسلوبها ما يدل على أنها عاشت في القاهرة فترة طويلة، حتى إنها لا تقع في حِيَل «خميس» (نجاح الموجي) الذي جاء إلى القاهرة بحثًا عن عمل بعد أن كان يعمل حارسًا لِشُوَن القمح، وهو أول المسافرين وليس أول سكان البنسيون، إذ كان يعمل مساعدًا لماريكا وخادمًا للسكان. خميس شخصية مرحة، حادة الذكاء، على الرغم من أنه غير متعلم. في بعض الأحيان تشعر بأنه شخص نبيل وفي أحيان أخرى شخصية انتهازية، أما السكان الثلاثة فهم: أماني (آثار الحكيم)، حازم منصور (صلاح السعدني)، وفردوس (ناهد رشدي).
ثلاثة مسافرين مُحمَّلين بأحلام وأهداف مختلفة اجتمعوا تحت سقف واحد، سواء إن تحدثنا عن سكنهم في البنسيون أم إن تحدثنا عن تعرضهم للإحباطات والاستغلال وربما للصدمة في مجتمع مختلف قليلًا عن الأقاليم. أماني جاءت للبحث عن العمل، وحازم منصور -الكاتب المسرحي- جاء على أمل أن يجد لمسرحياته صدىً حقيقيًا في مسارح القاهرة، وفردوس قدِمت ومعها طفلها للبحث عن زوجها المختفي.
لا يلبثون إلا قليلًا حتى يواجهوا حقيقة المجتمع الاستغلالي كما كتبه وحيد حامد. جميع مَن حولهم يسعون لينالوا منهم شيئًا ما حتى إن لم يبدوا كذلك. أماني فتاة ريفية جميلة سرعان ما تصبح مطمعًا لمدير عملها في شركة السياحة، وسريعًا ما تفقد وظيفتها لرفضها سياسة الاحتيال على الباحثين عن فُرَص عمل في الخارج. أما حازم -المُنسحب من أولى جلساته الثقافية في القاهرة لرفضه نبرة اليأس والإحباط في حديثِ مُنظِّم الجلسة عن المشهد الأدبي- هو الآخر يتورط في صفقة زواج بإحدى سيدات المجتمع البرجوازي على إثر وعدٍ منها للتوسط له لتنفيذ إحدى مسرحياته على خشبة مسرح حقيقي، إلا أنها لا تحقق شيئًا مما وعدته، ويُدرك حازم أن زواجه بها لم يكن حقيقيًا. الحقيقة أنه كان قد أدرك الأمر قبل زواجه بها، لكن بعضًا من قِيَمه في نهاية الأمر قد ضعفت وتلاشت قبل أن يتدارك الأمر مرة أخرى، وربما ما كان لهذا التدارك أن يحدث لو أن زوجته استطاعت أن تُحقق له إحدى مسرحياته.
فوضى في كل مكان تُعيق خطوات أبطالنا لتحقيق ما جاءوا من أجله، وأسرارهم تُنسى فور الدخول من باب البنسيون، فهم -حتى إذا تشاركوا السقف والتلفزيون والهاتف- لا يزالون غرباء، وحلقة الوصل بينهم هو أنيس، ليس لكونه المالك فقط -لا ننسى أن فكرة البنسيون أصلًا جاءت ليحظى أنيس ببعض الأنس- بل لأن في ذلك فائدةً له من الناحية المادية، خصوصًا بعد تقاعده، كما أنه يناسب حاجته إلى كسر الوحدة والتواصل مع البشر طوال الوقت. ما اختلف في تواصل أنيس مع سكان البنسيون أنه لم يشاركهم الابتسامات فقط كما في محطة القطار، بل شاركهم الفرح واليأس والإحباط ومشكلات الحياة اليومية. أصبح في مكانة الأب لدى أماني وحازم ولا يكتفي بالاستماع لهم، بل يتولى معهم مسؤولية قراراتهم ومشكلاتهم كما لو أنهم أبناؤه. أما خميس، فلم أره إلا تجسيدًا مصغرًا لمجتمع القاهرة العبثي كما سطّره وحيد حامد، فهو لا يمانع أن يقضي لك خدمة ويستدرجك للحديث عن أسرار حياتك حتى تنقضي من الحديث، وسرعان ما ينصرف ويفشي أخبار البنسيون عند سليمان، صاحب معرض الإلكترونيات الذي يستخدم خميس في خطته لمحاولة إقناع أماني بالزواج به، وإغرائها بالمال والهدايا، ولا مانع لديه -خميس- أن يعمل في الوقت نفسه لأنيس ويحطم زجاج معرض سليمان، عميل مزدوج كما في الأعمال الحربية. العبث يطول شخصيته بطريقة تجعلك تتساءل عمّا إذا كان يفعل ذلك لكسب بعضٍ من المال أم لمتعته الشخصية.
أما الغرفة الثالثة فتجد ساكنًا بعد أن تصل فردوس من مدينة المحلة، بوجه شاحب وجسد يبدو عليه آثار المرض، مع طفل لا يتجاوز عمره ست سنوات، للبحث عن زوجها المختفي منذ عام. ترفض الحديث أو الاختلاط بجميع السكان، وتخرج للبحث حاملةً ابنها على كتفيها دون أن تشارك أحدًا سبب قدومها إلى القاهرة. يكتشف أنيس أنها في مهمة للبحث عن زوجها بعد أن يستقبل اتصالًا من شخص غريب بخصوص إعلان كانت قد كتبته فردوس في جريدة لمن يستطيع أن يُدلي بأي معلومة حول مكان زوجها، ليضع نفسه في دور الأب للمرة الثالثة ويخبر أماني وحازم عن حقيقة الأمر وأن عليهما مساعدتها دون إيذاء شعورها، وكان أنيس يحاول صرف انتباهها عن اتصالات المُستغلين للإعلان ممن يريدون المال دون علمهم عن زوجها ولا مكانه. وهكذا تشابكت الخيوط وتحوّلت علاقة السكان ببعضهم من غرباء إلى أسرة، حاملين هموم ومشكلات بعضهم قبل المسرات، فنجد حازم يساعد أماني بعد أن تورطت في العمل لمكتب محاماة وهْمِي تابع لإحدى العصابات، وأماني تساعد فردوس وأنيس في العثور على «عادل»، زوج فردوس المفقود، بعد أن تعرفت عليه واتضح أنه مجنون متنقل في شوارع وميادين القاهرة، يصيح بكلمات ونصائح شديدة العمق الفلسفي، لا يمكن أن تخرج من مجنون أو صاحب مرض عقلي. تستطيع أماني العثور عليه وإعادته إلى البنسيون حيث تسكن فردوس، إلا أن فرحتهم برجوعه لا تدوم طويلًا بعد أن يقرر هجْر زوجته وابنهما مبررًا قراره بحديث فلسفي حول أنه لا يستطيع العيش في مجتمع فوضوي لا يلتزم بالقوانين ويتسم بالعشوائية. في حقيقة الأمر، كان يهرب من مواجهة إخفاقه في حياته العملية (كان يعمل مهندسًا صناعيًا)، فيدّعي الجنون ويهرب مرة أخرى بلا رجعة. تاركًا فردوس لتصارع المرض وحيدة.
يستطيع حازم أن يحظى بفرصة لقراءة إحدى مسرحياته في ندوة مهمة أمام جمهور وبحضور أحد النقاد، وهناك يلتقي بكاتب كبير يشيد بموهبته ويدعوه لموعد في منزله. يلبّي حازم الدعوة ويجد بعضًا من الكُتّاب الشباب يعملون في شكل ورشة كتابة: هم يكتبون وتُنشر أو تخرج الأعمال للتلفزيون باسم الكاتب الكبير. بعد لحظات قليلة من اكتشاف الأمر، تتحطم أحلام حازم في أن يحقق شيئًا من كتابته المسرحية، فيقرر العودة إلى قريته بعد أن تقدم للزواج بأماني وكان ردها بالقبول، ليكون السفر الأخير، مودّعَين أنيس الذي قرر الاعتناء بفردوس فيما بقي من عمرها القصير، وتَوَلّي مسؤولية ابنها بشكل كامل، لينتهي بذلك سفر الأحلام.
لا أرى أن الأحلام شيء يطمح إليه الإنسان؛ بدت لي أنها أقرب إلى ما يراه النائم، إذ اقترب كلٌ من المسافرين لتحقيق حلمه حتى تلاشى وتحطم تمامًا. أشار العمل -وربما بشكل غير مقصود- إلى أنه لا مكان للنية الطيبة التي تصل حَدَّ السذاجة في المجتمع القاهري، حيث لم يستطع أحد أن يصل إلى مراده إلا خميس، لأنه كان انتهازيًا منذ البداية، والقاهرة هنا ليست إلا استعارة للمجتمع الحديث في العموم، وإن كنتَ ساذجًا في مجتمع مثل القاهرة كما كتبها وحيد حامد، إما أن تتحطم أمام قِيَمِك، أو تتحطم قِيَمُك أمامك. وهنا أتساءل: هل القاهرة حقًا سفر الأحلام؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. زياد سليم
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا