من المفارقة أنّ الإقامة في العالم اليوم، فعلا فيه أو انفعالا به، تمرّ حتما عبر الصّورة، سواء تلك التي تقدّم مباشرة كما في نشرات الأخبار والروبرتاج وعروض الفرجة أو تلك التي تتسلّل إلينا عبر القصّ الفيلمي أو الرّكحي أو معارض الفنّ التّشكيلي، فتكون سلاح هيمنة ثقافيّة ناجعة بالنّسبة إلى من يمتلك آليات تشفيرها وسبل فكّ شيفراتها، وأنّ أغلب نقّادنا لا يولون بالا لهذه الحقيقة. فيُزجّ بهم في المعركة الحضارية عُزّلاً يفتقرون إلى المعرفة بآليات تشكّل هذه الصّورة وطرق تأثيرها في المتقبّل وتوجيه إدراكه الوجهةَ التي تُراد له. ولكن لا يخلو المشهد من الاستثناءات ومن بقع الضوء. منها الناقد «إبراهيم العريس»، بصفته باحثا في السينما ومؤرخا للجماليات وللثقافة ومترجما ينقل عن اللغات المختلفة، منجذبا إلى السينما، متحرّرا من دوغمائية الانتماء الأيديولوجي الضيق إلى الانتماء الكوني. وفي ظله بات يُفهم أنّ التاريخ الحقيقي ليس عرض وقائع الحروب والمؤامرات السياسية وفق عبارته، وإنما هو تاريخ الاقتصاد والأديان والفنون، بما هي مؤشرات لتطور الذهن البشري.
ومثّل تقديمه لدرس سينمائي، ضمن فعاليات مؤتمر النقد الثاني، فرصةً للتحاور مع الشباب ولنقل الشغف السينمائي. واتخذ الحوار لاحقا مشاربَ كثيرة اشتركت في سؤال النقد بين الأدب والسينما والفنون.
1- السينما: الفن الذي يضم بقية الفنون ويتجوزها في الآن نفسه
تختلف السّينما وفق إبراهيم العريس، عن بقية الفنون:
- بما هي جمعٌ بين الإبداع والصناعة. فتسعى من ناحية، إلى الآثار المبتكرة من جهة الفن، وتبحث عن الأعمال القادرة على جلب الجمهور إلى شباك التذاكر من جهة الاستثمار، من ناحية ثانية.
- وبما هي إبداع مشترك، يجمع بين كاتب السيناريو ومدير التصوير ومهندس الإضاءة ومركّب للفيلم والممثل، حيث يعمل هؤلاء جميعا وفقا لرؤية المخرج الفنية.
واشتمالها على النص والأداء التمثيلي والتصوير يجعلها تضم مختلف الفنون كالأدب والمسرح والفنون التشكيلية وتتجاوزها في الآن نفسه. ولذلك يقتضي تذوقها والبحث في احتمالات معانيها تذوّق بقية الفنون والتعرّف على السياق الحضاري والإبداعي الذي يُنتج فيه الأثر الفنّي.
لكن إلى أي حد كان المثقف العربي واعيا بذلك؟ يمثّل هذا المعطى موضوع مؤاخذة واحتراز لدى إبراهيم العريس. فيذكر مثلا أنّ الشاعر الكبير أدونيس يفخر بكونه لا يشاهد الأفلام، على خلاف درويش الذي كان يختلف إلى نادي السينما، لمّا كان مُشرفًا عليه في بيروت زمانا.
2- في تقبل الفنون والإسهام في إنتاج معانيها
ليست الآثار جامدةً في فهم العريس. وتَقبُّلها يتجدد بين لحظة وأخرى. فهو يجد في رواية «الإخوة كرامازوف» مثلا، معانٍ جديدة كلّما عاد إليها. فكلّما كان الأثر مُبتكَرا وأصيلا، أخرجَ مُتقبِّله من سلبيته وأشركه قارئًا أو متفرّجًا، في إنتاج المعاني. ويتحقّق ذلك بتشفيره على أساسٍ ما، يُترك فيه للمُتقبِّل ما به يعمل على فكّ هذا التشفير. ولكلّ منّا ثقافته وانتماؤه الحضاري وتجاربه. وهذا ما يجعل معاني الآثار تختلف من متقبّل إلى آخر. وهنا يستدعي إبراهيم العريس مقولات «أمبرتو إيكو» في أثره «القارئ في الحكاية»، خاصّة مفهوم «الثقافة الموسوعية» التي يستند إليها المرء للقيام بعملية الاستدلال بحثا عن مساربِ المعنى.
ويُشدّد على أن نأخذ بعين الاعتبار، أنّ السينما فنٌّ صعب من جهة صناعته ومن جهة تقبله على حدّ سواء. ولذلك لا بدّ أن نتعامل معه بجدية وأن نحاول الإحاطة بخلفيات المخرج الجمالية والفكرية حتى ننفذ بسلاسة إلى عوالمه الإبداعية.
3- في العلاقة بين نقد الفنون عامّة والنقد السينمائي
يشدّد العريس في مداخلته على أنّ السينما تستدرجنا إلى عوالمها وإلى حيوات شخصياتها. فالإبداع لا ينفصل عمّن يبدع وعن تجاربه في الحياة ورؤاه للفنّ. والفُرجة تكون بذلك حياةً مختلفةً عن حياتنا الخاصة، نعود بعدها إلى واقعنا بشكل جديد ورؤى متجددة. ولا بدّ للمتفرّج المتيقّظ والناقد الحصيف، إذن، من أن يكونا ضليعين بكل ما يتعلّق بالحياة وأن يتعاملا بروحٍ نقديةٍ مع ما يُعرض عليهما؛ بمعنى ألاّ يُسلّما بكل ما يقدّم لهما، وأن يبديا الآراء في ما يعرض، جماليا وفكريا. ذلك أنّ النقدَ السينمائي -أكثر من كونه عملاً تقنيًا تحليليا- إبداعٌ على الإبداع. ولا يتسنّى ذلك إلاّ بالانتباه إلى المراجع الفنية التي تشتغل في ذهن المخرج والتي يستقيها بدون شكّ من بقية الفنون.
4- خلفيات أكاديمية وموقف سالب من الأكاديميين
في الحديث عن النقد الأكاديمي يشير إلى أنّ الأكاديميين لا يفهمون السينما كثيرا. فهم عنده يفسّرون الظواهر الفنية ولا يكتشفونها اكتشافا جديدا. أما الناقد فغير ذلك، فمُنطَلقه حب السينما والتعاطي معها على نحو إبداعي. ولعلّ صياغته هذه تُلمِّح إلى البعد الانطباعي المتوهّج في النّقد، المختلف كليّا عن رصانة العمل الأكاديمي أو برودته بعبارة أخرى. أو لعلّه ينطلق من واقع عديد المثقفين العرب الذين ينظرون بتعالٍ إلى فن السّينما فلا يتعاملون معها بشغف النّاقد. ولكن في الحالين، لم تكن آراؤه تخلو من خلفيات أكاديمية، رغم موقفه السّالب هذا. ففضلاً عن استدعائه لمنجز «أمبرتو إيكو»، حضَرَت في درسه مقولاتُ «دولوز» خاصّة وهو يصنّف اللقطات إلى ثلاث عائلات مختلفة، فيخصّ اللقطة المقربة بالبعد التأثيري، ويجعل من السينما المعاصرة «سينما المتلصّصين»، التي يغدو العالم من حولها غامضًا ملتبسًا، فيدعُونا باستمرار إلى فك شيفرته، بعد أن طوّر الصورةَ حركةً.
5- إبراهيم العريس الباحث المتجدّد
ما يُحسب لإبراهيم العريس تجدّده المستمر. فالمباحث الجمالية اليوم - على اختلاف مقارباتها- تتّفق على أنّ الأسلوب ليس أبدا ثوبا يلبسه «الأثر» وعلى أنّ «الشّكل» ليس أبدا مسألة شكلانية صرفا. وتؤكدّ أنّ عوالم القصّ تتحقّق خاصة من خلال وساطة العلامة الطبيعيّة (اللّغة في حال الأدب) حيث يكون الجامع بين الدّال والمدلول والمرجع الخارجي اعتباطيّا. فيخلُق القصّ الأدبي عالمًا ممكنًا، فيما يكون في حال اللغة البصريّة، وفي حال السينما منبثقًا من قانون التّشابه والمضاعفة الميكانيكيّة. فيخلُق عالمًا آخر ممكنًا أيضًا، ولكن لكل منهما أنظمته وأنساقه. ومن ثمّة اختلفت سبل النّفاذ إليهما وتعسّر على من لا ينتبه إلى ما بينهما من الاختلافات السّيميائيّة والتداوليّة والوسائطيّة العبورُ من عالم أحدهما إلى الآخر.
وهذا ما كان العريس يُلِحّ عليه مؤكّدًا وعيَه بأنّ لهذا الاختلاف السّيميائي تبعاتٌ جمّة على مستوى آليات إنتاج المعنى. فتضمن درسُه السينمائي دعوةً مستترة إلى اعتماد المقاربات البينيّة، التي تفيد من الرّؤى البحثيّة في السّرديات والنّقد التّشكيلي والنّقد السّينمائي والمسرحي والعلوم العصبية والتّحليلية النّفسية، وفق تبادلٍ فعّال للمؤثّرات الواردة من الاختصاصات المختلفة، وتستثمر خصائص السّيميائيّات انطلاقًا من البحث في العلامات وفي سياق نشأة الخطاب ومقاصده التّداوليّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش