مقالات

المؤرخ بين التاريخ والسينما: علاقة الكتابة التاريخية بالفيلم الوثائقي

«إن الشريط السينمائي ليس فقط وثيقة تاريخية، بل قطعة وجزء من التاريخ»(4)

بولسلو ماتوشيفسكي

تُعدّ الأفلام الوثائقية واحدة من الأدوات المهمة التي تُستخدم لشرح الماضي، وتسجيل الحاضر، والتنبؤ بالمستقبل. إنها وسيلة تتفاعل مع العقل البشري عن طريق نقل القضايا والمشكلات والأحداث التي تواجهها المجتمعات والدول. ومن خلال هذا الأداء، تسهم الأفلام الوثائقية في دعم مبدأ الإنسانية وتعزيز التلاحم بين الشعوب. إن مجال الكتابة التاريخية قد تطور وتوسع ليشمل حقول معرفية متعددة، وزادت مصادره لتشمل السينما بوصفها فنًّا حديثًا يوثّق الأحداث والوقائع التاريخية. وقد خدمت السينما المؤرخ بتوفير وسيلة جديدة لنشر المعلومات التاريخية.
تطرح السينما الوثائقية أيضًا تساؤلات حول علاقة المؤرخ التاريخي بأسلوبه في كتابة التاريخ، وكيف تؤثر أساليبه في صنع الفيلم الوثائقي. هل يمكن اعتبار صانع الفيلم الوثائقي مؤرخًا؟ وما هو الدور الذي يلعبه المؤرخ التاريخي للتأثير في صانع الفيلم الوثائقي؟

الفيلم الوثائقي.

عرّف النقاد والسينمائيون الفيلمَ الوثائقي بالفيلم الذي يقدّم وثائق وحقائق للجمهور بهدف توجيهه وتوعيته، ويعرض حياة الفرد أو الجماعة الواقعية من خلال رصد كيفية عيشهم وتدبير حياتهم خلال مدة معينة(2). وقد انبهر عدد من المفكرين والأدباء والمؤرخين بالأفلام الوثائقية، واعتبرها مارك بلوخ واحدةً من أغرب الظواهر في عصرنا، وأحد أروع المقاييس الثقافية والاجتماعية التي ترصد واقعنا، وكانت مدرسة الحوليات هي أول من اعتبر الأفلام السينمائية مصدرًا من مصادر التاريخ (2).
لكن كيف صنع الفيلم الوثائقي مكانته بين أنواع الأفلام؟ أصبح الفيلم الوثائقي واحدًا من أبرز الأفلام التي لا بد وأن يتوقف المُشاهد أمامها كثيرًا، وارتبط بالمصادر المهمة للمعلومات التاريخية التي تضيف كمًا متنوعًا من المعلومات لا تقدمه أي مصادر أخرى. إن واقعية الفيلم وتصويره المباشر للأحداث يضفي عليه صبغة الصدق والأمانة في نقل الحدث باللقطات الحية لوقائع حربية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، ولهذا استطاع الفيلم الوثائقي أن يجيب عن كثير من التساؤلات التي تدور في ذهن المُشاهد، وعززت ارتباطه بالأحداث الجارية وبالأحداث المشابهة التي حدثت في الماضي.
والذي أبرز مكانة الفيلم الوثائقي بين أنواع الأفلام كان رؤية صناع السينما نحو الفيلم الوثائقي ومحاولاتهم لتوسيع أهدافه، ومن وأبرزهم جون غريرسون، فأصبحت الأفلام الوثائقية إعلامية، وتثقيفية وترفيهية، ولكي يكون الفيلم الوثائقي ذا دور تثقيفي وتعليمي يقوم على بناء التفاهم بين الجماهير، يجب أن تكون هذه النوعية من الأفلام بمثابة أداة للتحويل التربوي، وكلما كان الفيلم الوثائقي قريبًا من اهتمامات الجمهور وعلى قدر ثقافته، ويخاطب عقله، زادت درجة مصداقيته للرسالة الوثائقية(2).
والفيلم الوثائقي يوثق التاريخ ويتحرى الدقة دائمًا في سرد الوقائع التاريخية، ويستعين كثيرًا بالمتخصصين، وبصور من الواقع، وهذا التوثيق التاريخي يُعدّ أمرًا حساسًا، حيث يجب ألّا تتعرض هذه الوقائع التاريخية للتأويل أو التحيز أو التغيير، بل يجب أن تُعرض كما هي، وتعززت مكانة الفيلم الوثائقي من خلال إنتاج المؤسسات الحكومية، ليس بهدف الربح فقط، بل لعرض تلك الوقائع كما هي على حقيقتها.

نشأة الفيلم الوثائقي.

ارتبط ذيوع الأفلام الوثائقية ارتباطًا وثيقًا بظهور السينما، ويُعدّ الفرنسيون أول من استخدم مصطلح الأفلام التسجيلية عام 1916، إذ استُخدمت في وصف أفلام الرحلات التي تتناول موضوعات تتعلق بالمكان والحدث أو الشخص، واستخدم الإنجليز مفهوم الوثائقي ليس فقط على الأفلام التي تسجل الواقع، بل على الأفلام التى يُضاف إليها الرأي، وجاء بعد ذلك غريرسون واستعار مصطلح الفيلم الوثائقي في مقال نُشر في مجلة نيويورك عام 1926 وقد تداوله المتخصصون بعد ذلك(1).
وظهرت الأفلام الوثائقية وتحول هدفها منذ أن ظهرت الأحداث السياسية والحروب، خصوصًا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وارتبطت أماكن ظهورها ببعض الدول التي كانت طرفًا في هاتين الحربين، وتُعدّ روسيا من أوائل الدول التي استخدمت السينما، حيث طوّعتها لتوثيق الأحداث السياسية التي وقعت أثناء محاولة البلاشفة الاستيلاءَ على السلطة، وتُعدّ الأفلام الوثائقية التي تم تصويرها في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين في روسيا نوعًا من التاريخ السينمائي للثورة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين(1).
أما ألمانيا فقد بدأ اهتمامها بمجال الأفلام الوثائقية منذ عام 1925، إلا أن بدايتها الفعلية كانت بعد تولّي أدولف هتلر الحكم في ألمانيا عام 1933، وكان لزامًا على دُور السينما إنتاج الأفلام الوثائقية التي تغطي جميع النواحي في الحياة النازية وتزيد الجماهير خلفه، ويُعدّ فيلم «انتصار الإرادة» (1936) من أبرز الأعمال الوثائقية الألمانية(1).
ومرّت الولايات المتحدة بأهم خطوة في ميدان الفيلم الوثائقي الأمريكي عام 1935، وظهر بعده فيلم «أرض إسبانيا» (1937)، وفيلم «400 مليون» (1938)، ويُعتبر هذان الفيلمان أول بيان تفصيلي عن المآسي التي مهّدت للحرب العالمية الثانية، وعندما اقتربت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء عام 1944، ظهرت الأفلام الوثائقية التي تعمل على تدعيم الجيش معنويًا مثل فيلم «سان بيترو» (1945) و«حسناء ممفيس» (1944)، وقد صورت هذه الأفلام أهوال الحرب العالمية ومعاركها(1).

الكتابة التاريخية.

إن الكتابة -باعتبارها ذات رسم ومعنى- قد عملت على تحرير الإنسان من سطوة الذاكرة والتذكر والنسيان، وحوّلت ما ينطقه إلى رسوم وكلمات ذات معانٍ متعددة، فهي نسيان للذات وإحالة على الخارج، ونقيض للذاكرة، ومؤشر من مؤشرات عالم الثقافة، في تاريخ زمن الثورة الرقمية والمعلوماتية بمجتمع يكرس أكثر وقته للإعلام، فهو أحد التغييرات المهمة التي تلقي بظلالها اليوم على مشهد الكتابة التاريخية(2).
والكتابة التاريخية تتميز بالطابع التقريري والإخباري في التعامل مع معطيات تاريخية، والكتابة التاريخية التحليلية للوثائق باختلاف أنواعها، فهي ترتهن بشروط داخلية وخارجية للوثائق، وبذاتية المؤرخ، وبمدى دقة الفرضيات التي يضعها(3).

نشأة الكتابة التاريخية.

في القرن التاسع عشر أصبحت الممارسة التاريخية أكثر احترافية ومهنية، وأصبح لها طرائقها وأساليبها الخاصة، وفي هذا القرن بدأ التاريخ يستقل على المستوى الأكاديمي، وبنى نفسه في حقل العلوم، وأصبح التاريخ يعتمد أساسًا على الوثائق، والمؤرخ المحترف تخلّص بشكل كامل مما كان يسميه أساتذة التاريخ بجامعة السوربون بـ«جراثيم الأدب»(4).
وتميزت مرحلة القرن التاسع عشر بالثورة الوثائقية، حيث أدخلت المدرسة المنهجية قواعد صارمة في التعامل مع المصادر، فكل مقولة كان يجب أن تكون مصحوبة بدلائل وإحالات إلى مصادر معتمدة، ومن خلالها ظهر الاهتمام بالمحفوظات والخزانات ودور الأرشيف، وأصبح الاهتمام بالوثائق أساس البحث التاريخي والشغل الشاغل للمؤرخين. خلال هذه المرحلة المهمة من تطور مهنة المؤرخ برزت أسماء كبرى في ميدان التاريخ الأكاديمي وأهمها: غابرييل مُونود، شارل لانغلوا، وفوستيل(4).
وفي القرن العشرين أحرز التاريخ إنجازات هائلة، وصار الفكر التاريخي مبحثًا مستقلاً قائمًا بذاته، وقد أُطلق على هذا القرن «قرن التاريخ»، وذلك لانتعاش هذا الفرع المعرفي أكثر من أي وقت مضى، وفيه وُضعت قواعد صارمة للتعامل مع المستندات والوثائق، ويوصف هذا القرن تاريخيًا أيضًا بـ«قرن الحروب العالمية»، و«قرن الصراعات»، و«قرن الإيديولوجيات الكبرى»(4).

المؤرخ وصانع الفيلم الوثائقي.

إن المؤرخ وصانع الفيلم الوثائقي يتشاركان إلى حد كبير في الالتزام بأخلاقيات التواصل مع الجمهور مع ما يصاحبها من فكرة الحقيقة والحياد، ويمكن أن تتكامل جهودهما لخلق تجربة تاريخية شاملة وملهمة، فالمؤرخ يعتمد على البحث والكتابة، في حين يعتمد صانع الفيلم الوثائقي على نقل الصورة، والمؤرخ يحرر الوقائع والأحداث، وصانع الفيلم يختزلها في لقطات، وتلك اللقطات هي وثيقة تاريخية مهمة بالنسبة إلى المؤرخ، ومن الزوايا المشتركة بين صانع الفيلم والمؤرخ: الاستناد إلى الوثائق؛ إن كلاً من صانع الفيلم الوثائقي والمؤرخ يتشاركان النفع في تبادل الوثائق والحقائق التاريخية، فالمؤرخ يعتمد على أرشيفات السينما، وكذلك صانع الفيلم الوثائقي الذي يجمع المخطوطات والرؤى المختلفة التي عاصرها المؤرخ في تلك الحقبة. إن شكَّ المؤرخين تجاه الفيلم الوثائقي لم يمنعهم من تقديم خدماتهم بوصفهم مستشارين تاريخيين لصانعي الأفلام الذين يتناولون موضوعات تاريخية، وذلك ضمن نموذج «بي بي سي» BBC للفيلم الوثائقي التاريخي، وأصبح المؤرخ يعمل مستشارًا ومصدرًا لمراقبة الجودة التاريخية وفقًا للحالة الحالية للتاريخ(4).
وعَمَلُ صانع الفيلم الوثائقي يُعدّ مصدرًا تاريخيًا مهمًا للباحثين، فعمله هو وثيقة وثّقت حدثًا ما، أو حول شخصية معينة، وذلك من خلال تسجيل جزء حي من زمن ما، بتفاصيله المرتبطة بالمكان، والاحتفاظ بالفيلم بوصفه وثيقةً يمكن عرضها والرجوع إلى تفاصيلها، كما أن المؤرخ يرجع في إسناد وثائقه إلى المصادر التاريخية الكلاسيكية مثل المخطوطات والمذكرات التي تعتمد على الوصف واستنطاق الذاكرة، فإن صانع الفيلم الوثائقي تفوّق في عرض الوثائق التاريخية، وذلك من خلال قدرته على تسجيل تفاصيل الحدث مصورًا بالحركة والصوت في مَشاهد الحرب أو اللقاءات الرسمية لحكام الدول، أو مشاهد لحياة جماعات بشرية في منطقة ما.

أسلوب الكتابة.

إن المؤرخ عند كتابة حدث تاريخي يمر بمراحل محددة، فيبحث عن المصادر الموثوقة والمتنوعة للحصول على معلومات دقيقة، ويجمع الوثائق، ويعمل على تنظيمها وترتيبها وفرز الملائم منها، ثم يقوم بطبخها، ويقدمها بالأسلوب الذي يروق له، ومن ثم يحلل السياق التاريخ ويحلل تأثير الحدث في المجتمع، ويرتب الأحداث بتسلسل منطقي، وينتهي بتفسير أسباب الحدث ونتائجه.
بهذه الطرائق يعكس المؤرخ خبرته ومعرفته التاريخية، وقد تعلّم واقتبس منه صانع الفيلم الوثائقي في أسلوب بحثه وكتابته فأصبح صانع الفيلم في مرحلةِ ما قبل التصوير يهيّئ ويكتب الفيلم من خلال قراءة وفهم الموضوع التاريخي، وبعد البحث المعمق في الوثائق المتاحة له، يبدأ بكتابة السيناريو الذي يطرح كيفية تناول ومعالجة موضوع الفيلم، مع إمكانية إعداده للمقابلات التي تتضمن شهادات لشخصيات لها علاقة بالموضوع، وتكون تلك الشخصيات إما متخصصين، أو شهودًا، أو تُجرى المقابلة مع الشخص نفسه.
وختامًا، فإن دور المؤرخ بين السينما والتاريخ يعبّر عن تلازم وتفاعل قويين بين الكتابة التاريخية التقليدية والسينما الوثائقية الحديثة، ويشكّل المؤرخ جسرًا بين العالمين، حيث يمزج بين القدرة على البحث واستكشاف الأحداث التاريخية بعمق، والقدرة على تقديمها على نحو مؤثر، وصانع الفيلم الوثائقي يقدّم وسيلة قوية لتوثيق الأحداث ويُبرز جوانب غير معتادة من التاريخ، فهو يتيح للجمهور فهمًا أعمق للسياق التاريخي من خلال التجربة البصرية والصوتية، بأسلوب روائي مبتكر.
وعلى الرغم من الاختلاف في وسائل التعبير، يتجلى تشابك وثيق بين الكتابة التاريخية والفيلم الوثائقي، فيمكن للكتابة التاريخية توفير السياق والتحليل العميق، في حين يقدّم الفيلم الوثائقي لحظات من التاريخ على نحو حيوي وملموس، وتكامل هذين المنهجين يُثري تجربة فهمنا للماضي ويُلهم الكثيرين للاطلاع على الأحداث التاريخية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.الزيات، حامد (2018) الأفلام الوثائقية مصدرًا للمعلومات التاريخية: دراسة تجريبية. جامعة بنها.
2.المشروح، بوشتي (2022) السينما والكتابة التاريخية. مجلة ليكسوس، جامعة سيدي محمد.
3.طحطح، خالد (2012) الكتابة التاريخية. ط١. دار توبقال للنشر.
4.حسيني، محمد (2018)علمية الكتابة التاريخية. جامعة القادسية.
مريم عبدالله
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا