«الكولنيالية»
هي اقتراض لفظي من اللّغات الأنجلوساكونية واللّاتينية معًا، يشير إلى عقيدة تأصلت في الفكر الغربي، وتُعتبر من أعراض التحالف المشين بين السلطة والمعرفة، فتكرّس المركزية الغربية التي تخلق ضربًا من التعالي والشعور بالتفوق عند المثقف تجعله ينخرط في المشروع الاستعماري ويبرّره. ومن المفارقة أنّ هذه العقيدة لا تُرصد في ذاتها وإنما من خلال الخطاب الذي تتسرب إلى أعطافه فكرًا أو أدبًا أو فنًا، ولا تدرَك إلا من خارج خطابها ومن خلال الدراسات المناهضة لها التي تجعل من آثار الاستعمار على الثقافات والمجتمعات موضوع بحث. ويُصنَّف قطاعٌ مهم من الاستشراق، ذلك الخطاب الأكاديمي والمناهج والمباحث التي ظهرت تلبية لحاجة الغرب إلى تعميق معرفته بحضارة الشرق، ضمن النزعة الكولونيالية، فالمستشرق، بحسب قاموس أكسفورد، هو مَن تبحّر في لغات الشرق وآدابه ومَن طلب علومه وتعمّق في دراسة أحوال الشّعوب الشرقية ولغاتها وتاريخها وحضارتها، ولكنه يمثل كذلك، وفق إدوارد سعيد، أسلوبًا في التفكير يستند إلى التمييز الأنطولوجي والإبيستيمولوجي بين الشرق والغرب.
ومن مباحث الدراسات الكولونيالية علاقة الأنا الغربية بالآخر وتجلي المركزية الأوروبية في الخطاب وسمات الكولونيالية الجديدة. وتبقى الدّراسات السينمائية منها على قدر من التعقيد، رغم تداول مباحثها وكثرة كتاباتها. ووجه الإشكال فيها تفريعاتُ دراساتها وطبيعة الأسئلة التي تطرحها. لذلك سنحاول أن نبحث في الخطاب السينمائي الكولونيالي: ما تعلّق منه بقديمه أو بحديثه الذي بات يُعرف بالكولونيالية الجديدة.
1- السينما الكولونيالية وسياق نشأتها
مثل كل خطاب كولونيالي، تجعل السّينما الكولونيالية من المجتمعات المستعمَرة أو الأقل تطورًا موضوعًا لها، فتستهدف، وهي تُظهر لمتفرّجيها الغربيين أنماط حياة شعوبها وثقافتها وأسلوب تنظيمها، الترفيهَ أو إنتاجَ معرفة حول الشعوب البعيدة المختلفة أوّلاً، ولكنها تمزج على نحو ما -وراء التسلية- بين وصف الأعراق البشرية والدعاية الاستعمارية، فتفضح تصورات المستعمِر لنفسه وللآخر، وهو يؤكّد شعوره بالتفوق الحضاري الغربي ويستعرض القوة الخارقة للرجل الأبيض ويقدّم الاستعمار على أنه خدمةٌ للإنسانية وللمجتمعات المستعمَرة أساسًا وتخليصٌ لها من التخلف من جهة، وتكشف تصورات المستعمَر المستلَب لنفسه و«للسّيد الأبيض» من جهة ثانية.
يدرس محمد الكرادي نماذج من هذه السّينما المصورة بالمغرب الكبير زمن الاستعمار، ويبحث في الصّورة التي تصنعها حول شعوب شمال إفريقيا1، فيجد أنها «تركز على عدة مجالات سطحية مبتذلة في المجتمع، واستغلتها من أجل تركيز الاستعمار ومؤسساته، مع الاقتصار على إبراز الفولكلور والفيالق الفرنسية، والضباط الإسبان والملاهي والفنادق المغربية التي في الشبه بماخور مفتوح في وجه الأوربي المغامر»2. ولعلّ انخراط هذه السينما في خلق تمثلات معيّنة ترسّخ الاستعمار وتوجِد له المبرّرات الأخلاقية هو ما دفع الثورة الجزائرية إلى إنتاج خطاب سينمائي مضادّ اعتبرته وجهًا من وجوه الكفاح دفاعًا عن هوية الجزائر وتحقيقًا لحلمها في الاستقلال، فعملت جبهة التحرير الوطني على تكوين بعض الجنود في مجال السينما سنة 1957 بولاية -آ- من المنطقة الخامسة، تحت إشراف الفرنسي الذي انضم إلى جيش التحرير الوطني رونييه فوتييه، وأنتجت مجموعة من الأفلام الوثائقية وُزّعت في عديد من الدول الاشتراكية للتعريف 3بقضيتها الوطنية وجرائدَ وثائقية تعرض بطولات مقاتليها في الجبال.
2- دراسات ما بعد الكولونيالية
ظهرت في مرحلة ما بعد قيام الدولة والوطنية دراساتُ «ما بعد الكولونيالية»، فعملت على البحث في دور الاستعمار في تشكيل الثقافات وتنظيم المجتمعات، وتُعرَّف بكونها «نزعة ما بعد حداثية، ودراسة أكاديمية للإرث الثقافي الكولونيالي والإمبريالي، تركز على النتائج البشرية المترتبة عن حكم [كذا] واستغلال المجتمعات المستعمَرة وأراضيها. إنها تحليل نظري نقدي لتاريخ السلطة الإمبريالية الأوروبية، ولثقافتها وأدبها وخطابها. وعلى الرغم من أن مصطلح ما بعد الكولونيالية مصطلح إشكالي، فإنه يُتخذ عمومًا ليحيل على الأزمات السوسيو- اقتصادية والثقافية التي تسببت فيها النزعة الكولونيالية»4.
يحاول هذا الخطاب التخلّص من نزعة التّعالي والتّحرّر من عقدة المركزية ليكون إنسانيًا، وأكثر من ذلك، نضاليًا، فيُعَرِّف بالثقافات المختلفة ويدافع عن التنوع الثقافي ويسعى إلى المحافظة على هذا الثراء الإنساني ويناهض العولمة التي تفرض الأسلوب الغربي المادي باعتباره التّصور الأمثل للوجود، ويجد مساندةً من النّقد الثقافي الذي يتجاوز البُعد الجمالي أو الشكلي للخطاب ليبحث في حركة الأنساق المضمرة والمتعددة والمتداخلة والمتفاعلة داخليًا وخارجيًا وليبرز دور 5الكولونيالية في صناعة الآخر وفي إنتاج الذات من خلال ضمان تبعيته لها.
ويترسّخ الاعتقاد شيئًا فشيئًا بأنّ الكولونيالية لم تُفكَّك إلاّ لتحل محلها كولونيالية جديدة أكثر دهاء وأبرع تخفيًا وأصعب في الكشف عنها وتحديد معالمها ومقاومتها من الكولونيالية الصريحة الأقدم. ومن أساليب مناورتها عملُها في شكل تحالف بين بقايا القوى الكولونيالية السّابقة والقوى العظمى الجديدة الصّاعدة في المشهد العالمي مثل الولايات المتّحدة الأمريكية، فتلعب دورًا حاسمًا في مصائر هذه الدول «المحرَّرة» عن طريق تثبيت الأسعار في الأسواق العالمية، والشركات 7متعددة الجنسيات، والاتحادات الاحتكارية، إضافة إلى أدوار المؤسسات التعليمية والثقافية التابعة لها.
3- السينما ما بعد الكولونيالية:
يُراد من السّينما ما بعد الكولونيالية مستويان. يتعلّق أولهما بالخطاب السينمائي الذي أُنتج في مرحلة ما بعد الكولونيالية، فتجعل القراءة من المرحلة الكولونيالية موضوعًا لها، وعبر التخييل تصرّف مواقفها حول المستعمِر أو تبرز تصور المستعمَر لذاته وللآخر بعد تحرّره. أما المستوى الثاني فيتعلّق بقراءة هذه السينما الكولونيالية ذاتها، فتعيد فيها النظر، وعبر تفكيك خطابها تبرز توظيف الكولونيالية للإنتاج السينمائي وترصد التضاد بين ما تعلنه من انتصار للمدنية والحضارة والعدالة، أو للجماليات والإحساس، وما تُضمره من أفكار كامنة، غير واعية أحيانًا، تصل الإبداع الفني بأهداف العملية الإمبريالية وتوظّفه لخدمتها، فبدل التركيز على المقاربات الجمالية المعتمدة في نقد الأفلام إذن تبحث هذه القراءة في السياقات المؤثرة في خلق المعنى وتعمل على تقويض مقولات الكولونيالية القائمة في البنى العميقة بما فيها من تمثيل للآخر على نحو يبرر استعماره ونهب خيراته.
يتخفى الخطاب الكولونيالي الجديد وراء عناوين مغرية لتكريس المركزية الغربية ولنهب مقدرات الشعوب الأخرى وتعميق فكرة تفوق القيم الأوروبية فطريًا على مثيلاتها لدى السكان الأصليين. ولذلك كان على هذه القراءات أن تطوّع مقارباتها حتى تنتبه إلى الخطاب المناور وإلى رسائله الكامنة في الطبقات العميقة كما أسلفنا. عندها يتحول البحث في اللغة السينمائية والمعايير الجمالية إلى آلية ترصد وجوه توظيف هذه الكولونيالية للسينما الجديدة للتلاعب بعقل المتفرّج، ضمن ما يُصطلح عليه اليوم بالغزو الثقافي، ولفرض تمثلاتها عليه ليذعن فيسلم بها تسليمًا عاطفيًا بعد أن تُعطَّل آليات إدراكه لرسائلها إدراكًا عقليًا واعيًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
يوكّد محمد الكرادي أنّ هذه السينما تظل وثائق صالحة للاعتماد، وفق معايير معينة، في الدراسات التاريخية خاصّة عندما تعوزنا المصادر رغم ما يشوبها من تهجين وذاتية محرّفة للواقع. ومن هذا المنطلق درس الباحث درس وجوها من التأريخ في .1 السينماالكولنيالية المغاربية. فيقول "إن أفلاما مثل (الأسياد الخمسة الملعونين (les cinq gentlemen maudits) المصور بتونس سنة 1919م و(الأطلنتيد L’Atlantide) المسجل بالصحراء الجزائرية سنة 1921م أو فيلم (يطو)) (Itto) الذي يرصد حياة قبائل الأطلس الكبير في المغرب سنة 1934 م، وغيرها من الأفلام الروائية التي صورت بكل من الجزائر وتونس والمغرب زمن الاستعمار الفرنسي تحيلنا بشكل أو بآخر إلى جزء من ماضي هذه البلدان بدايات القرن العشرين بكل تنوعه وثرائه الذي غالبا ما غفلت عنه المصادر التاريخية، من عادات وتقاليد ومخلف مظاهر الحياة اليومية التي ترصدها عدسة المخرج" محمد الكرادي: علاقة التاريخ بالسينما، السينما الكولنيالية ببلدان المغارب نموذجا، مجلة قرطاس الدّراسات الفكرية والحضارية، المجلد 8 العدد (1) 2021 ص 1.224.
م. ن. ص 222. 2.
3. "السينما كانت إحدى المعطيات التي أفرزتها حرب التحرير، بل إن مجموعة من السينمائيين استشهد أفرادها في هذه الحرب.. كانت الحاجة ملحة لإيجاد سينما تواكب مسيرة حرب التحرير التي بدأت عام 1954، وكان لا بد لهذه السينما أن تنطلق من منطلق علمي مدروس ولا تكون مجرد مغامرة، لهذا وفي عام 1957 فتحت مدرسة للتكوين السينمائي في الجبال بولاية -آ- من المنطقة الخامسة. وكان مديرها رونيه فوتبيه (وهو فرنسي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني).. وكانت تقوم بمهمة تعليم وإعداد سينمائيين. كما كانت تنتج عدة عروض تلفزيونية (وزعت على شبكات تلفزيون البلدان الاشتراكية في تلك الفترة)". جان الكسان، السينما في الوطن العربي، سلسلة عالم المعرفة، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 21، مارس 1515، ص ص 510 - 3.512 .
ليلا غاندي: نظرية ما بعد الكولونيالية، مدخل نقدي، ترجمة لحسن أحمامة، صفحة سبعة للنشر، ط1، الجبيل، المملكة العربية السعودية ص. 4. 8.4.
انظر بيل اشكروفيت وآخرين: دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي وآخرين، المركز القومي للترجمة، ط 1 القاهرة 2010 ص 5. 5. 267.
6. ابتكر رئيس غانا الأسبق نكروما هذا المصطلح أول الأمر. وفيه تطوير لتعريف لينين للإمبريالية باعتبارها المرحلة الأخيرة للرأسمالية.
انظر: بيل اشكروفيت وآخرين: دراسات ما بعد الكولونيالية، ص ص 254-7. 255.