تشهدُ السينما السعوديَّة اليوم نهضةً ملحوظةً في مختلف المجالات، وكان للأفلام الوثائقية نصيبٌ واضحٌ من هذا التطوُّر، حيث باتت تُقدِّم قصصًا محليَّةً تعكسُ عمقَ المجتمع وتحوُّلاته. ومن بين هذه التجارب، يأتي فيلم «مركب فرسان» للكاتب «نايف نجر»، الذي يعيد إحياء قصَّةٍ إنسانيَّة كادت تُنسى، مقدمًا إياها بأسلوبٍ يمزجُ بين التوثيقِ والإبداعِ البصري.
يروي الفيلم القصَّةَ الحقيقيَّة لرحلةٍ بدأت عام 2016، عندما انطلق سبعة شبَّانٍ في رحلة صيدٍ قصيرةٍ حول جزيرة فرسان قبالة سواحل جازان. كانت الرحلةُ مقرَّرةً لساعةٍ واحدةٍ فقط، لكنَّها سرعان ما تحوَّلت إلى محنةٍ بعد أن تسبَّبت الرياح الكثيفة في حرفِ مسارهم باتجاه الحدود اليمنيَّة المضطربة. ومع إدراكهم للخطر، حاولوا العودة، لكنَّ نفاد الوقود تركهم عالقين في عرض البحر. لمدَّة 90 ساعة، انجرفوا بلا طعامٍ أو ماء، محاطين بالمخاطرِ من كلِّ جانب، سواء من القراصنة الذين قد يعترضون طريقهم أو من إطلاق النار المحتَمل من السواحل القريبة. عاشوا لحظاتٍ يائسةً فقدوا فيها الأملَ في النجاة، إلى أن لاحت لهم بارقةُ أملٍ قلبت مسار الحكاية.
يُقدِّم العملُ تجربةً سينمائيَّةً تُعيدُ إحياء تفاصيلِ الحادثة، منذ لحظة الانقطاعِ وحتى العثور على المفقودين سالمين. وبين مشاعرِ القلق والتحدِّي، يُظهِر الفيلمُ كيف يمكن للأفلامِ الوثائقية أن تحفظ قصصًا قد تُنسى، وتحوِّلها إلى شهادةٍ بصريَّةٍ تُحاكي الواقع وتُعيد الذكريات إلى السطح.
على هامش مهرجان البحر الأحمر السينمائي، كان لنا هذا اللقاء مع الكاتب «نايف نجر»، يحدِّثنا فيه عن رحلته مع هذا المشروع، من الفكرة وحتى التنفيذ، متطرِّقًا إلى التحديات التي واجهها في جمع الروايات وبناء السرد، ورؤيته لمستقبلِ الأفلام الوثائقيَّة في السعودية ودورِها في تقديم قصصٍ محلية تُلامس وجدان المُشاهد.
- "مركب فرسان" هو أول عملٍ وثائقيٍّ لكَ ضمن انتاجات شركة ثمانية، والتي لطالما أثَّرت بشكلٍ كبيرٍ على عالم الأفلام الوثائقية. كيف نشأت فكرة هذا الفيلمِ لديك؟
أؤمِنُ بشدَّةٍ أنَّ هناك العديدَ من القصصِ المهمَلة والمبعثرةِ على قارعة الطريق، وهي النوعيَّة التي أضعها في صدارةِ اهتماماتي أثناءَ البحث، لا سيما تلكَ التي تحمل أبعادًا سينمائيَّةً وتشويقيَّة.
أتذكر في عام 2016 ظهورَ وسمِ (هاشتاق) مفقودي فرسان والتفاعلَ الكبيرَ الذي حظي به آنذاك. وفي عام 2023، بينما كنتُ أبحثُ عن قصَّةٍ للعمل عليها في فيلمٍ وثائقي، صادفتُ الوسمَ مجددًا. قادني الفضول إلى تصفُّحه مرَّةً أخرى، ومن خلاله تمكَّنتُ من التواصل مع أشخاصٍ أوصلوني إلى المفقودين أنفسِهم. بعد ذلك شددتُ الرحالَ إلى جازان للقاءِ إحدى الشخصيات المرتبِطة بهذه القصَّة.
للأفلام الوثائقيَّة ارتباطٌ وثيقٌ بعمليَّةِ البحث والاستكشاف، سواءً فيما يخصُّ الشخصيَّةَ المرادَ تسليطُ الضوءِ عليها أو التفاصيلَ المحيطةَ بها. كيف أثَّرت تجربة "مركب فرسان" على طريقة استكشافك؟ كيف تمَّ بناء سرديَّة الفيلم؟ وهل واجهتَ أيَّ صعوباتٍ في أثناءِ جمع المعلوماتِ أو توثيقِ القصص؟
ربما أكبرُ فائدةٍ اكتسبتها من هذه التجربة كانت محاولةَ تحدِّي القصة بشكلٍ أكبرَ في التجربة الثانية. ما عزَّز إصراري على تنفيذ هذا المشروع، بدلًا من التردُّد حول المضيِّ فيه، هو رغبتي في اختبار قدراتي على بناء السرد، إلى جانب خوضِ مشقَّةِ جمع المعلومات وإقناع الشخصيَّات بالمشاركة.
في مجال صناعة الأفلام، تُعتبر التجربة هي المعلم الأكثر تأثيرًا، حيث إنَّ الاعتمادَ على النظريَّة فقط لن يحقِّق نتائجَ ملحوظة. والأهم من ذلك أنَّه وبغضِّ النظر عن حجم القصة، أؤمِنُ أنَّ التحدي الأساسيَّ يكمنُ في كيفيَّة روايتها. هنا تحديدًا تُصنع الأفلام العظيمة أو تَفقِد بريقها.
ما هي الآلية التي قمت باتباعها للتأكد من صحَّة المعلومات التي حصلت عليها من خلال عمليَّة البحث، وما أبرز التحديات التي واجهتك في هذا الاتجاه؟
كانت القصَّة تحملُ طابعًا شخصيًا جدًا، لذلك ركَّزتُ على التأكُّد من الروايات التي قدَّمتها كلُّ شخصيَّةٍ من الشخصيَّات الثلاثة على نحوٍ فردي. اعتمدتُ بشكلٍ أساسيٍّ على النقاطِ المشتركة التي توافقوا عليها. هناك بعضُ القصص التي، مهما حاولتُ التحقق من تفاصيلها، يصعبُ الوصولُ فيها إلى اليقين، لأنها تستند إلى حدٍّ بعيدٍ إلى ذكريات الشخصيات وحالاتهم النفسية وقتئذٍ. لهذا، كنت استكشف القصَّة أكثرَ من لعبِ دور الاستقصاء فيها.
«أبو الريش»، إحدى الشخصيات الرئيسية في القصة رفض التعاون معكم، كيف أثّر هذا على البناء السردي للفيلم، وما هي أسباب هذا الرفض من وجهة نظرك؟
بذَلتُ عدَّة محاولاتٍ لإقناعه، لكنَّني أظنُّ أنَّ السببَ الرئيسيَّ لرفضه كان خوفَه من تأثيرِ الحادث على سمعته وعمله. أتذكَّرُ أنَّه قال لي في مكالمتي معه: "الموضوع انتهى بالنسبة لي وما راح اتكلَّم عنه ابدًا"، لذلك حرصنا أثناء سردِ القصَّة على تقديمِ صورةٍ متَّزِنةٍ ومحترمةٍ عن أبو الريش، خاصَّةً أنَّه لم يكن حاضرًا معنا.
كيف حُدِّدَت الشخصياتُ التي ظهرت في الفيلم، وما هي المعايير التي استُخدِمَت لاختيارها؟ هل كانت هناك شخصياتٌ أو قصصٌ لم تتمكَّن من تضمينها، وتمنَّيتَ أن تكونَ موجودة؟
باستثناء شخصية أبو الريش والضابطُ المكلَّفُ بعمليَّة البحث، واللذين كان يمكنهما أن يضيفا عمقًا وقوَّةً للسرد، ركَّزنا بشكلٍ أساسيٍّ على الشخصيَّات الثلاثة الأكبر سنًا من بين الستة. فقد كانوا الأكثر قدرةً على استرجاعِ تفاصيلِ الحدثِ بشكلٍ كامل. أما بالنسبة لبقيَّة الشخصيات من المفقودين، فقد رأيتُ أن ظهورهم جميعًا قد يضعفُ عنصرَ التشويق ويقلِّلُ من ترقُّبِ المُشاهِد لمعرفةِ مصيرهم.
هل كانت لأيٍّ من التفاصيلِ الإنتاجيَّة تأثيرٌ في نصِّ الفيلم، وهل واجهتكم تحدِّياتٌ تتطلَّب تغييرًا في السيناريو المرسوم سلفاً؟
عملنا على ما يقارب 36 نسخة من الفيلم، وكنت كثيرًا ما أُرهق المخرج "موفَّق العبيد" بأفكارٍ جديدةٍ تظهرُ في كلِّ مرَّةٍ نقتربُ فيها من النسخة النهائيَّة، فنقوم بتجربتها. إلى جانب ذلك، كان تصوير المشاهد الروائية في البحر تحدِّيًا إخراجيًَا وإنتاجيًَا جديدًا واجه كلَّ أفرادِ الفريق.
كيف عكست الرؤية الإخراجيَّة لموفَّق على الفكرة الأساسيَّة للفيلم؟ ما تفاصيل مشهد الرسومِ المتحرِّكةِ التي عُرِضت، والتي تذكِّرنا بأسلوبِ المخرجِ الأمريكي كوينتن تارانتينو في فيلمه المعروف Kill Bill.
جاءت فكرة استخدام الرسومِ المتحرِّكة خلال حديثٍ عابر بيني وبين المخرج موفَّق العبيد في غرفة التحرير. حينها اقترح موفَّق أسلوبًا مشابهًا لطريقة كوينتن تارانتينو. دعمْتُ الفكرة رغم إدراكي للفوارقِ الكبيرة في الإمكانيات؛ فكوينتن استعان بفريقٍ يابانيٍّ متخصِّصٍ في الرسوم المتحركة، بينما كنَّا نعملُ ضمنَ جدولٍ زمنيٍّ ضيِّق. ومع ذلك رأيتُ أنَّ استخدام الرسوم المتحركة سيوفِّر إحساسًا هزليًا يتماشى مع طبيعةِ ذلك المشهد.
هل هناك مشاهد معينة في الفيلم تراها محورية، وتعكس الفكرة الرئيسية؟
أعتقد أن مشهد سفينة البابوري، إلى جانب لحظات الانفجار في السماء عند وصولهم إلى اليمن، كان من بين أصعب المشاهد تنفيذًا. رغم ذلك، كنتُ على يقين تام بقدرة المخرج موفق وفريق العمل في تنفيذه.
كيف عكست قصَّة الفيلم، والتي تستند إلى أحداثٍ واقعيَّةٍ لشخصياتٍ حقيقيَّة، التحدِّيات الاجتماعيَّة والثقافيَّة التي واجهها المشاركون؟
أتذكر عندما خرجتُ من العرضِ الأوَّل للفيلم، أوقفني شخصان - شابٌ وفتاة - وقالا: "احنا سبق وضِعنا في البحر ليش ما تسوي فيلم عنَّا؟"
اكتفيت حينها بالضحكة، هناك الكثير من الأشخاص الذين يرغبون أن تُروى قصَصهم ولكن بشكلٍ مناسب.
هل لديك مشاريعُ أخرى تحت الإعداد أو أفكار تودُّ تنفيذها بعد "مركب فرسان"؟ وما هي رؤيتِك لمستقبلِ صناعة الأفلام الوثائقيَّة في ظلِّ هذا التدفُّق الكبير من الإنتاج السينمائي السعودي؟
لدينا، بإذن الله، أفلام وثائقيَّة قادمة، وهناك أيضًا أعمالٌ قيد الإنتاج حاليًا، وأتمنى أن تصلَ إلى الجمهور قريبًا.
أما فيما يتعلق بمستقبل الأفلام الوثائقية، وبكلِّ صراحة، ما تزال النظرة العامة تجاهَها في مجتمعنا تميلُ إلى التقليل من قيمتِها. كثيرٌ من الوثائقيَّات السعوديَّة لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقُّه مقارنةً بالأفلام الروائيَّة. أعتبرُ نفسي محظوظًا بالعملِ مع شركةِ ثمانية، والتي تعطي اهتمامًا كافيًا للأفلامِ الوثائقية. لكنَّني وبشكلٍ عام مقتنعٌ بأنَّ الأفلام الوثائقيَّة قادرةٌ على أن تكونَ ممتعةً بنفس قدر الأفلام الروائية، بل ويمكنها أيضًا المنافسةُ في صالات السينما. كلُّ ذلك يعتمد على الأسلوب السرديِّ والقصَّة المطروحة.
في فرسان، حاولنا تقديم عملٍ يحمل هذا التوجه، وأعتقد أنَّها كانت تجربةً أولى تحملُ إيجابيَّاتٍ وسلبيَّات، لكنَّها خطوةٌ في الاتجاه الصحيح. الفيلم الوثائقي لا يجب أن يكون بالضرورة تقليديًا أو مملًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش