يبدأ فيلم «انفصال» (A Separation) (2011) في قاعة محكمة وينتهي في قاعة محكمة أخرى. ما بين البداية والنهاية ثمة قضايا عديدة تبقى مُعلقة بنهايات مفتوحة تَعوّدنا عليها في أفلام «أصغر فرهدي». يبدأ الفيلم بـ"سيمين" وهي تعرض على القاضي دواعي طلب الانفصال عن زوجها "نادر"، وينتهي بانتظار قاضٍ آخر قرار ابنتهما "تيرميه"، فمع أي طرف ستقرر أن تعيش؟
عنوان الفيلم في الظاهر يتناول حالة فردية، شخصية: "انفصال سيمين ونادر". لكن مضمون الفيلم يُظهر جوانب عديدة للانفصال: انفصال الأبناء عن الآباء والمُواطن عن الوطن والفرد عن المجتمع، وانفصال طبقات المجتمع عن بعضها، إضافة إلى طرحه لسؤال المستقبل الأفضل للجيل الجديد: أن يظل في الوطن أم يبحث له عن وطن آخر؟ وهل الهجرة في هذا السياق تُعد نوعًا من الهروب؟ يمزج فرهدي كل ما سبق من خلال السرد البصري والحوار المضمر بين سطوره.
القاضي والمُشاهِد
يُفتتح المشهد الأول بجملة على لسان القاضي مخاطبًا سيمين، من وراء الكاميرا: «الأسباب التي ذكرتِها غير كافية للطلاق». تَستكمل هذه الجملة الاستدراكية حوارًا محجوبًا وتُشير إلى جزء مفقود لم نشهده. ذلك الجزء يتعلق بالمُبررات التي ذكرَتْها سيمين للقاضي وهي مبررات غير مهمة فعلًا، لأن الانفصال لا يحتاج لأسباب حقيقية، ولأن القضايا -التي ستتضح من خلال أحداث الفيلم- ليست شخصية أو فردية، تتعلق بانفصال سيمين ونادر فقط، بل قضايا عامة أعمق. اللافت أن سيمين تنظر إلى الكاميرا وهي تخاطب القاضي، وحضور القاضي صوتًا واختفاؤُه جسدًا له دلالتان: الأولى تتعلق بحضور القانون بماهِيته لا بتجسيدِه عبر شخص، والثانية، وهي الأهم، تشير إلى أن القاضي الحقيقي هو المُشاهد.
مدة المشهد ثلاث دقائق ونصف، يبدأ في الدقيقة 1:36 وينتهي في الدقيقة 5:18. المشهد وجيز لكنه يُلخص وضع المرأة الإيرانية في ظل حكم ولاية الفقيه والثقافة الذكورية، كما أنه يعطي صورة عن وضع البلد السياسي والقضائي والاجتماعي وهو الوضع الذي دفع بالزوجة من حيث الظاهر للتخطيط للهجرة إلى بلد آخر.
ينتهي المشهد بحكم قاضي المحكمة لصالح الزوج، واضعًا مصير سيمين بِيَد نادر. يقول القاضي لسيمين: «الأمر بينكما» فالقانون الساري هو قانون الذكر، ولا وجود لقانون مدني يحمي المرأة، أو لعل هذا القانون مُعطل في ظل سيادة الثقافة الذكورية المدعومة بسلطة رجال الدين. هذا الحُكم يُشعر الزوجة بالظلم، فتقترب في نهاية المشهد من الكاميرا، ناظرةً إلى القاضي -أو المُشاهد- بنظرات هي خليط بين الثقة والاستعطاف، تدعو بها المشاهد لكي يحكم في قضيتها. وفي نهاية الفيلم، يضع القاضي الآخر مصير الزوجين بيد ابنتهما، وفي كلا القضيتين، الأمر متروك للمُشاهد.
ما سيَلي ذلك من مَشاهد يسرد تفاصيل لم تعد تهم قاضي المحكمة، لكنها مهمة للقاضي الحقيقي وهو المُشاهد، فيبدأ المشهد التالي والزوجان يغادران أروقة المحكمة، بزاوية تصوير خلفية، أي من وراء نادر وسيمين. والكاميرا بهذه الزاوية تدعو المُشاهد ليتتبع تفاصيل حياة نادر وسيمين وينظر في أساس المشكلة. هذا المشهد -الذي لا تتجاوز مدته عشر ثوانٍ- يلخص وضع المرأة في المجتمع من خلال سير الزوج أولًا وخلفه بأمتار تتبعه الزوجة، ويشير أيضًا إلى أن الانفصال قد تم ولو لم تُصادق عليه المحكمة.
يُظهر المشهد الأول رغبة سيمين في سفر زوجها معها، لكنه لا يريد أن يترك والده المصاب بالزهايمر وحيدًا. هنا قد يتعاطف المشاهد مع الزوج ويصادق على حكم القاضي، ولهذا يلزم سيمين مشاهد أخرى للفوز أو لتعديل النتيجة، وهذا ما تحقق عبر مشاهد لاحقة مع حميها، والد زوجها. ففي أحد المشاهد يناديها حموها ويسألها إلى أين هي ذاهبة، فتقترب منه وتخبره بأنها ستعود، ثم تحدثه بصوت متهدج -دليل على رأفتها- فيمسك بيدها للحظات وبلغة صامتة يقول لها: «لا تتركيني». نظرات الزوجة التالية هي مزيج من الحيرة والأسف. وفي مشهد لاحق يخلط حموها بينها وبين الخادمة "رضية" فيخاطبها بـ"سيمين"، وفي هذا إشارة إلى رعاية سيمين له وحضورها في وجدانه على الرغم من فقدان ذاكرته. وفي مشهد آخر يتبول على نفسه ثم يمتنع عن الكلام وهو ما يدل على شعوره واحتجاجه على ما يحدث بطريقته.
وجوه الانفصال
زوجة تطلب الانفصال بسبب ظروف قاهرة، فمن الملوم؟ مزاج الزوجة أم طموحها؟ أم أنها أحوال البلد، السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية؟ هذا السؤال تجيب عليه سيمين حين يسألها القاضي عن دوافعها للهجرة قائلًا: «ألا يوجد مستقبل للأطفال في هذا البلد؟» فتجيب: «أُفضِّل ألا تنمو طفلتي تحت هذه الظروف وهذا حقي بصفتي أم». بقية مَشاهد الفيلم تؤكد جوابها من خلال عرض مشكلة أكبر، وهو ما يعني أن قضيتها ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما الجزء المخفي فله جوانب عديدة للانفصال، وبالتالي فالمُحاكمة هنا هي محاكمة لبلد لا لفردين فيه، وهذا ما سيتضح عند قول القاضي لسيمين: «مشكلتك صغيرة» وما سيتأكد أيضًا من خلال مشكلة "رضية" عن المرأة الإيرانية، الأم والحامل، التي تضطرها ظروف الحياة والديون للعمل خادمةً -من دون علم زوجها العاطل عن العمل- ثم تداعيات تعرضها للإجهاض وما يجره عليها من مشكلات.
انفصال نادر وسيمين هو قضية ثانوية قياسًا للقضية المحورية التي تمثلها رضية، كما أن دور سيمين يُعد صغيرًا قياسًا لدور رضية الذي يستغرق ثلثي زمن الفيلم تقريبًا، فـ"رضية" هي التي تجسد شخصية المرأة الإيرانية المغلوب على أمرها، وقد بدا ذلك من خلال اختيار فرهدي للمثلة ليلى حاتمي -بملامحها الأوروبية- لتؤدي دور سيمين، واختيار الممثلة "سارة بايات" بملامحها الإيرانية (الشعبية) في دور "رضية ".
بظهور رضية تتحول قضية سيمين ونادر إلى هامش. سيتم التركيز من هنا على قصة رضية من خلال البحث عن حقيقة ما يجري بعد أن يدفعها نادر خارج الشقة، مما يؤدي إلى سقوطها وإجهاضها كما تدّعي في البداية. ثمة دليل آخر يشير إلى صغر مشكلة سيمين وهو عدم جديتها في طلب الطلاق، ويتضح ذلك من خلال حديثها مع ابنتها حين تخبرها أنها لم تكن تنوي ترك البيت حقًا، وهذا ما تقوله "تيرميه" لأبيها، وكأن قرار الهجرة والانفصال هو وسيلة تتأكد بها سيمين من مكانتها عند زوجها. تقول سيمين بلهجة معاتبة: «لم يقل حتى: "لا تذهبي، لا أريد أن أطلقك"، وكأننا لم نعش معًا أربعة عشر عامًا».
جوهر القضية
أمام مشكلة رضية تصبح مشكلة سيمين عتبة للولوج إلى مشكلة أكبر، ومن مجموع المشكلتين تتضح إشكالية أهم هي وضع الطبقتين المتوسطة والفقيرة واشتباكهما بالدِّين والتعليم والثقافة. ومضمون الأحداث يبين أن مشكلة سيمين يمكن أن تُحل بالسفر، لكن ما السبيل إلى حل المشكلة الأعقد لكثير من نساء إيران؟
في الوقت الذي يوجه فيه الفيلم نقدًا عامًا مبطنًا للسلطة السياسية والدينية ولكثير من الأوضاع في إيران، يوجه أيضًا نقدًا للمرأة المثقفة التي تلجأ لحل مشكلاتها بالهروب. والحل المضمر الذي يقترحه الفيلم يكمن في خروجها من دور الضحية والمساهمة في حل مشكلات المرأة الفقيرة المحكومة بالجهل وبسلطة رجال الدين (هذا ما فعلته ليلى حاتمي في الواقع، بعيدًا عن قصة الفيلم، حين عادت إلى إيران بعد حصولها على درجة جامعية في الأدب الفرنسي من سويسرا).
تظهر المشكلات الاقتصادية والحالة المادية للطبقة المتوسطة من خلال نادر الذي يعمل فترتين، لكن دخله لا يكفي لدفع راتب معقول لرضية التي تجسد أسرتها دور الطبقة شديدة الفقر. وتتضح سلطة رجال الدين على الناس حين تكذب رضية في المحكمة بسهولة دون شعور بالخوف من العواقب، لكنها في المقابل لا تستطيع أن تُقْسم على المصحف خارج المحكمة، وهو ما يبين مدى خوف الناس من سلطة الدين -ممثَلًا بالمصحف والأئمة- أكثر من خوفهم من سلطة القانون والدولة.
يصور الفيلم حال مجتمع تحكمه الفتاوى والرجال وحال المرأة المحكومة حركتها بتصريح من هذين المصدرين. أبرز مثال على هذا اتصال رضية للسؤال عن حكم الدين في مساعدتها في غسل والد نادر، وهو العاجز عقليًا وبدنيًا وعمره ثمانون عامًا، وحين يأتيها الرد بجواز ذلك تتردد خوفًا من أن يعلم زوجها، وتردُّدها يشير إلى أن سلطة الزوج مُقدَّمة على سلطة رجال الدين. واللافت أن الأسرتين تتكونان من ثلاثة أفراد: زوج وزوجة وبنت. وفي هذا التطابق في العدد والنوع إشارة إلى العائلة الواحدة. في ظل هذه العلاقة يبدو الأب المصاب بالزهايمر رابطًا ومحركًا للخيوط، ويرمز للسلطة الأبوية المعاقة وتداعياتها على الأسرة والدولة والمجتمع.
دلالات الصورة في أفيشات الفيلم
دلالات الانفصال في الفيلم ظهرت في السرد البصري وأيضًا عبْر تصاميم البوسترات. ثمة تصميمان في النسخة الإيرانية للفيلم: الأول مقسوم نصفين، في الأعلى يظهر نادر وسيمين وابنتهما تيرميه، وفي الجزء السفلي تظهر رضية وزوجها "حُجت" وابنتهما "سُمية" والثلاثة ينظرون للأعلى في دلالة لوضع الأسرتين المالي والطبقي والاجتماعي. والبوستر الثاني مقسوم إلى نصفين أيضًا، وفيه نادر وسيمين جالسان على كرسيين في النصف الأعلى ويفصلهما كرسي فارغ يرمز لابنتهما الغائبة، وفي النصف الأسفل تجلس ابنتهما وإلى يمينها ويسارها كرسيان فارغان يرمزان إلى غياب أبيها وأمها، وجميعهم في حالة انتظار وترقب لمصير الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة -إيران- اللتان سيقرر مصيرَهما جيلُ المستقبل، ممثَلًا بالابنة الشابة تيرميه.
ينتهي الفيلم بسؤال القاضي للابنة: «مع من تفضلين العيش؟». تصمت تيرميه واضعة الخيارات المحتملة أمام المُشاهد: أن تعيش مع أبيها أو مع أمها أو معهما أو من دونهما. هنا يتجلى الانفصال الحقيقي، فتظهر الأسرة الصغيرة كنموذج مصغر للعائلة الأكبر. هذه النهاية المفتوحة تشير إلى أن دور السينما ليس في تقديم الحلول وإنما في اقتراحها ضمنًا من خلال التعاون الاجتماعي، أما الحل فبِيَد المجتمع والجيل الجديد تحديدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش