وسط هذا الصخب النقدي الذي يحيطُ بالأعمال السينمائية الساعية لإحداثِ أثر، تظلُّ السينما، في جوهرها، انعكاسًا معقَّدًا لهشاشةِ الإنسان وتناقضاته، فهي تجسِّدُ عمقه الوجودي وشعريته الصوفية. كما لا يمكنُ حصر تعريفها على أنَّها وسيلةٌ ترفيهيَّةٌ أو نافذةٌ مؤقَّتة على الخيال، بل إنَّها فضاءٌ معرفيٌّ يمتد إلى ما وراء الواقع، يتيح لنا اختبار حيوات لم نعشها، لكنَّها تتسلل إلينا عبر الحكاية والصورة. مشاهدتي للأفلام، بكلِّ ما تحمله من تنوُّعٍ جغرافيٍّ وثقافي، لم تكن يومًا مجرَّد استهلاكٍ بصري، بل رحلة مستمرَّة في البحث عن معرفةٍ ضائعة، عن فهمٍ أشمل للإنسان من خلال سرديَّاته المختلفة.
في هذا السياق، تبرز الأفلام التي تتناول تعقيدات الهوية والانتماء، كما هو الحال مع فيلم «إيميليا بيريز (Emilia Pérez - 2024)»، من إخراج جاك أوديار، الذي أثار جدلًا واسعًا منذ ترشحه للأوسكار. تراوحت ردود الفعل تجاهه بين الإشادة برؤيته السينمائيَّة والانتقادات التي وُجِّهت إلى سطحيَّة معالجته لقضيَّة الهويَّة العابرة جنسيًا. فبينما رآه البعض خطوة جريئة في تمثيل الشخصيَّات العابرة ضمن سياقٍ سينمائيٍّ يسعى إلى التحرُّرِ من القوالب التقليديَّة، اعتبره آخرون إعادةَ إنتاجٍ لصورةٍ نمطيَّةٍ تعزِّز التمثيلات الكليشيهيَّة عوضًا عن تحدِّيها للحدود المفروضة على سرديَّات العبور الجندري. ولكن يبقى السؤال الأهم: هل استطاع الفيلم تجاوز حدود الإبهار كي يقدِّمَ تجربة إنسانيَّة صادقة؟ أم أنَّه اكتفى بجماليَّات الصورة على حساب العمق السوسيولوجي والصدق الفني؟
إيقاع التحولات: الموسيقى بين تلطيف الجريمة وإعادة تشكيل الهوية
في فيلمه الأخير، والذي صنع سابقةً تاريخيَّة بترشُّحه لـ13 جائزة من جوائز أوسكار - كأوَّل عملٍ غير ناطقٍ بالإنكليزية يحظى بهذا العدد من الترشيحات في مختلف الفئات - يخوضُ جاك أوديار مغامرة سينمائية جريئة، محاولًا إعادة تشكيل فضاءِ الجريمة المنظَّمة عبر وسيطٍ غير مألوف: الموسيقى. لا يقدم الفيلم الجريمة بوصفها فعلًا عنيفًا مجردًا، بل يسبغ عليها طابعًا جماليًا، متجاوزًا التصورات التقليدية التي تربط العنف بالفوضى، جاعلًا منه فعلًا مُغلَّفًا بسحرِ النغمات والإيقاعات. وعبر توظيفه للموسيقى كعنصرٍ سرديٍّ أساسي، لا يكتفي أوديار بجعلها وسيلةً للتخفيف من حدة العنف، بل يعملُ على تحويلها إلى وسيطٍ يعيدُ تشكيل إدراكنا لعوالم الجريمة المنظمة، مانحًا إيَّاها طابعًا أكثر ألفة، حيث تتلاشى الحدود بين الأخلاقي واللاأخلاقي، بين الشر والخير، بل وحتى بين الجريمة كفعل مرفوض اجتماعيًا والجريمة كإيقاع درامي يستهوي المشاهد ويجذبه إلى عوالمه المشحونة بالتناقضات.
وفي السياق ذاته، تتجاوز الموسيقى في هذا الفيلم وظيفتها الجمالية لتتحوَّلَ إلى أداةٍ غايتها دفع الإيديولوجيَّة الجندريَّة، حيث يوظِّفها أوديار لتلطيفِ حدَّة التحولات المرتبطة بالعبور الجنسي، والتساؤلات العميقة حول الهويَّة التي يتناولها الفيلم من زاويةٍ مغايرة، غير صداميَّة. هنا لا يُقدَّم العبور الجنسي بوصفه انقطاعًا جذريًّا عن الماضي أو أزمةً هويَّاتيَّةً عميقة، بل كتحوُّلٍ سلسٍ تمهِّد له الموسيقى، فتجعلُ من تجربة العبور رحلةً إيقاعيَّةً تنسابُ بسلاسةٍ عبر المَشاهد. كما تتماهى الهويَّة الجديدة مع الألحان التي تواكبها، لتصبح الموسيقى وسيطًا ثقافيًا يعيدُ تشكيل معاني الهويَّة والانتماء، ويمنحها بُعدًا أكثر انسجامًا مع إيقاعِ الحياة ذاته.
في الوقت الذي تبدو فيه الجريمةُ والعبور الجنسي قضيَّتين متباعدتين ظاهريًا، فإنَّ الفيلم يربط بينهما بخيطٍ غير مرئيٍّ يمتدُّ زمنيًّا وصولًا إلى مرحلة الطفولة، حيثُ تنفجرُ الرغبات المكبوتة التي ظلَّت كامنةً لعقود، لتتجلَّى لاحقًا خلال مراحل البلوغ، سواء عبر العنف كفعلٍ تحرُّري، أو عبر العبور الجنسي كإعادة تشكيلٍ للذات. هنا تصبح الموسيقى عنصرًا مُوحِّدًا لهذه الثيمات المتباينة، إذ تُوظَّف كأداةٍ لاستعادة الذكريات، واستحضار أشباحِ الماضي المتعلِّقة بالطفولة التي تقيِّدُ مصائر الشخصيات وتظلّ حاكمة لها، وذلكَ بإيقاعِ وسلطةِ ماضٍ لم تستطع الفكاك منه. من خلال هذا المنظور، لا تقتصرُ الموسيقى على كونها خلفيَّةً صوتيَّةً أو عنصرًا مكملًا للسرد، بل تتداخل مع بنية الفيلم ذاتها، فتخفف صداميَّة الجريمة والهويَّة العابرة، وتحوِّلُ هذه التناقضات إلى تجربةٍ حسيَّةٍ تستدعي المشاهد لخوضها بوعي جديد. تتداخل الموسيقى مع مصائر الشخصيات كما تتداخل الأسئلة حول الجريمة، الهوية، والتحولات الاجتماعيَّة في نسيج المجتمع الحديث.
إيميليا بيريز: العبور الجندري كفعل مقاومةٍ ضد النظام الذكوري
في قلب الصراع بين البنى الاجتماعيَّة التقليديَّة والتحوُّلات الجندريَّة المعاصرة، يأتي فيلم «إيميليا بيريز» كعملٍ سينمائي يتحدى النظام الاجتماعي الذكوري عبر بطلته العابرة جنسيًّا إيميليا بيريز (كارلا صوفيا غاسكون). هذه الشخصيَّة لا تمثِّلُ مجرَّد فردٍ يعيدُ تشكيل هويته، بل هي رمزٌ للتحرُّرِ يتجاوزُ حدود الفرديَّة ليصلَ إلى إعادة تشكيل المجتمع ذاته. الفيلم لا يقتصرُ على سردِ رحلةٍ شخصيَّةٍ للخروج من القوالب المفروضة، بل يواجه بشكلٍ مباشرٍ البنية البطريركيَّة التي تكرِّسُ مفاهيم ثابتة عن الذكورة والأنوثة. في هذا السياق، تتحوَّل الشخصيَّة الرئيسيَّة إلى مرآة تكشفُ عن هشاشة هذه المنظومة وتفكِّكُ المعايير البيولوجيَّة المقرَّرة لهويَّة الجندر، لتقوِّض بذلك الأسس التي تقوم عليها المفاهيم السائدة.
يجسد الفيلم هذا التمرد ضد الهيمنة الذكورية من خلال تصويره للعبور الجندري ليس كفعلٍ فرديٍّ معزول، بل كفعلِ مقاومةٍ في وجه نظامٍ اجتماعيٍّ يسعى إلى فرضِ معاييره على الجسد والهويَّة. فالشخصية هنا لا تكتفي بإعادة تعريف ذاتها، بل تسعى إلى تفكيك التصورات القسرية المفروضة منذ الولادة، تلك التي ترى التصحيح الجندري عملية طبيَّةً جائرة، تُواجه اليوم بانتقاداتٍ حادَّةٍ داخل الخطابات الحقوقية. في هذا السياق، يعيد الفيلم طرحَ الذكورة ليس بوصفها حقيقة بيولوجيَّة ثابتة، بل ككيانٍ متحوِّلٍ يتشكَّل وفقًا للظروف الثقافيَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يضعه في مواجهةٍ مباشرةٍ مع القيم التقليديَّة التي ترسِّخها المجتمعات البطريركية. بذلك لا يصبح العبور الجندري مجرَّد تجربةٍ شخصيَّة، بل فعلًا سياسيًّا يقوِّض الأسسَ التي تقوم عليها ثنائيَّة الجندر، ويعيد رسم الحدود بين الهويَّة والسلطة.
في وقتٍ تستمدُّ فيه السينما الأمريكيَّة جزءًا كبيرًا من سرديَّاتها من خطاب الصوابيَّة السياسيَّة، يبدو ترشيح هذا الفيلم لجوائز الأوسكار امتدادًا لهذه الأجندة التي تضع قضايا الهوية الجندريَّة في صدارة المشهد الثقافي، مقابل تراجعِ النقاشات حول قضايا الصراع الطبقيِّ والتفاوت الاجتماعي. ومع ذلك فإنَّ «إيميليا بيريز» لا يكتفي بإعادة إنتاج السرديَّات السطحيَّة التي قد تختَزِل العبورَ الجندريَّ في بُعده الفردي، بل يضعه ضمن سياق تحرُّرٍ جماعيٍّ يتجاوز مواجهة الاضطهاد المجتمعي إلى تحدِّي الهيمنة الثقافيَّة على الاختيارات الفردية. في هذا الإطار، لا يُقدَّم العبور الجندري بوصفه مجرَّد تحوُّلٍ شخصي، بل كفعلِ مقاومةٍ يُعيد مساءلةَ فرضيَّات الذكورة التقليديَّة، ويفتحُ مساحةً لإعادة رسم الخطوط الفاصلة بين ما هو فردي وما هو مجتمعي، بين ما هو بيولوجي وما هو ثقافي، وبين ما هو مفروضٌ وما هو اختياري. بهذه المقاربة، يتحرَّر الفيلم من التصنيفات النمطيَّة، ليطرحَ تساؤلاتٍ أكثر عمقًا حول طبيعة الهويَّة وحدود السلطة المجتمعيَّة في تشكيلها.
فيلم عابر في زخم الصوابية
يشكِّلُ «إيميليا بيريز»، برؤية جاك أوديار، تمازجًا معقدًا بين الروح اللاتينية التي تحتفي بالجمال بقدر ما تحتضن القسوة، وبين مفاهيم التحليل النفسي التي طرحها سيغموند فرويد حول الهويَّة والذكورة. لا يُصوَّر العبور الجندري كحالةٍ فرديَّةٍ فحسب، بل كصيرورةٍ نفسيَّة متشابكةٍ تذكِّر بمراحل التطور النفسي الجنسي لدى فرويد، حيث تعيدُ الشخصيَّة الرئيسيَّة تشكيل ذاتها ضمن صراعٍ قائمٍ بين التماهي مع النموذج الأبوي وبين الانفصال عنه، تمامًا كما يحدث في حلِّ عقدة أوديب، لكن في سياقٍ مغايرٍ يعكس تفكُّك المفاهيم التقليديَّة للهويَّة. وبأسلوبه الإخراجي الذي يمزج بين الواقعية والسحرية، يعيد أوديار صياغة التوتُّر بين إيروس وثاناتوس، أي بين الرغبة في الحياة والاندفاع نحو التدمير، ليجعلَ العبورَ الجندري ليس مجرَّد تحرَّر فردي، بل امتدادًا لفعل تحدٍّ يتقاطع مع العنف والرغبة والهويَّة غير المستقرَّة.
وعلى الرغم من أنَّ الفيلم يحملُ سماتٍ سينمائيَّةً بديعةً تعكس البصمة الجماليَّة للسينما الناطقة بالإسبانيَّة، حيث تتحوَّلُ اللغةُ إلى أداةٍ محدَّدةٍ للمزاج البصري والسردي، إلا أنَّ الضجَّة العالميَّة التي أحاطت به تبدو مفرطةً أمام محتواه الفعلي. ففي الوقت الذي ينجح فيه بخلقِ عالمٍ بصريٍّ أخَّاذٍ يزاوج بين الحميمي والوحشي، بين الهشاشة والتحدِّي، فهو لا يقدِّم طرحًا سينمائيًّا جديدًا على نحوٍ جذري في سياق العبور الجندري، بل يظلُّ متكئًا على مفاهيمَ مستهلكةٍ أيديولوجيًا ومكرَّسةٍ ضمن موجة الأفلام التي تحاول مجاراة خطاب الصوابية السياسية في السينما الأمريكية. بهذا المعنى، يظهرُ «إيميليا بيريز» كأنَّه فيلمٌ عابرٌ يتناولُ موضوعًا عابرًا، ليس فقط بسبب التركيز على شخصيَّةٍ عابرةٍ جنسيًا، بل أيضًا لأنَّه فيلمٌ سيختفي سريعًا من الذاكرة السينمائية، دون أن يترك الأثرَ العميقَ الذي قد توحي به الضجَّة النقديَّة والترشيحات للجوائز.