على خلاف عامة الفنون لم ينشأ الفنّ السينمائي في المعابد أو القصور وإنما في محضنة البحث العلمي1 وظل ينمو فيها بما تُوفر له من آلات وأجهزة تقنية، كما ظلّ يفيد من علومها المختلفة كالكيمياء والبصريات والإضاءة وصولاً إلى علوم التكنولوجيا الرقميّ في أيامنا هذه.
ولم تُختزل هذه الإفادة في تطوير الوسيط التقني، فتجاوزته إلى المضمون نفسه، إذ انصرف السينمائيون إلى المضامين العلميّة يبذلونها إلى الجمهور العريض، ولئن ظلّ هذا المسعى هامشيًا لا يدير إليه الرقاب أو يلفت الانتباه زمنًا، فإن الفرنسي جون بانلوفاي (Jean Painlevé) ارتقى منذ ثلاثينيات القرن العشرين بسينما البحث العلمي إلى مصاف الفن الذي يحظى باهتمام النقاد والمتفرّجين على حد سواء، فاهتم بدراسة الظواهر الطبيعيّة وعلم النبات وسائر علوم الحياة والأرض، وما فتئت السينما، منذ ذلك التّاريخ، توطّد علاقتها بالعلم. وليس الأمر عرفانًا منها بما للعلم من فضل عليها وإسهام في نشأتها، أو حنينًا منها إلى أصولها الأولى بعد أن طوّفت بعيدًا في عالم الإيهام والتخييل، بقدر ما هو تبادل للمصالح المشتركة، فتتولى السينما الوثائقية العلميّة نشر مختلف العلوم نظير إسعاف المجال العلمي لها بتقديم الموضوعات المستجدّة الكفيلة باستقطاب شرائح واسعة من جمهور لا يغريه سحر القص والتّخييل.
يتضاد الفيلم العلمي جوهريًا مع الفيلم التّخييلي، باعتبار انتسابه، بما هو تقديم للحقيقة العلميّة، إلى السينما الوثائقيّة، وإن كشفت مجالات استعماله البيداغوجيّة في المدارس والجامعات، أو العلميّة الصرف في مراكز البحث والنّدوات المختصّة، عن نزعته الانفصاليّة المبيّتة، ومع ذلك يعسر تحديده التّحديد الدّقيق، فهو متعدّدٌ من جهة مقارباته الجماليّة أو التقنيّة الفنيّة، مما يحول دون كلّ أفق شكلاني لضبطه، مختلفٌ من جهة اختصاصاته، من أفلام طبّية إلى أفلام الرياضيات والفيزياء إلى أفلام النّبات والحيوان وغيرهما من فروع علوم الحياة والأرض. ولكنّ ضبطًا وسائطيًا أوّلَ يُعرّف الفيلم العلمي بكونه «اعتماد الوسائل السمعيّة البصريّة سبيلاً لتواصل لا يحدّد الأهداف فحسب، وإنما [يبسط] الإشكاليّة العلميّة أيضًا»2 غائيًا ثانيًا يوكل لهذا الوسيط مهمة -تنمية معارف المتفرّج حتى يكون أقدر على التّفكير في قضايا العالم المختلفة من منطلق علمي منطقي- من شأنه يذلّل هذه الصعوبات.
ويتوقّع هذا الفيلم جمهوره الضمني بطرق مختلفة وبحسب توقعاته هذه يُصنَّف إلى ثلاثة أصناف فرعيّة، هي فيلم البحث العلمي والفيلم البيداغوجي وفيلم التّبسيط العلمي3.
يتمثّل جمهور فيلم البحث العلمي الضمني في متفرّج مختصّ محصّن بقدر كافٍ من المعارف العلميّة الدّقيقة بحسب الاختصاص المطروق تخوّل لصاحبها حسن تأويل العلامات البصريّة مثل الصور بالأشعة وصور الرنين المغناطيسي (MRI) وصور طبقات الأرض أو صور الكواكب الملتقطة بالأقمار الصناعيّة. ولمّا كان الجمهور مختصًا مكتسبًا لكفاية التّأويل السّليم اقتضى الفيلم قدرًا كبيرًا من الدّقة والصرامة. ويتمثل سياق عرضه الأنسب في الندوات والمؤتمرات العلميّة وفي مخابر البحث ومراكز الدراسات المختصّة وقاعات المحاضرات. أما مجالاته الأثيرة فهي قطعًا العلوم الطبيّة والبيولوجيّة.
ويمثّل الفيلم في هذا المستوى جهازًا للملاحظة والتحليل لا غنى عنه4، يمكّن جمهوره من معارف جديدة تظل دونه عصيّة على المعاينة والإدراك باعتباره يطال مناطق لا يمكن للعين المجرّدة أن تطالها5 مثل النّفاذ إلى دواخل الإنسان لتصوير أجهزته الباطنيّة أو عرض الجنين في رحم الأم أو الاطلاع على صور الكواكب التي تكفلها الأقمار الصناعيّة، أو باعتباره يمكّننا من معاينة الظواهر في نسق لا يتضمنه الزمن الميقاتي، فيُسرّع إيقاعها أو يخفضه، أو تُعطَّل الحركة لتُدرس الظواهر صورة إثر صورة، لتمكين المؤول من المعاينة والمقارنة واستخراج النتائج واستخلاص القوانين الناظمة.
ولا تحجب أهميّة هذا الفيلم وحاجة العلم الأكيدة إليه بعض نقائصه، ففي مجالات بعينها تكون الصورة سطحيّة غير قادرة على إبراز العمق العلمي للظاهرة المدروسة، كما الأمر بالنسبة إلى التفاعلات الكيميائيّة، أو المعاينة، كما الأمر بالنسبة إلى العمليات الجراحيّة المعقّدة. ومن ثم تأكدت الحاجة إلى تدخل المؤلف أو الباحث بالتعليق والتفسير.
يقتضي الفيلم البيداغوجي -باعتبار متقبّله الضمنيّ جمهورًا مدرسيًا في طور التخصص، وباعتبار مؤلّفه على نحو ما مدرسًا يقدّر حاجات متعلّميه- التّبسّط في تقديم المعلومة العلميّة، تفصيلاً لما غمض أو تجاوزًا لما تعقّد بما يفوق القدرات الذهنيّة للمتقبل المقصود، أو بما يتعارض مع الأهداف المزمع تحقيقها. ومن هنا أصبح لزامًا عليه أن يوقظ أنباه المتفرّج وأن يثير فيه الشّغف إلى تقبّل المعلومة من خلال إثارة في صياغة المقدّمات تحفّز الذهن على التفكير واستباق النّتائج، مما يحوّل الفرجة إلى عمليّة تقويم تزامن التعلّم، ومن خلال اعتماد الرسوم البيانيّة والصور التوضيحيّة والخرائط، ولا يتسنى ذلك إلا باعتماد لغة بسيطة تراعي الدّقة والتّدرج السلس، وتتكامل المسارات العرفانيّة في هذا الفيلم فيعتمد الإدراك البصري بما هو معاينة للمحسوس أو إكساب للمجرّد أشكالاً وهيئات مرقاةً لاستخلاص المعارف الذهنيّة ولتحصيل المبادئ العلمية المجرّدة، ويُراعى في تحفيز هذه المسارات التحصيل العلمي للجمهور المقصود ومدى تطور ملكاته الذهنيّة6.
يمثّل فيلم التبسيط العلمي استجابة لحاجات شريحة كبيرة من المتفرّجين إلى المعارف العلميّة، تلك التي يُصطلح عليها بـ«الجمهور العريض» (Le grand public) فانتهاء فترة الدراسة عنوان عند كثيرين «لانتهاء فترة تلقين المعارف الصّريح المتاح وفق مسار متدرّج ومنسجم»7 وفي الآن نفسه عنوان لشريحة من جمهور غير مختصّ يعمل الفيلم العلمي على استقطابها بما يبذل من المعارف وما يقدّم من المقاربات الجماليّة. ومن ثم يقرّر فريدريك كاكانيو تريستان أن «فيلم التبسيط يعرض مسألة علميّة ويشكّل مجالاً غريبًا على الجمهور ويمنح السينما دورًا تحسيسيًا، مؤْثرًا الشكل على المضمون»8 ويشدّد برنار شيال وغابرييل لاروك على أنّ «الرسالة التبسيطيّة ليست رسالة ناقصة يمنحها تداركُ هناتها أو أخطائها وضعيّةَ الرسالة العلميّة أو التعليميّة» وبناء عليه يخلُصان إلى أنّها «رسالة مختلفة ومستقلّة لا تقتفي قواعدها ومسارات تشكلها أثر الرسائل العلميّة أو التعليميّة»9.
يساعدنا هذا التحديد المفهومي على مقاربة الفيلم العلمي من جهة إنشائيته وأفق الدلالة فيه، وعلى ضبط أسئلة النّقد حوله وسبل فهمه وتأويله. ولما كانت السينما فنًا تحكمه شروط فنيّة وتقنيّة للإنشاء قبل أن يكون وسيلة للتّواصل، كان لا بد أن ينعطف السؤال إلى خصائص هذا النّمط من الأفلام البلاغيّةِ، فيكون مداره على إمكانات الصورة ومقومات الفنّ والجمال في الخطاب العلمي.
بعيدًا عن تحنيط قيم الجمال في مُثُل عليا، ينتهي بنا رصد الأفلام العلميّة والمقاربات النقدية على حد سواء إلى إدراك مدى تأثير طبيعة المادة المدروسة في المقاربات الفنيّة من تأطير للصورة واختيار لمكوّناتها وتحديد لكيفيّة تفاعلها مع المسموع، ومن أساليب في المونتاج.
لا تبدو إذن مقومات جماليات السينما الروائيّة والوثائقّية المعهودة صالحةً الصلاح كلّه لتشكيل المحتوى العلميّ من هذه الأفلام، فشرح قاعدة رياضيّة بإبراز طبيعة معادلاتها لا يستدعي في شيء قاعدة الأثلاث الثلاثة10 المحددة لمواطن القوة من الموضوع المصور، أو زوايا تصوير تبحث عن موطن متفرّد لإدراكه، بقدر ما تقتضي قدرة من المؤلف أو المدّرس على التبسّط في شرح المجرّد المتعالي، تدفع بالمدرك البصري إلى المستوى الثاني من العمليّة التواصليّة بعد المسموع وتختزله -غالبًا- في رموز رياضيّة تُكتب بالتوازي مع النطق، في حين تستدعي العلوم الكيميائيّة توظيف الأضواء والألوان، كشفًا لمختلف مكونات المادة، واعتماد صور تحريك ذات أبعاد ثلاثية تطوف بها لتبرز كيفيّة تعالق جزيئاتها. وكثيرًا ما كانت الصورة العلميّة غوثًا للعين يسعفها ليتجاوز عنها قصورها ويبذل لها المدرك البصري المتناهي في الصّغر، فيلجأ إلى المناظير أو المعتّم الملتحف بالظلام، فيستعين بالأشعة ما فوق الحمراء.
ورغم انتساب الفيلم إلى العلم، لا تعكس الصورة -ذلك النسق البصريّ- الحقيقة مطلقة بقدر ما تعكس رؤية فردية، ولا تكتسب معناها إلا بناء على خبرات متقبّلها الاجتماعيّة ووحداته الثقافيّة، وبناء على قدرة وسائطها التقنيّة، فـ«كل محاولة لتعيين مرجع علامة [ما] ترغمنا على تعريف هذا المرجع باعتباره كيانًا مجرّدًا يعكس مواضعة اجتماعيّة»11. ولكن على خلاف عامة أنماط السينما وأجناسها، يتفق النّقاد في التّنويه إلى نزعة الصّورة في الفيلم العلمي، البحثي على الأقل، إلى الإقناع بدل التأثير، فتخاطب العقل قبل الوجدان، وتعمل على دعم الوظيفة الإفهاميّة من الخطاب وطمس الوظيفة التعبيريّة أو الجماليّة التشكيليّة الصرف ما أمكن. كما يثمّنون نزعتها إلى إزالة صورة المؤلف أو الباحث من واجهتها ما أمكن، وإلى تجريده من ذاتيته والحدّ من خطابه بضمير الأنا، بما ينزّلها ضمن جماليّة تنشد المفيد والناجع قبل أن تطلب الجميل والممتع. بيد أنّه من شأن التنميط أن ينتهي إلى نماذج متعاليّة وقوانين ناظمة تنشد المؤتلف وتسكت عن المختلف وتهمله، مما يحدّ من مصادرتها ويدفع إلى مراجعتها. وحسبنا في ذلك فيلم التبسيط العلمي بكل أنواعه وفروعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. شأن محاولة Eadweard Muybridge تقطيع وثبة الخيول إلى جملة من الصور المتعاقبة أو اختراع Etienne Jules Marey لبندقيته الفوتوغرافية التي خوّلت له تحليل الحركة تصويريًا (chronophotographie) إلى اثنتي عشرة صورة متعاقبة بما عُدّ لاحقًا بمثابة محاولات جنينيّة أولى لظهور هذا الفنّ، عقبها اختراع الأخوين Lumière لجهاز عرض السينما (Cinématographe) سنة 1985 أو اختراع Thomas Edison لجهاز عرض الصور (Vitascope) الذي أسهم إسهامًا فاعلاً في نشأة الفنّ السابع في أمريكا
2. عن «مهرجان الفيلم العِلمي»، لمزيد من التفاصيل انظر موقع نادي الصحافة العلميّة على العنوان التالي
3. يصنف برنار شيال وغابرييل لاروك أنساق الإحالة في الفيلم العلمي إلى ثلاثة مستويات، هي عالم كل الناس وعالم المتمدرسين وعالم المختصّين، ويلاحظان أنّ ظهور مؤشر بصريّ أو سمعي كاعتماد الخرائط أو الرسوم البيانيّة، من شأنه أن يولّد قطائع على مستوى حبكة القصّ وأن ينتقل بالفيلم من مسار إلى آخر. لمزيد من التوسع انظر Bernard Schiele et Gabriel Larocque, Le message vulgarisateur. In: Communications, 33, 1981, P 169.
4. «ستكون المراجع والمراجع الفيلميّة (les filmographies) المختصّة ضروريّة بالنسبة إلى [الباحثين] العلميين الجادين كما البيبليوغرافيا التي لا غنى عنها بالنسبة إلى المؤلفين الذين يعملون على النشر دون أن يتحملوا وزر المؤاخذات المسجلة على أسلافهم» Jean Painlevé, Cinéma et recherche,in (Les Conférences du Palais de la découverte, Série A, n° 219) , Université de Paris, Paris, 1956. P 32
5. لمزيد من التوسّع انظر les collections des films pédagogiques et scientifiques des premiers temps, Béatrice de Pastre-Robert et autres, in Cinéma pédagogique et scientifique: à la redécouverte des archives, ENS éd, Lyon 2004 .
6. «يتميّز الفيلم التعليميّ بتوظيفه بيداغوجيًا فيهتمّ بالشكل بما هو وسيلة بيداغوجيّة ويتلاءم مع مختلف مستويات التعليم وينضبط بإطار مدرسي أو جامعي» Frédérique Calcagno-Tristant, Le film animalier: rhétoriques d'un genre du film scientifique, 1950-2000 éd L’Harmattan, Paris 2006, P 34.
7. Bernard Schiele et Gabriel Larocque, Le message vulgarisateur, P 166.
8. Frédérique Calcagno-Tristant , Le film animalier, PP 34-35.
9. Bernard Schiele et Gabriel Larocque, Le message vulgarisateur, P 168.
10. (La règle de trois tiers) تعمل هذه القاعدة الأساسية في تأطير الصورة السينمائيّة وتكوينها على إحلال العناصر الأهم من الصورة على إحدى نقاط التقاطع الأربعة من خطَّي الطول وخطَّي العرض التي يقسم تعامدها الصورةَ إلى تسعة أقسام متساوية، ويُفترض، وفق قواعد التأطير السينمائي، أن تكون الصورة المشكّلة وفق قاعدة الأثلاث الثلاثة أكثر فاعليّة في توجيه اهتمام المتقبل إلى مَواطن القوّة فيها وفي برمجة توقعاته منها وتأويله لها.
11. Umberto Eco, La structure absente: Introduction à la recherche sémiotique; Mercure de France, Paris1972, P 63.