مقالات

الفن تجسيدًا للمعنى..

ما الذي يجعل تمثال ديفيد (داود) لمايكل أنجلو عملًا فنيًا عظيمًا وخالدًا؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بطرائق مختلفة، فالتمثال نُحت يدويًّا في القرن السادس عشر الميلادي في فلورنسا، بارتفاع يزيد عن الخمسة أمتار بقليل، وهذا ارتفاع هائل بالنسبة إلى تمثال، كما أنه عمل متقن بكل تفاصيله، ومتفرد، وهنا يمكن القول إن أهم ما يميز تمثال داود: الفرادة (لا يوجد إلا تمثال واحد) والإتقان، إضافة إلى أنه تحفة لفنان كبير (مايكل أنجلو).

نستطيع اليوم، وباستخدام الأجهزة الحديثة، نحْتَ تمثال قد يوازي أو يفوق تمثال داود حجمًا وجمالًا، ويمكننا إنتاجه من أفخم أنواع الرخام، وبكميات كبيرة يمكن أن توضع نسخ منها في كل مدن العالم، وهذا العمل لو حدث لن يكون عملًا فنيًا، بل إنتاج سلعة، تمثال رخامي جميل، تحفة جيدة، لكنها لا تتميز بأي شيء، فهذه التماثيل أُنتجت بكميات تجارية، وصُنعت من خلال الآلات الحديثة، ولم يضع مايكل أنجلو يده عليها بطبيعة الحال.

إذا أردنا التأمل فيما صيّر تمثال داود، تمثال داود، فهو المعنى، والتاريخ الذي يحيل إليه التمثال، والذي يضرب بأعماقه في الكتاب المقدس (التوراة) ويُمجَّد عند اليهود والمسيحيين، فهو يحيل إلى نبي وملك عظيم له في وجدان الأمم المسيحية واليهودية مكانة مميزة، فبالإضافة إلى كونه نبيًا وملكًا، هو قاهر الظلم، قاتل جالوت، وهنا تأتي الإحالات الكبرى إلى تمثال داود باعتباره يجسد معنىً تاريخيًا وروحيًا عميقًا وضاربًا بالقدم، وهذا المعنى وهذا التاريخ لا يمكن فصلهما عن الاحتفال بالتمثال بوصفه قيمةً فنيةً ورائعةً من روائع عصر النهضة، ولا يخرجان عن فلسفة الفن في عصر النهضة، والتي تفترض في شقها المسيحي أن الفن يجب أن يكون جليلًا ومكتملًا، انعكاسًا للجمال الإلهي وكماله.

هذه الفكرة تحتفي بالمعنى وتفترض أنه مهما كانت فرادة وحداثة وجاذبية القالب الفني، فإن المعنى ينتصر في النهاية. يكتب الفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشه في كتابه «فلسفة الفن»: «كثيرًا ما لوحظ أن التصور الفني، حتى في صورته الفردية الواضحة، يشمل في نفسه الوجود، ويمثل بذاته العالم»، ويشير كروتشه في كتابه إلى كثيرٍ من الأفكار المرتبطة باستخدام المسلمات التاريخية لإعادة تكوين الخيال، وأن الفن تمثيل لفضاء روحي سامٍ وأرفع، ويمكننا هنا استعارة فكرة أن التصور الفني تمثيل للوجود والعالم، وتطبيقها على الصناعة السينمائية، وذلك من خلال مقارنة أعمال المخرج الأمريكي ويس أندرسون والمخرج السويدي روي أندرسون، وأعتقد أن وجاهة المقارنة بينهما في هذا السياق نابعة من تفرُّد أعمالهما على مستوى القوالب الفنية.

إن المخرج الأمريكي ويس أندرسون -ومن خلال أعماله Asteroid City و The French Dispatch و The Grand Budapest Hotel- اجترح لنفسه خطًا فنيًا مميزًا، من ناحية طريقة التصوير، واللقطات الواسعة، والمشاهد الثابتة، والألوان المبهرجة، وكأن أعماله الفنية استعراضٌ هندسيٌ نُفِّذ بدقة من ناحية زوايا التصوير والألوان، إضافة إلى العمل مع فنانين كبار، وغواية سرد القصص من خلال القوالب السينمائية، فهنا ويس أندرسون لا يجسد قصة من خلال السينما، وإنما يسرد قصة من خلال السينما، وهذا طابع مميز في أعماله.

من جانب آخر، نرى أعمال المخرج السويدي روي أندرسون، ثلاثية أو رباعية الوجود عند بعض النقاد، والتي تشمل على التوالي

: Songs from the Second Floor و You, the Living و A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence و About Endlessness، والتي تتميز بقالبها الفني الفريد، من خلال اللقطات الواسعة والمشاهد الثابتة وكأنها لوحات فنية، إضافة إلى الرتم البطيء، والحوارات المحدودة، والألوان الباهتة (حتى إن أشكال الممثلين في بعض المشاهد تكاد تكون جثثًا متحركة)، والانتقالات بين القصص والأحداث والموضوعات بصورة غير متوقعة بلا رابط يُذكر.

بعد مشاهدة هذه الأعمال الفنية لويس أندرسون وروي أندرسون، لن نحتاج إلى تفكير طويل لنفترض أن أيَّ عملٍ من هذه الأعمال السينمائية سيكون عملاً خالدًا، أي عملٍ من هذه الأعمال السينمائية قابل للتداول على نطاق واسع بين البشر، وأي عملٍ من هذه الأعمال متميز وفريد حقًّا، وهذا من خلال تجاهل القوالب الفنية التي أنتجت هذه الأعمال -نسبيًا- والتركيز على المعنى الذي تحاول تقديمه، وهذا على الرغم من أن كروتشه يرفض الفصل بين المعنى والصورة في الأعمال الفنية، بل يرفض حتى تصنيفات الأعمال الفنية الأوسع.

عند الحديث عن أفلام الأمريكي ويس أندرسون

لا نكاد نقبض على قصة متكاملة أو واضحة لمعالم، ورغم هَوَس المخرج بالسرد، فإن أفلامه -باستثناء «فندق بودابيست الكبير»- لا تسير في خط زمني أو تتناول موضوعًا محددًا، فهذه الأفلام تقوم على قصص مفككة، وتلميحات متنوعة. بعضها يتناول أفكارًا مهمة ومميزة مثل الفن المعاصر، وتداعيات الجنون والعقل والعزلة، وخلق عوالم افتراضية لها شروطها ومحدداتها التي تتفوق على الواقع، وتناوُل العلاقات الإنسانية وتعقيداتها، إلا أن التلميحات الذكية والأفكار المتناثرة في هذه الأفلام لا تشكل معنى أكبر يمكن أن يتواصل معه البشر بغض النظر عن سياقاتهم، فالقوالب الفنية هنا تطغى على المعاني التي يقدمها الفيلم، والتي تبدو أكثرَ تحديدًا بالسياق الأمريكي.

أما على الجانب الآخر، وعند الحديث عن المخرج السويدي روي أندرسون

فيمكن تَلَمُّس المعاني العميقة والموضوعات الحرجة للبشر التي يتناولها في أفلامه، فلا يختلف الأمر لو كنت سويديًا أو أوروبيًا، أمريكيًا أو آسيويًا، أفريقيًا أو عربيًا، لتتواصل مع المعاني والأزمات الوجودية التي يتطرق إليها روي أندرسون في أفلامه، من مأساة العمل والوظيفة الحديثة، إلى العلاقات بين البشر والحب والكراهية والسعادة والحزن، إلى تناوله لموضوعات الدين، والعلاج النفسي، والتيه الذي يعيشه إنسان القرن الواحد والعشرين اليوم، والوحشة التي تنخر روحه.

هذا المعنى الذي تُجسده أفلام روي أندرسون يتفوق على أي قالب فني، وهنا لا أفصل بين المعنى الفني والقالب الفني، وإنما أقول إن القالب الفني لا يكفي لإنتاج أعمال فنية فريدة وخالدة، فلو تأملنا في الأعمال المميزة من حولنا لوجدنا أن القوالب الفنية مهمة ومحورية، ولكن المعنى هو الحامل الأبرز للفن، وهو مفتاح التواصل البشري مع الأعمال الفنية فيما يتجاوز أحيانًا السياقات الثقافية والاجتماعية، من خلال طرح ما هو مشترك ومفهوم عند البشر، وهذا بالتأكيد باب نقاش طويل لا ينتهي، بين مَن يرفض الفصل بين الصورة والمضمون -مثل كروتشه- وبين مَن يعتقد أن المضمون أهم، ومَن يفترض أن القوالب الفنية أو الصور الفنية هي كل شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. بدر الراشد
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا