ما يميِّز السينما عن باقي الفنون هي قدرتُها الفريدةُ على حفظِ الزمن. وهذا المفهوم يعدُّ جزءًا من فلسفة المخرج الراحل أندريه تاركوفسكي، والتي استعرضها في كتابه «النحت في الزمن»، ويرى أنَّ السينما هي الفنُّ الوحيدُ الذي يسمحُ للمخرج بتخزينِ لحظاتٍ محدَّدةٍ من الزمن وتخليدها، لتصبحَ تجربةً إنسانيَّةً دائمة. بالإضافة إلى أنَّه يعتقد أنَّ قدرتَها على التقاط الزمن وحبسه تمنحُ المشاهدَ فرصةً لتجربة تلك اللحظة، وكأَّنها واقعٌ مستقلٌ عن الزمنِ الآخر.
لا شكَّ أنَّ الأفلام ليست مجرَّد صورٍ متحرِّكةٍ ولا سردًا لقصصٍ تعبر عن أحداث، بل تعتبر نافذةً إلى عوالم حقيقية وأخرى بديلة في الوقت ذاته، حيث يحيط بها الزمن ويحتفظ به، تتجسَّد فيها الذكريات ويُخلَّد الحنين، وتصبح الكاميرا كالعين السحريَّة التي تلتقط لحظات الحياة وتجمِّدها إلى الأبد. السينما هي الذاكرة، والذاكرة هي السينما، وبهذا تصبح الكاميرا تلك الذاكرة الرائعة التي تحتفظُ بالفرح والحزن، بالأحلام والأوهام، بالأمكنة والأزمنة. من خلال عدستها، تنبعث الحياةُ على الشاشة، وتبقى الذكرياتُ أسيرةً لنسيج الزمن. لكن بطريقةٍ ما، تبدو حية تتنفَّس، تتحدى النسيان وتتحدث إلى أجيالٍ تلو أجيال، كأنَّها رسائلُ مخبَّأةٌ من الماضي تحكي حكايات الإنسان اللامتناهية.
ولهذا سخَّر العديدُ من المخرجين في أعمالهم قصصًا تحاولُ أن تجسِّد باستمرارٍ مفهومَ الزمن، وذلك عن طريقِ صور وعناصر متعدِّدةٍ كالذاكرة والحنين، والشعر والتوثيق، لعكسِ الصورةِ الأكبر للسينما ومحاولةِ جعلِ مفهومِ حفظِ الزمن أكثرَ محسوسيَّةً لدى المشاهد.
ذاكرةُ جماعيَّةٌ ومرآةٌ فردية
الذاكرة هي العنصر المتكرِّر في غالبيَّة الأفلام الناجحة لأنَّها تمثِّل خيطًا سرمديًّا يربطُ الإنسان بماضيه، فهي المرآةُ العميقة التي ننظر من خلالها إلى أنفسِنا، نجدُ فيها لحظات الحبِّ والفراق، الألمِ والسعادة، الانتصاراتِ والهزائم. نحنُ نعيشُ حاضرَنا لكنَّنا نكونُ على الدوام أسرى تلك اللحظات التي صنعناها أو عِشناها. سرُّ الذاكرة في السينما يكمُن في أنَّها تمكِّننا من إعادةِ إحياءِ ما ظننَّاه مفقودًا؛ نشاهدُ تفاصيلَ صغيرةً في الأفلام تشبهنا، نتذكَّرُ من خلالها لمساتٍ وأصواتٍ وضحكاتٍ كنَّا نظنُّ أنَّها طُوِيَت في صفحة النسيان. الذاكرة في السينما تنقلنا إلى مكانٍ وزمانٍ آخر، إلى لحظاتٍ دافئةٍ وأحيانًا مؤلمة، تأخذنا إلى طفولتنا أو إلى حبٍّ ضاع منَّا، أو فرصةٍ لم نستغلها. إنَّ الأفلام التي تستندُ إلى قوَّة الذاكرة تجذِبنا لأنَّنا كبشرٍ نتوق دائمًا للعودة إلى مكان يعرفنا، مكان يعيد لنا جزءًا من ذواتنا الضائعة. ربَّما سرُّ جاذبيَّة الذاكرة في الأفلام هو أنَّها تمنحُنا فرصةً ثانية؛ حينما نشاهِدُ مشهدًا يسترجعُ ذكرى عزيزةٍ أو مؤلمة، نشعرُ كأنَّ الحياةَ منحتْنا فرصةً جديدةً كي نعيش تلك اللحظة من جديد، كي نفهمها بعمق، ولكي ندرك قيمتها التي كنا غافلين عنها.
وهذا ما يجعلُ من أفلامِ الذاكرةِ حميميَّةً وعميقة، لأنَّها تأخذنا برفقٍ إلى عالم الخيال، لكن ليس أيَّ خيال؛ بل ذاك الأقرب إلى واقعنا، الذي يتداخلُ مع تفاصيلِ حياتنا اليومية، الذي نكادُ نشعر أنَّنا قد عشناه سابقًا أو ربَّما حلُمنا به في لحظةِ غفوةٍ عابرة. هذه الأفلام لا تسعى للهروب من الواقع بقدرِ ما تسعى لفهمه وإعادة خلقه في إطارٍ أكثر شاعريَّة، حيثُ كلُّ مشهدٍ يصبحُ مرآة لذكرياتنا، وكلُّ صورةٍ تفتح بابًا نحو تلك الأوقات التي تخلَّينا عنها أو نسيناها، لكنَّها ظلت تختبئُ في زاويةٍ ما من أعماقنا. لا تخاطبُ أفلامُ الذاكرة العقلَ بقدرِ ما تخاطب القلب، فهي تُشبه ذلك الإحساس الغامض عندما تشمُّ رائحةً تعرفها جيدًا لكنَّها من زمن بعيد، أو عندما تسمعُ لحنًا يعيدكَ فجأةً إلى لحظةٍ صغيرةٍ لكنَّها مليئةٌ بالمعنى. إنَّها تنقلنا إلى مساحاتٍ غيرِ مرئية، لكنَّها مألوفة، مساحاتٌ من الحنينِ الذي لا يمكن تفسيره. هذا الحنين هو الذي يجعلُ من هذه الأفلام تجربةً حقيقيَّة، تُذكرنا بأنَّنا بشرٌ نعيشُ على تراكماتِ الذكريات وعلى الأحلام التي ربَّما لم تتحقَّق، لكنَّها ظلَّت تلوِّنُ أرواحَنا.
الحنين للواقعِ واللاواقع
الحنين شعورٌ يتجاوزُ حدودَ الزمان والمكان، فهو عاطفةٌ معقَّدةٌ تأخذنا بين طيَّات الماضي وومضاتِ الحاضر، بين الواقعِ واللاواقع. في أحد أبعادِه نجدُ النوستالجيا، ذلك الحنينُ إلى الواقعِ الذي عشناهُ بالفعل، حيث نستلقي في أحضان ذكرياتنا المألوفة، نستعيدُ لحظاتٍ ضائعة، رائحةَ بيت الجدّين، ضحكات أصدقاء الطفولة، أو حتى ملمس غبار الطرقات القديمة التي عبرناها ذات يوم. النوستالجيا ليست مجرَّد شوقٍ للماضي، بل هي رغبةٌ في إعادة بناء اتصالٍ حميمٍ مع الذات التي كنّا إيَّاها، مع الأماكن والأصوات التي شكَّلت وجودَنا. وعلى النقيض، نجد «الأنيمويا - Anemoia»، ذلك الحنين إلى اللاواقع، أو إلى الذكريات التي لم نختبرها قط. إنَّها الشوق الغريبُ إلى ماضٍ لا يخصنا، إلى حياةٍ لم نعشها ولكنَّها تبدو مألوفةً كأنَّها كانت جزءًا منَّا يومًا ما. الأنيمويا أشباحُ جائعةٌ غذاؤها الرئيس هي الأفلام والصور والأغاني، على الأخصِّ تلكَ التي تنقلُنا إلى أزمنةٍ وأماكن لم نزرها قط، لكنَّها تخاطبُ أرواحَنا بلغةٍ لا نعرف كيف نتحدثها، وتحاول بشراسةٍ أن تسكن أعماقنا. هي التجربة التي تجعلنا نشتاقُ إلى بيوتٍ حجريَّة في قرى بعيدةٍ لم نزُرها، أو إلى حقولِ قمحٍ تحت سماءٍ برتقاليَّةٍ كما لو أنَّنا حلُمنا بها في حياة أخرى. بين النوستالجيا والأنيمويا، يتراقصُ الحنين كأنَّه جسرٌ بين عالمين؛ أحدُهما ثابتٌ وآخر متخيَّل. هذا التداخل تفهمه السينما ببراعةٍ وتستغلُّه، فتفتحُ أبوابًا نحو عوالم من الحنينِ الواقعي والخيالي على حدٍّ سواء. أفلام مثل «نوستالجيا» لتاركوفسكي، «الخلود ويوم» لثيو انجيلوبولوس، «التوت البري» لبيرغمان، تأخذُنا في رحلةٍ بين ذكرياتٍ ماضيةٍ وآمالٍ ضبابيَّة، تتركنا نغوصُ في أعماق مشاعر مختلطة، لا نعرفُ إن كانت تخصُّنا أو تستعير صوتًا من الماضي الجمعي للبشرية. هذا الحنينُ المزدوجُ هو الذي يمنح الإنسان تلكَ القدرة العجيبة على الشعور بالارتباط مع ذاته، ومع عالم لم يكن له يومًا. إنَّه الحنين الذي يجعلُ من أغنيةٍ قديمةٍ مفتاحًا لأبوابِ خيالٍ لم يُغلَق قط، ومن مشهدٍ سينمائيٍّ ضبابي انعكاسًا لصورةٍ نخفيها داخلنا، تنتظر لحظةَ الحنين المناسبةِ لتخرجَ إلى النور.
الكاميرا كذاكرةٍ للزمن
الكاميرا ليست مجرد أداةٍ تسجِّلُ اللحظة؛ بل هي العين التي تنظرُ إلى الزمنِ وتعيدُ صياغته. في كلِّ فيلم، تأخذ الكاميرا دورَ الوسيط بين الحاضر والماضي، بين الملموس والخيالي، لتحوِّل اللحظةَ العابرةَ إلى ذكرى خالدة. هي الذاكرة التي تجعلُ من الزمن، المُتبخِّر مع كل ثانية، كيانًا محسوسًا يمكن الرجوع إليه باستمرار. في أعمال تاركوفسكي مثلًا، تتحوَّل الكاميرا إلى شاعرٍ صامتٍ يلتقطُ تفاصيلَ الحياةِ العادية، ليحيلها إلى لوحاتٍ بصريَّةٍ تفيضُ بالحنين. وفي فيلم "الفراولة البرية"، يستخدمُ بيرغمان الكاميرا كنافذةٍ إلى أحلامِ البطل وذكرياته، لنرى الزمن وهو يتشظى بين الماضي والحاضر. الكاميرا هنا ليست محايدة؛ إنَّها عاطفيَّة، تستجلبُ الذكريات كما لو أنَّها تحاولُ التمسك بما يضيعُ أمام أعيننا. الكاميرا لا تسجِّلُ فقط، بل تعيدُ خلق الزمن، تمنحه ألوانًا جديدةً وموسيقى داخليَّة لا يمكن للآذان أن تسمعها، وحدها القلوب تسمعها. وفي السينما الواقعية، كما في أعمال عباس كياروستامي، تُصبح الكاميرا شاهدًا على حياة البشر، حيثُ تسجِّلُ اللحظات العادية التي نمرُّ بها دون انتباه، لكنَّها تعيدُ تقديمَها وكأنَّها جوهرُ الحنينِ نفسه. ففي فيلم "طعم الكرز"، تتحوَّل الكاميرا إلى عينٍ تبحثُ في ملامح الأرضِ والسماء والوجوه، لتذكِّرنا بأنَّ الحاضر، في لحظته البسيطة، هو أيضًا نوعٌ من النوستالجيا التي تتشكَّل بينما نعيشُها. إذًا ليست السينما مجرَّد فنٍّ لسردِ الحكايات، بل هي الأداة التي تتحدَّى الزمن، تحفظه، وتعيد تقديمه كما لم نره من قبل. إنَّها امتداد لذاكرتنا البشرية، كأنَّها تقولُ لنا: «ما تعتقد أنَّه قد ضاع، لا يزال موجودًا هنا، على الشاشة، ينبضُ بالحياة من جديد».
هل الحنين نعمة أم عبء؟
الحنين شعورٌ معقَّد، مزدوجُ الوجه. من جهةٍ يمنحُنا دفئًا خاصًا، شعورًا بالارتباطِ مع ذواتِنا الماضية، وكأنَّنا نستعيدُ اللحظات التي شكَّلت أعماقَنا وأعطتنا هويَّتنا. لكنَّه في الوقت نفسه قد يكون عبئًا، سجنًا من الذكريات يجعلنا عالقَين في الماضي، غير قادرين على المضيِّ قدمًا. في السينما، الحنينُ هو السرديَّة التي تتكرَّر بطرائق متعدِّدة، يراه البعض نعمةً لأنَّه يعيدُ خلقَ العلاقة بيننا وبين ما فقدناه. فعلى سبيل المثال، يقدِّمُ بيرغمان الحنينَ كنافذةٍ للنفس البشرية. في أفلامه، الحنين هو ما يجعل أبطاله يتأمَّلون حياتهم، يبحثون عن معنى بين أطلالِ الماضي. لكنَّه في الوقت نفسه يكشف هشاشتهم، حيثُ يصبح التعلُّقُ بالذكرياتِ عائقًا أمام تقبُّلِ الحاضر. أما عند ثيو أنجيلوبولوس، فيظهرُ الحنين في صورةِ حلمٍ جميلٍ لكنَّه يُثقل القلب، كما في فيلمه "الأبدية ويوم"، حيث يعيش البطل في مساحةٍ زمنيَّةٍ معلَّقة، يشعرُ أنَّه ينتمي إلى كلِّ الأزمنة، لكنَّه في الحقيقة يعاني عدم الانتماء إلى أيِّ زمن.
هنا يصبح الحنين عبئًا روحيًا، حيث لا يمكن للشخصيَّة أن تحرِّر نفسَها من قبضة الماضي. ولكن في أفلامٍ أخرى، على غرار أعمال سكورسيزي، يتَّخذُ الحنين منحى أكثر قتامة. في فيلم "الرجل الأيرلندي"، نجدُ الحنينَ يتحوَّل إلى شعورٍ بالندم، حيث تصبحُ الذكريات عبئًا ثقيلًا لا يمكن التخلص منه، وكأنَّ الزمن يطاردُ الشخصيات بمعاول الهدم لا البناء. في فيلم "منتصف الليل في باريس"، يأخذنا وودي آلن في رحلةٍ حنينيَّة تتجاوز الزمن، حيث يصبحُ الماضي حلمًا مثاليًا نلجأُ إليه هربًا من برودة الحاضر. ينغمسُ بطل الفيلم في سحر عصرٍ ذهبي، لكنَّ آلن يذكِّرنا بخبثٍ أن النوستالجيا ليست سوى وهمٍ دافئ، يُضفي على الماضي بريقًا قد لا يكونُ حقيقيًا. يتعامل آلن مع الحنينِ كحالةٍ إنسانيَّةٍ معقَّدة، تتأرجحُ بين الحقيقةِ والخيال.
هل ما نشتاق إليه هو الماضي كما كان، أم كما تمنيَّناه؟ في كلِّ مشهد يدعونا آلن للتأمل؛ هل الحنين نعمةٌ أم فخٌ نصنعه بأيدينا لنخفِّفَ عبء الحاضر؟ الحنينُ نعمةٌ عندما يمنحنا فرصةً للتأمُّل والاعتبار، عندما يفتح لنا أبوابًا لفهمِ أنفسنا وعالمنا بطريقةٍ أعمق. لكنَّه يتحوَّلُ إلى عبءٍ عندما يسيطر علينا، يعزلنا في ذكرياتنا، ويجعلنا أسرى لحياةٍ لم تعد موجودة إلا في أذهاننا. السينما بما تحمله من تناقضاتٍ تعكسُ هذين الوجهين، تجعلنا نسألُ أنفسنا: هل الحنين طوق النجاة من قسوةِ الزمن، أم قيدٌ نضعه بأنفسِنا على أرواحِنا؟
خاتمة
الدهشة الأولى التي تصنعها السينما هي أشبه بلحظة ميلاد داخلنا، كما يقول المخرج الإيطالي الكبير فيديريكو فيليني: «الذهاب إلى السينما يشبه العودة إلى الرحم؛ تجلس هناك ساكنًا متأملًا في الظلام، تنتظر ظهور الحياة على الشاشة». لحظة تكشف فيها الشاشة عن قدرتها الهائلة على إدهاشنا، ليس فقط بما نراه، بل بما نشعر به وما نستعيده من أعماق أرواحنا. السينما هي ذلك اللقاء الأول مع الشعر المخبوء في التفاصيل الصغيرة، مع السحر الذي يحمله انعكاس الضوء على وجه طفل، أو انسياب الدموع بصمت في لحظة حزينة. هي عالم يمتزج فيه الواقع بالخيال، وحيث يمكن أن تتحول لقطة واحدة إلى قصيدة بصرية تترك أثرها في الذاكرة مدى الدهر.
ربما تكون دهشة السينما في بساطتها؛ في مشهد يعبر عن طفولة هاربة، أو في نظرة تتأمل الأفق بصمت كأنها تحاور الكون. وفي الوقت نفسه، تصدمنا بعظمتها؛ في لحظات من الروحانية العميقة التي تجعلنا نواجه أنفسنا ونفكر فيما يتجاوزنا. السينما لا تدهشنا فقط بما ترويه، بل بكيفية سردها، بطريقة تجعلنا نرى الحياة من زوايا لم نعتدها. هي تدعونا إلى العيش عدَّة مرَّاتٍ في عوالم مختلفة، مليئةٍ بالفرح والحزن، بالتأمُّل والصمت. تكمنُ دهشةُ السينما في كونها نافذةً مفتوحةً على الذات والعالم، حيث تنسُجُ من التفاصيلِ اليوميَّة شيئًا خالدًا، ومن لحظاتِ الحاضر ذكرى أبديَّة.
نستنتجُ من ذلك أنَّ الذاكرة والحنين هما الإيقاع الخفيُّ الذي يتسلَّل إلى أعماق السينما، يمنحها القدرة على تجاوزِ حدود الشاشة لتصبحَ حياةً أخرى نعيشها ونحياها. السينما، في جوهرها، هي النحتُ في الزمن، المحاولةُ المستمرَّة لتجميدِ اللحظة، لتذكُّر ما نسيناه أو لم نعشه قط. إنها مرآةٌ تتجاوز الزمن، تعكسُ ماضينا وحاضرنا وأحلامنا غير المحققة، تجعلنا نسيرُ بين ضباب الذكريات ونورِ الخيال، حيثُ الحنين هو الدليل الذي يربط بين عالمنا الداخلي وذلك اللامتناهي في الكون. وكما يقف المخرجُ خلف الكاميرا، يبحثُ عن روح الأشياء في تفاصيلها الصغيرة، كذلك نقف نحن أمام الأفلام، نعيدُ اكتشاف أنفسنا في حكاياتٍ لا تخصنا، لكننا نجد فيها صوتنا. الحنين، سواء كان نعمةً تسكبُ الدفء في أرواحنا أو عبئًا يجعلنا نتوق لما كان أو ما لم يكن، هو ما يذكِّرنا بأنَّنا بشرٌ نحيا على حافة الحلم والواقع، نخطو نحو المستقبل بينما نحملُ ماضينا على أكتافنا. وفي النهاية، تبقى السينما ذلك الفن الساحر الذي يفتح لنا أبواب الذاكرة، يجعلنا نواجه أنفسَنا، نتأمَّلُ العالم كما لو أنَّنا نراه للمرَّة الأولى، أو نتذكَّره كما لو أنَّه لم يفارقنا قط. إنَّها شهادةٌ على أنَّ الإنسان، رغم هشاشته، قادرٌ على تحويل الزمنِ إلى شيءٍ خالد، على جعلِ الحنين لغةً نفهم بها الحياة ونجد فيها معنى لكلِّ ما يبدو عابرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش