- وانت؟ ليش طلعت من ع لبنان؟
-لبنان مش بلادنا خيو، لبنان متل سجن، زي عندكم في غزة.
عالقان في اليونان، يحاول ابنا العم الفلسطينيان شاتيلا ورضا في فيلم «إلى أرض مجهولة» للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل العثورَ على المال من أجل دفعه إلى مُهرّب للذهاب إلى ألمانيا، أوروبا، الحلم الكبير. لكنهما لا يعملان، بالكاد يجدان مكانًا للنوم ومالاً من أجل توفير الطعام. يتعثران بصبي من غزة في الثالثة عشرة من عمره، يصل إلى اليونان وحده، بعدما غدر به مهربه وتركه هناك. تنتظره عمته في إيطاليا، وسرعان ما تنشأ صداقة بينهما.
يسرق رضا المال من أجل أن يشتري الطعام للصبي الصغير، لكنه يتابع: «السرقة عاطلة، إياك تسرق. بكرا تروح عالمدرسة ويكون عندك حياة طبيعية». بحثًا عن هذه الحياة الطبيعية، يخرج شاتيلا ورضا من المخيم في لبنان، يترك شاتيلا خلفه زوجته وابنه الذي يحتفل بعيد ميلاده الثاني بعيدًا عنه، غارقَين في دنيا الأحلام، محاولَين الذهاب بعيدًا عن اليونان. يقول رضا: «هي مش أوروبا».
وفي محاولة لتدبير أمورهما وأمور الصبي، يتعرف شاتيلا إلى امرأة يونانية تُدعى تيتيانا، يقضي معها الليل ويصنع لها طعامًا فلسطينيًا، ثم تقول له: «هيّا قل لي، ما الذي تريده؟ ربما أنا امرأة خاسرة، لكنني لست غبية، وأستطيع فهم الرجال». يقنعها شاتيلا بأن تسافر مع الصبي إلى إيطاليا، مدعية أنها أمه، على اتفاق أن يقتسما المال الذي سترسله لهم عمته فيما بعد. يحاولان خلق علاقة أمومية بين الصبي والمرأة، لأنهما لا يتحدثان اللغة نفسها، على أمل أن يعوّض الاعتياد هذا النقص الذي تخلقه اللغة. تتردد تيتيانا قبل السفر بليلة، تخفي هويتها، تخاف.. ترتعد خوفًا، لكن شاتيلا يحتضنها قائلاً: «غدًا سينتهي كل شيء».
ينقطع الاتصال بتيتيانا والصبي، وبالعمة أيضًا. يجلس شاتيلا ورضا على أعصابهما، خوفًا من أن تغدر بهما العمة ولا ترسل المال، أو أن يلقى القبض عليهما من البوليس. يتحدث شاتيلا إلى زوجته في لبنان التي تطلب منه التحمل، فيقول لها: «تعرفي كيف صرنا عايشين هون؟» ثم يبكي ويتابع: «صرنا بلطجية، بنضحك ع العالم، بنسرق، بنخرّي، متل الحيوانات، وأخرى من الحيوانات حتى». سعيًا إلى أن تصبح أثينا مجرد ذكرى، يتحمّلان، يتحاملان، يقول له رضا: «بتسلك أمورنا» ويرد شاتيلا: «بدنا نطلع من هنا حتى لو بتنطبق السما على الأرض».
هل سينجحان في الهرب إلى أوروبا، حيث يحلم شاتيلا بإنشاء محل للقهوة وإحضار زوجته وابنه، فيما رضا عالق في مشكلات إدمانية مع المخدرات، يحضر حينًا ويغيب حينًا، وفيما شاتيلا يحاول العناية به؟ يجلسان في جلسة شبابية ويستمعان إلى أحد أصدقائهما يقرأ شعرًا، يقول بأسى كبير: «سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ سقط القناعُ. لا إخوةٌ لك يا أَخي، لا أَصدقاءُ يا صديقي، لا قلاعُ. لا الماءُ عندكَ، لا الدواء ولا السماء ولا الدماءُ ولا الشراعُ ولا الأمامُ ولا الوراءُ. حاصِرْ حصَارَكَ... لا مفرُّ. سقطتْ ذراعك فالتقطها واضرب عَدُوَّك... لا مفرُّ وسقطتُ قربك، فالتقطني واضرب عدوكَ بي.. فأنت الآن حُرُّ حُرٌّ وحُرُّ. قتلاكَ، أو جرحاك فيك ذخيرةٌ فاضربْ بها. اضرب عدوَّكَ... لا مَفَرُّ. أَشلاؤنا أسماؤنا حاصرْ حصارَك بالجنونِ وبالجنونْ. ذهبَ الذين تحبُّهم، ذهبوا فإمَّا أن تكونْ أَو لا تكونْ».
يسأله شاتيلا: «هل أنت من كتب هذا الشعر؟» فيقول: «لا، هذا درويش يا أخي». ورغم ذلك، فإن هذه القصيدة من كتابة جميع شخصيات الفيلم، وجميع من يعيشون حياتهم، فلا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي. ذهب الذين تحبهم.. ذهبوا.
في حوار حصري مع المخرج مهدي فليفل لمنصة «ميم»، يحدثنا عن فيلم «إلى أرض مجهولة»، وعن دوافعه لاختيار فكرة الهجرة واللجوء موضوعًا لفيلمه، يقول مهدي: «في البداية أنا لاجئ، «رِفيوجي»، لكن الفكرة هذه خُلقت من الأفلام الوثائقية التي صنعتها سابقًا، وخلال الأربع عشرة سنة الماضية تتبعت قصص أربعة رجال فلسطينيين ممن يخرجون من المخيمات في سوريا ولبنان، محاولين الذهاب إلى أوروبا، وكلهم كانوا يعلقون في أثينا ويحاولون العثور على مهرب يأخذهم إلى أوروبا، وفي فيلمي السابق "عالم ليس لنا" عملت مع أبو إياد وآخرين على هذه الفكرة. تحدث الفيلم عن قصتهم، وعن وصولهم واصطدامهم بهذا العالم الجديد، الذي ليس لنا، ثم تتبّعتُهم في رحلتهم. وصل أبو إياد إلى ألمانيا، وآخر وصل إلى السويد، أما رضا فقد مات بجرعة زائدة من الهيروين، والأخير قد وصل إلى لندن وحكى لي هذه القصة.. كيف خرجوا من أثينا ووصلوا إلى أوروبا. ومن وقتها وأنا أفكر كيف أصنع هذه القصة، وقد حاولتُ في البداية أن أحكيها في فيلم وثائقي بسبب الميزانية، لكن في النهاية بعد عشر سنوات، ها نحن قد وصلنا إلى هنا».
وعن مدة اشتغاله على الفيلم يضيف فليفل: «عملت على الفيلم منذ 2012، فقد عشت معه طويلاً. أخذت مني الكتابة عدة سنوات، واختيار الممثلين أخذ مني عامين، والكاستينج كان أهم شيء لدي في الفيلم، فقد كنت أرغب في عمل فيلم يشبه الوثائقي، ولم أرغب بالاستعانة بممثلين. حاولت البحث عن وجوه ومواهب جديدة، واشتغلت مع الممثلين كثيرًا، فالولد الصغير في الفيلم لم يسبق له التمثيل، كما أن شخصية رضا أيضًا هذا ظهورها الأول، وكما قلت فإن الكاستينج كان أهم شيء بالنسبة لي، وقد بحثنا عن الممثلين لوقت طويل وأجرينا كاستينج في فلسطين والأردن وألمانيا واليونان والدنمارك؛ كنت أبحث عن هذه الطاقة الجديدة، والعثور عليها أخذ منا وقتًا طويلاً».
صوّر مهدي الفيلم قبل ستة أشهر فقط من عرضه في «كان»، لكن الشغف قد طغى على العمل، وكانوا يحلمون جميعًا بالذهاب إلى المهرجان، لكن مهدي يقول: «الفيلم جيد كفاية ليذهب إلى المسابقة الرسمية كما أعتقد، لكن من الواضح أنهم لم يكونوا ليأخذوننا إليها فقط لأننا فلسطينيون، لكننا هنا الآن، لا يوجد كثيرٌ لأتذمر منه».
وبالنسبة إلى عالم اللاجئين، فإن مهدي يريد أن ينظر الناس إليهم ويعرفوا قصصهم ويروا ما في قلوبهم، بالأخص الجمهور الذي ليس له معرفة كبيرة بهذا العالم، فيقول: «نحن نسمع هنا وهناك عمن غرقوا في البحر محاولين العبور إلى أوروبا، لكن الناس لا تعرف أكثر من ذلك. أردتُ أن يروا ما في قلوبهم، أن ينظروا إليهم باعتبارهم بشرًا، فمن هم هؤلاء الناس وما هي أحلامهم؟ هل نعرفهم؟ أردتُ أن أكون قريبًا منهم، ولست أستهدف جمهورًا محددًا، لكني أردتُ رؤية قصصنا على الشاشة، أردتُ رؤية ذلك في فيلم عربي، وأردتُ أن يكون للفلسطينيين صوت، مثل أفلام هوليوود المفضلة لدي في السبعينيات، لذلك أردتُ من العرب أن يروا شيئًا من أنفسهم وقصصهم على الشاشة».
وبشأن العنصرية المتصاعدة ضد اللاجئين والنظرة النمطية إليهم باعتبارهم لصوصًا ومجرمين، يأمل مهدي أن تسهم السينما في تغيير هذه الصورة والنظر إليهم باعتبارهم بشرًا لهم ظروفهم، فيقول: «قيل لي لماذا تصور الفلسطيني كلص، وقلت بأنهم بشر، ليس لديهم ما يملكونه، إنهم منتهون، وكنت لأتصرف بالطريقة نفسها لو كنت في مكانهم»، ولذلك فإن ما يسعى إليه مهدي هو «أنسنة» الفلسطيني واللاجئ، ويضيف: «عندما تنظر إلى العالم والناس من كل قلبك، فإنك ستتصل بهم».
وعن تجربته الشخصية مع اللجوء يقول مهدي: «أنا لاجئ في الدنمارك، أهلي من لبنان، ووُلدت في دبي.. وما زلت لاجئًا حتى الآن، فقد أتيت إلى الدنمارك في سن التاسعة، لكنني أصبحت لاجئًا مع بعض الامتيازات؛ لديّ جواز يمكّنني من السفر والتحرك. والفكرة ليست عن اللجوء بحد ذاته بل عن فكرة المنفى، فجميعنا منفيون، أنا منفي، وشخصيات الفيلم منفية، ولذلك أردتُ أن ألتقط التجربة الحسية لمعنى أن تكون منفيًا».
وعن تواجد فيلم فلسطيني في مهرجان «كان» يرى مهدي أن ذلك ضروري للغاية لأن -في هذه اللحظة بالأخص- أي قصة فلسطينية مهمة لمشاركتها بأي طريقة كانت، لذلك فإنه سعيد للغاية بالحصول على فرصة كبيرة لعرض قصته.
أما عن دخوله إلى عالم السينما فيقول مهدي بأن لوالده تأثيرًا كبيرًا عليه لأنه كان يحب السينما، كما كان يصور عديدًا من الأفلام بالكاميرا، ومن ذلك تعلم مهدي كيف يصور ويحكي القصص، وكيف يستخدم الخيال من أجل رواية ذلك، ثم درس صناعة الأفلام في بريطانيا وها هو ذا في «كان»، بفيلمه الذي يشارك في مسابقة «نصف شهر المخرجين».
وعن المشروعات المستقبلية يقول مهدي: «بالطبع هناك مشروعات، لكن يجب أن ننتظر لنرى».