يصوِّر فيلم «خليلة المُلازم الفرنسي» (The French Lieutenant's Woman - 1981) العوائقَ التي تقفُ في طريق قصَّتَي حب: الأولى بين سارة وتشارلز في إنكلترا القرن التاسع عشر، والثانية بين آنا ومايك أثناء قيامهما بتمثيل الدورَين السابقَين في سبعينيَّات القرن العشرين. ومن خلال هاتين القصَّتين سنتعرَّف إلى طبيعةِ كلِّ عصر، وإلى الشوط الكبير الذي قطعه المجتمع الإنكليزي خصوصًا في مجال الحريَّات وحقوق المرأة. قامت الممثلة ميريل ستريب بدور سارة وآنا، وقام جيريمي آيرونز بدور تشارلز ومايك. الجدير بالذكر أن ميريل ستريب ارتبطت أيضًا بجيريمي آيرونز خلال فترة التصوير، حيث نشأت بينهما علاقةٌ حقيقيةٌ، مما جعلها بمثابة قصَّةِ الحب الثالثة التي تعكس وتوازي علاقتَيهما في العمل السينمائي.
اعتبارًا من المشهد الأول، ومع كلمة «تصوير» ولقطة الكلاكيت، يخبرنا المخرج كاريل رايس أنَّنا أمام واقعٍ تاريخيٍّ مصوَّرٍ بتقنيَّة "الميتاسينما"، أي بناء فيلمٍ داخل فيلم، وفي أثناء تطوُّر الأحداث والمقارنة بين القصَّتين أو العصرين سندرك أن ذلك الماضي لم يعد سوى ذكرى، أو تاريخ تجاوزتهُ الحضارة، على الأقل بالنسبة إليهم.
يلخِّصٌ مضمون الفيلم بقصَّتيه حال المرأة والمجتمع بين زمنين: سارة في صورة المرأة المقموعة من قِبَل مجتمع القيل والقال والشائعات، المهزومة نفسيًا والمحبوسة في عالم الرجل (الزوج)؛ والممثلة آنا في صورة المرأة الحرَّة التي تعيش وسط مُجتمعٍ منفتحٍ يحترمُ المساحة الشخصيَّة لدى النساء والرجال. تجد سارة صعوبةً كبيرةً ومحاذيرَ كثيرة للخروج بمفردها للتمشِّي على الشاطئ أو الغابة، أمَّا آنا فتتنقَّل بحرِّيةٍ من مكانٍ إلى آخر، ومن مدينةٍ إلى مدينة، لتصويرِ مشاهد الفيلم، بينما يتواجد زوجها ديفيد في مدينة أخرى.
المومس العذراء
يُروج الناس لعلاقةٍ عاطفيَّةٍ قائمةٍ بين سارة وملازمٍ فرنسي، ويصفونها - بناءً على هذه العلاقة المزعومة - بـ «العاهرة». وعلى الجهة المقابلة فإن الضابط الفرنسي، الظاهر في عنوان الفيلم وفي أقاويلِ الناس، لم يظهر في الواقع إلا من خلال حديث سارة المقتضب عنه، وكأنَّ غيابه يشيرُ إلى عدم صحَّة ما يُشاع. هذه الحقيقة ستتأكد عند اكتشاف عذريَّة سارة، ما يعني أنَّ سمعتها شُوِّهَت فقط لأنَّها أحبت شخصًا ورغبت في أن تكون لها شخصيَّةً مستقلَّة.
لعبت رغبة سارة في أن تكون محبوبةً من قبل رجلٍ دورًا في تغذية هذه الشائعة، إلى الحد الذي دفعها إلى اختلاق قصَّةٍ رومانسيَّةٍ بينها وبين الضابط الفرنسي. هذه القصَّة روتها لتشارلز، قبل اعترافها له لاحقًا بأنَّها لا تعرف السبب الذي دفعها لاختلاقها! هذه العلاقة، التي سنكتشف لاحقًا أنَّها كانت من طرفٍ واحد، سرعان ما وجدت طريقها إلى ألسنة الناس داخل المجتمع المغلق للقرن التاسع عشر. ولبيان الفارق بين العصرين والمجتمعين في هذا السياق، تعيش الممثلة آنا علاقةً غراميَّةً مع مايك (الذي يؤدِّي دور تشارلز)، وسيعلم جميع طاقم التصوير بهذه العلاقة، ولكن لا أحد سيعكّر حياة آنا ومايك بالأقاويل، أو يتدخل في خصوصيَّة العلاقة بينهما. المكالمة التي تلقّاها مايك وهما على السرير في غرفتها شاهدٌ على لا مبالاتها، حيث تقول له: «سيعرفون بعلاقتنا وسيظنونني عاهرة»، ليجيبها مايك وهما يضحكان: «أنت فعلًا كذلك». كلمة «عاهرة» في سياقها الجديد المازح فقدت مدلولها القديم ولم تعد مصدر معاناة.
يذكر الفيلم على لسان آنا إحصائيَّةً لعددِ النساء اللاتي كنَّ يعملن في البِغاء في لندن عام 1857: «كان هناك 80 ألف مومس، وكان هناك بيت دعارة لكل 60 منزلًا، وعلى الرغم من أنَّ عدد الذكور في ذلك الوقت، من جميع الأعمار، كان مليون وربع المليون، إلَّا أنَّ نصيب المومسات من الزبائن كان بمعدلٍ يصل إلى مليوني زبونٍ في الأسبوع». هذا التقريرُ يعطي صورةً عن الحياةِ الاقتصاديَّة في العصر الفيكتوري، وعن الفقر الذي دفع بأولئك النساء إلى سلوك هذا الطريق. تؤكِّد آنا هذه المعلومة بقولها إنَّ من بين تلك المومسات «معلِّمات فقدنَ وظائفهُن». ثمَّة مشهدٌ قصيرٌ لأحد أحياء لندن الفقيرة يعكسُ هذا الوضع المزري للنساء على وجه الخصوص. كان يمكن لسارة أن تكون واحدةً منهنَّ لولا أنَّ لديها طموحًا روحيًّا يفوق حاجتها الماديَّة. إنَّ في اختيار سارة، كي تكون نموذجًا يُحتذى به في ذلك العصر، رسالة إلى العصور والثقافات والنساء كافَّة: ثمَّة مَخرجٌ إيجابيٌّ إن عرفَ المرءُ ما يريد.
لا تجرؤ سارا الضعيفة، في البداية، على الدفاع عن نفسها، ولو بالرحيل إلى مدينةٍ أخرى لبدء حياةٍ جديدة، قائلةً لتشارلز: «لو رحلتُ لأصبحتُ ما أنا على ألسنتهم»، أي أنَّهم سيظنُّون هروبها إثباتًا لِما يتهمونها به، ولذلك فضلت البقاء والصمت، لأن دفاعها بالكلام غير مُجدٍ. دفاعها عن نفسها أتى من خلال الفعل، وذلك بمنح نفسها لتشارلز كي يكتشف أنها عذراء، بالتالي ليست عاهرةً كما يُشاعُ عنها.
وجهان لحواء
هذه الحياة التي اختارتها سارة عبارة عن كابوسٍ تعيشه طوال النهار وتراه في نظرات الناس وكلماتهم، فهي لا تنعمُ بالسعادة إلا حينما تنام. كان بإمكانها التخلُّص من هذا العناء بالاندماج مع ثقافة المجتمع، لكنَّها اختارت أن تكون مختلفة، أو لعلَّها وُلدت كذلك، وفي اختلافها يكمن جزءٌ من مُتعتها، حيث يقول الطبيب غروغان واصفًا الداء والدواء: «كان الأمر كما لو أن تعذيبها أصبحَ مصدرَ سرورٍ لها».
تدرك سارا أنَّها مختلفةٌ عن بقيَّة نساء ذلك العصر بقولها: «علمتُ أنَّه قد قُدر لي ألَّا أتزوَّج شخصًا مثلي، لذلك تزوَّجتُ العار. إنَّه العار الذي أبقاني على قيد الحياة، وبمعرفتي أنَّني لستُ حقًا مثل النساء الأخرَيات أدركتُ أنَّني لن أحظى مثلهنَّ أبدًا بأطفالٍ وزوجٍ وحياةٍ أسريَّة. أحيانًا أشفق عليهن، فلديَّ حريَّة لا يمكنهنَّ فهمها، فأنا لا أتعرض للإهانة ولا للَّوم. لقد وضعتُ نفسي خارجَ السلوك المقبول اجتماعيًا. لهذا أبدو في نظرهنَّ لا شيء، بالكاد بقايا إنسان. أنا في نظرهنَّ عاهرةُ الملازمِ الفرنسي!»
تضيق سُبل العيش بسارة فتُضطرُ إلى الرحيلِ بمساعدة تشارلز، ثم تختفي وتظهرُ بعد ثلاثِ سنواتٍ في مدينةٍ أخرى وقد تطوَّرت شخصيَّتها وتحسَّنت حالتُها النفسية. كانت تُعاني من فقدانها للحبِّ ومن حالةٍ سوداويَّةٍ ناتجةٍ عن القمع الاجتماعي، وقد انعكست تلك الحالة على رسوماتها الكئيبة وملابسها القاتمة وملامح وجهها الحزينة. وبعد أن وجدت الحبَّ الحقيقيَّ في شخص تشارلز، أدركت عنصرًا مهمًا مفقودًا في حياتها، ألا وهو العثور على نفسها وعلى ما تريد أن تكونه. وبعد اختفائها، وأثناء بحث تشارلز عنها، التقت بزوجين رسَّامين ثريين استضافاها في بيتهما لتعليم أبنائهما، ومنحاها حريَّة التصرف، فأصبحت لها شخصيَّتها المستقلة. هذا التغيُّر في البيئة والمعاملة قد انعكسَ على رسوماتها التي خلت من السوداوية السابقة.
هذا الفارق بين شخصية سارة وشخصيَّة آنا من جهة، أو بين منتصف القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، قد ظهر من خلال ألوانِ الصور والملابس؛ فألوان مَشاهِدِ القرن التاسع عشر قاتمةٌ وأجواؤه عاصفة، في حين أنَّ ألوان مشاهدِ القرن العشرين فاتحةٌ ومبهجة. من جهة أخرى انعكس التطوُّر في شخصيَّة سارة من خلال المشهدِ الأخير الذي جمعها بتشارلز: مشهدٌ بألوان فاتحةٍ يتناسبُ مع شخصيَّتها الجديدة المتفائلة والسعيدة، خلافًا لحزنِها ونظراتها الخائفة في السابق. إنَّ إيجادها نفسِها على هذا النحو هو ما دعاها لمراسلة تشارلز كي يزورها ويغفر لها رحيلها المفاجئ.
لم تكن سارا تريد من تشارلز أن يُقدم تضحيات في سبيلها. ولم تكن تريد الارتباط به وهي في صورتها الضعيفة؛ فذلك سيعني حاجتها إلى رجل أو زوج تعيش في ظله. بل كانت تريد الارتباط به عن حب وهي في صورتها القوية؛ إذ تمتلك زمام أمرها. وعندما وجدت نفسها أخيرًا، راسلته وطلبت منه الغفران، وهو ما فعله تشارلز، لتنتهي قصتهما بنهاية سعيدة على قارب واحد يخرج من مضيق إلى بحيرة واسعة ليشير إلى رحلة وبداية جديدة.
في سبيل حبه لسارة، ضحَّى تشارلز بثروته، بسمعته وطموحه، ونكث عهوده لخطيبته إيرنيستينا. الشيء نفسه الذي كان مايك ليفعله، وذلك بالتضحية بزوجته وطفليه لقاء استمرارِ علاقته بآنا، لولا أنَّها وضعت حدًا لهذه العلاقة. رحلت آنَّا لأنَّها تدرِك حجمَ التعاسةِ التي ستلحقُ بزوجته وعائلته نتيجةً لذلك. قالت لزوجة مايك: «أغبطك»، وأضمرت السبب الحقيقي لغبطتها، لكن السبب كان ظاهرًا على وجهها المليء بالسعادة وهي في ضيافة مايك وزوجته. اختارت آنا نهايةً مغايرةً لقصة حب سارا وتشارلز، وهي نهايةٍ سعيدةٍ إذا نظرنا إلى مصلحة الأسرتين بوصفِها أولويَّة، حيث كانت آنا متعلِّقةً بزوجها ديفيد. وقد ظهر ذلك في ندائها لتشارلز باسم زوجها ديفيد. وكان رحيلها مُعبِّرًا أيضًا عن موقفِها تجاه علاقتها بمايك باعتبارها مجرد نزوة، في حين أنَّ مايك قد رغب في نهايةٍ لقصتهما شبيهةٍ بخاتمة قصَّة سارة وتشارلز، وقد عبَّر عن هذه الأمنية، دون وعي، في ندائه لآنا باسم شخصيتها في الفيلم: سارة.
ثمَّة عبارةٌ مهمَّة وردت في الفيلم على لسان الطبيب غروغان، وقالها في سياق الحديث عن عمل تشارلز في الحفريَّات: «عندما نعرف أكثر عن الأحياء، ساعتها يمكن أن نلاحق الموتى». بهذه الكلمات، يصبح الفيلم أشبه بحفريَّةٍ تنبشُ في أعماق المجتمع الفيكتوري، كاشفةً لنا، من خلاله، عن ملامح عصرنا وانعكاساته على ذواتنا.