لا تكتب ميا هانسن لوف أفلامها بحبكة تقليدية واضحة. من المؤكد أنها تتبع خطة وتمتلك فكرة لما تريد قوله، لكن المُنتَج النهائي يبدو كنهر لا يعرف وجهته، ويترك أمر تحديد مساره للطبيعة. وكمُشاهد فإنك تكتفي بمتعة مشاهدة تدفق المياه دون أن تُعنى بنبعه أو بمصبّه. لعل السبب في هذا الأسلوب أن ميا لم تذهب إلى السينما ولكن السينما هي من أتتها. عندما كانت في السابعة عشرة، بدأت حياتها السينمائية ممثلةً، وعندما جربت الإخراج في عام 2001 وجدت نفسها واكتشفت منذ أول يوم تصوير أن هذا هو ما أرادت فعله.
تكتب أفلامها كقصائد تقتطعها من الحياة، ومن نماذج العلاقات الزوجية أو العاطفية والأُسرية بالذات. هكذا كتبت وأخرجت فيلمها «وداعًا حبي الأول» (2011)، وبالأسلوب نفسه صنعت فيلمها هذا «جزيرة بيرغمان» (2021) Bergman Island، وبالروح نفسه كتبت وأخرجت فيلمها «ذات صباح رائع» (One Fine Morning (2022، وإن كان مستواه أقل من سابقه، ما يعزز فكرة أن ميا لا تنظر إلى السينما بوصفها مجالًا لبناء مجد شخصي متراكم، بل تجربةً ممتدة تصور فيها أو من خلالها نماذج من الحياة العامة وربما من حياتها هي الشخصية. يدعم هذه الفرضية أنها لا تستعين بنجوم كبار.
كل فيلم من أفلامها -التي شاهدتُها- يصور أزمة ما في العلاقات العاطفية والزوجية والأسرية، وينبني التشويق فيها على كيفية تعامل أبطالها مع هذه الأزمات. ما من صراعات كبرى تحرك الحبكة؛ الصراعات غالبًا نفسية وذات نطاق محدود بالعلاقة التي يصورها الفيلم. ولا يخرج فيلمها «جزيرة بيرغمان» عن هذا الموضوع إلا في استعارتها لاسم بيرغمان الذي لا يحضر كديكور يمكن الاستغناء عنه بل كتجربة حياتية إنسانية وسينمائية تُحتذى أو تُنتقد.
بيرغمان الذي لا نعرفه
تدور قصة فيلم «جزيرة بيرغمان» حول زوجين يلجآن -مثل كثير من الفنانين والكُتاب والطلاب- إلى جزيرة فارو التي ألهمت بيرغمان، ليستلهما بدورهما سيناريوهين لفيلميهما القادمين. في هذا السياق تغيم الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال وتصبح الحياة الشخصية مصدرًا للإلهام أكثر من الجزيرة التي لجآ إليها. تدور أحداث الفيلم في جزيرة فارو السويدية التي عاش ودُفن فيها المخرج السويدي إنغمار بيرغمان، كما صَوَّر عديدًا من أفلامه هناك، من بينها:«عبر زجاج معتم» (1961)، «بيرسونا» (1966)، «عار» (1968)، و«مَشاهد من زواج» (1973). جميع هذه الأفلام وغيرها تشير إليها ميا هانسن في فيلمها هذا على نحو عابر.
يحضر بيرغمان هنا لا بصفته الأيقونة المعبودة، بل بصفته مبدعًا قابلًا للنقد والاحتفاء معًا، ليس بالضرورة من بوابة نقدية أكاديمية بل من باب الذائقة الشخصية والجدل القابل للأخذ والرد. على هذا النحو يُعجب توني (تيم روث) ببيرغمان -الكاتب والمخرج- ويدافع عنه دون أن تعنيه حياته الشخصية، بينما لا تستطيع كريس (فيكي كيبس) أن تفصل بيرغمان المبدع عن بيرغمان الإنسان والزوج والأب. يظهر هذا الاختلاف في بوستر الفيلم: كل واحد منهما ينظر إلى جهة مختلفة، وسيكتشفان الجزيرة كل بطريقته: هي تحب الاكتشاف الحر بمفردها أو برفقة صديق وهو يرافق المجموعة بمُرشدها السياحي.
نلتقي هنا بنسخة لا نعرفها عن بيرعمان الإنسان في إشارات عابرة عن علاقته بزوجاته الست وأبنائه التسعة وحياته على الجزيرة، إضافة إلى علاقته بالله وبالأشباح. ويمكن تقسيم الفيلم إلى كتلتين: في الكتلة الأولى يتتبع الفيلم آثار بيرغمان على الجزيرة ويشير إلى حياته الشخصية باقتضاب. ومن خلال استعارتها لبيرغمان تطرح ميا سؤالين مركزيين: هل يمكن للفنان أن ينجح في حياته الشخصية والمهنية الإبداعية أم أن إحدى الحياتين ستأخذ من الأخرى وتؤثر عليها سلبًا، كما هو حال بيرغمان؟ وهل النجاح في الحياتين مرتبط بالمهنة أم بالطبيعة الشخصية؟ يجيب الفيلم عن هذين السؤالين بلُغة فنية غير مباشرة من خلال حياة كريس وزوجها توني وطفلتهما. نجاح هذه الأسرة الصغيرة في التوفيق بين الحياتين فيه جواب عن عدم تعارض حياة الفنان المهنية مع حياته الشخصية إنْ هو تحلى بقدر من المسؤولية وتغلب على هواه ولم يَخُض عديدًا من العلاقات وينجب كثيرًا من الأبناء. كريس وتوني صانعا أفلام، لكن هذا لم يتعارض مع حياتهما الخاصة التي تبدو مستقرة. لا تخلو علاقتهما من المنغصات، لكن تلك المنغصات لها علاقة بالماضي أكثر من الحاضر، وبماضي كريس على وجه التحديد، كون هذا الفيلم مبنيًا من وجهة نظرها هي. ذلك الماضي يمكن التخلص منه أو التنفيس عنه بواسطة الفن (السينما). يصبح الفن هنا مساعدًا في إنجاح العلاقة الزوجية لا ضدها. هكذا نرى كريس وتوني وطفلتهما في الختام في جو أُسري يسوده الحب.
تريد ميا أن تحقق معادلة ناجحة للسعادة في حياة الإنسان الفنان. تتمنى كريس أن يكون بيرغمان قد عاش سعيدًا في حياته أكثر مما فعل في أفلامه! وتتساءل: لماذا شخصياته فظيعة؟ لماذا لا يُظهر أي حنان أو بهجة؟ لماذا لم يرغب في استكشاف السعادة مع أن كل ما حوله -المناظر الطبيعية في الجزيرة- أقل قسوة مما هي عليه في أفلامه! وتخلُص إلى أن الأفلام يمكن أن تكون محزنة للغاية وقاسية وعنيفة لكنها بالنتيجة تؤثر فينا إيجابيًا، وهذا ما لا تحققه أفلامه، كما ترى كريس، فهي تؤذي وحسب. ومع ذلك تشاهدها كريس، لأنها تحبها.
بيرغمان الذي ملأ صيته العالم، هو شبه مجهول في الجزيرة التي تُنسب إليه، مثلما أن حياته الشخصية شبه مجهولة للمشاهدين. بيرغمان -في نظر بعض سكان الجزيرة- غير معروف، بالرغم من أن الجزيرة تخصص أسبوعًا يقام كل شهر يونيو لتكريمه! وهو في نظر آخرين شخص لا يطاق ومُبالغ في تقديره! يتساءل أحدهم مستغربًا: لماذا السويد مرادفة لبيرغمان؟! وهناك من يسخر من بيرغمان، ومن يرى أنه مدلل و«لم يُعانِ من أوقات عصيبة في حياته»!
يعكس عنوان الفيلم قيمة بيرغمان، الذي تحول إلى رمز ومتحف مفتوح يقصده طلاب السينما وصانعيها والسياح عمومًا، وتُملِّكه ميا جزيرة لا يعرفه بعض أهلها، ومن يعرفه فيها يحمل له ذكرى غير طيبة على المستوى الشخصي، كما تعكس مفردة «الجزيرة» في العنوان ومضمون الفيلم معنى المعتزل الإبداعي والعزلة النفسية، وهذا ما صوره الفيلم وصورته أفلام بيرغمان نفسه. هو من ناحية فيلم عن «بيرغمان» أكثر مما هو فيلم عن «الجزيرة»؛ بهذا يصبح بيرغمان جزيرة بذاته ويمكن اقتفاء أثره الحياتي الخاص لا اتباعه بالضرورة. بهذا نكون أمام جزيرة ذات مضمون معنوي وليست مجرد مكان على الخريطة فحسب. وبقدر ما هو فيلم عن ترميم الذات والعلاقات الزوجية والعاطفية هو أيضًا فيلم عن قوة السينما وأثرها في حياة أصحابها وحياة المشاهدين.
السينما وسيلة خلق وتنفيس
ميزة الفنان أنه قادر على الخلق، وبتقنية الميتاسينما يمكنه أن يلتقي بمخلوقاته (شخصياته). هذه تقنية مشابهة لـ«ما وراء القص» في أدب السرد الروائي والقصصي. نعمة أخرى يحظى بها الفنان هي استبطانه لذاته أو إسقاطها على شخصياته. على هذا النحو يمكن أن تكون كريس (فيكي كريبس) في «جزيرة بيرغمان» هي المخرجة نفسها (ميا هانسن)، التي تبحث مع زوجها المخرج توني ساندرز (تيم روث) عن موضوع أو قصة لفيلم قادم، ولا يجدان مصدر إلهام أفضل من جزيرة فارو السويدية حيث عاش وعمل ومات بيرغمان.
ثمة فيلم داخل الفيلم هنا، كريس، التي كانت مرآة لـ«ميا هانسن»، ستصنع لها مرآة أخرى هي آمي (ميا واسيكوسكا). وفي مضمون الفيلمين -فيلم ميا «جزير بيرغمان» وفيلم كريس، الذي نشاهد جزءًا منه وهي ترويه لزوجها توني- ثمة رسالة مضمرة إلى الكيفية التي تتخلّق فيها فكرة فيلم، والمأزق الذي قد يعلق فيه المخرج وهو يبحث عن نهاية لقصة يمكن أن تنتهي بأكثر من نهاية، ما يفيد بأن القصة هي مَن تصنع نهايتها أو نهاياتها أو مصائر شخوصها.
آمي تلعب دور كريس، أما جوزيف فهو عشيقها الذي ندم على خيانته لزوجته وفضَّل التوبة والرحيل. جوزيف هنا يشبه زوجها المخلص (توني) ويمكن أن نرى فيه نموذجًا مغايرًا لبيرغمان وتعدُّد علاقاته، بل ومغايرًا لشخصية كريس التي عبّرت عن أمنيتها في إنجاب تسعة أبناء من خمسة أزواج مختلفين كما فعل بيرغمان الذي تزوج ست نساء وأنجب تسعة أبناء ولم يكن ذلك الأب الصالح إلى درجة أن إحدى بناته لم تكن تعرف أنه والدها!
ثمة دوائر متداخلة في هذه القصة توحي بأننا جميعًا شخصيات أو قصص في أفلامٍ أو روايات متداخلة ولانهائية. أتذكر هنا رواية «عالم صوفي» لجوستاين غاردر، حيث ينجح ألبرتو وصوفي في الإفلات من خيال كاتبهما، ويتمكنان من النفاذ إلى عالمه المحكوم ببُعده الخاص، ويعيشان كشخصين غير مرئيين، لتنقلب الأدوار من مراقَبَين إلى مراقِبَين. يمكن النظر إلى استقلال شخصيتَي صوفي وألبرتو، من منظور أدبي، حين نقول بأن الشخصيات القصصية ترسم قدَرها ومصيرها بنفسها، وما مؤلفها سوى خالقها وليس المتحكم في تسييرها بالضرورة. هذا ما عبّر عنه بعض الكُتاب، في قولهم إن «الكتابة اكتشاف»، مثل هيمنغواي الذي سُئل إن كان يعرف كيف يُنهي القصص حين يبدؤها فقال: «كلا. ليس لدي فكرة»، و«أوكونور» التي قالت بأنها «لا تعرف ما سوف يحدث من جملة إلى أخرى»، وكذلك آليس مونرو التي قالت: «أنا لا أعرف في البداية إلامَ ستؤول إليه الأمور». ومن منظور فلسفي، يُعد استقلال الشخصيات الأدبية و نجاحها في الهروب من سلطة المؤلف انتصارًا للخيار البشري على المخطط القدري.
لم تجد كريس نهاية ملائمة لقصة فيلمها، أو بمعنى أدق: وقفت أمام خيارات محتملة أو ممكنة للخاتمة أحدها انتحار البطلة آمي. بقيت كريس عالقة عند حدود النهاية التي رفض زوجها توني مساعدتها في إيجاد خاتمة لها، بحكم أنه يشاركها الصناعة نفسها. ربما رفض لإدراكه أن آمي هي كريس وأن هذه القصة هي حياتها وهي وحدها مَن يملك قرار إنهاء القصة بالكيفية التي تراها مناسبة وتضمن لها الخلاص. لم تجد كريس نهاية لفيلمها لأنها ما زالت تعيش القصة وبما أن قصتها (حياتها) لم تنتهِ بعد، فمن الصعب إنهاء الحكاية إلا تخيلًا. ولأن المشكلة تخصها نجدها تنفرد بنفسها في أغلب الأوقات. الجزيرة هنا مكان لترميم ذاتها. من المؤكد أن علاقتها بجوزيف قد انتهت برحيله، وإن كان حبها له لم ينتهِ بعد. تلك العلاقة ما زالت تلقي بظلالها المؤرقة عليها وقد تخلصت منها جزئيًا بالفيلم الذي صنعته وانتهى نهاية مفتوحة على ما يبدو، أو أن نهاية فيلم كريس سنراها متحققة في فيلم ميا. بعد الانتهاء من تصوير الفيلم تقول كريس للممثل الذي لعب دور حبيبها جوزيف: ما زلتُ عالقة. أما الخلاص من هذا المأزق النفسي فيأتي بصريًا في نهاية فيلم «جزيرة بيرغمان» بعودة زوجها إلى الجزيرة، لقضاء الوقت معًا، وبحضنها لابنتها.
ثمة نموذج هنا، أي في فيلم «جزيرة بيرغمان»، للفنان الذي لا يريد أن يكرر نفسه في أعماله، ونموذج للفنان المنظم وآخر للفنان الفوضوي الذي تجده الموضوعات بقدر ما يبحث عنها.. وأنا أشاهد هذا الفيلم وجدتُ نفسي أستعيد فيلم «بجوار البحر» (2015) By the Sea، كتابة وإخراج أنجيلينا جولي، وشاركها البطولة براد بيت. يحكي هذا الفيلم قصة زوجين يحاولان ترميم علاقتهما الزوجية بالإقامة في ريف ساحلي فرنسي... لعلها روح البحر هي المسؤولة عن هذا الاستدعاء، أو لعل وجود زوجين في القصتين هو السبب، لكن الأهم من هذا هو خلفيتهما المهنية، فـ«رونالد» (براد بيت) كاتب أمريكي يعاني من أزمة في الكتابة، و«فانيسا» (أنجيلينا جولي) راقصة تعاني من حالة ذهانية، ويساعدهما جو البلدة في مناقشة علاقتهما وفي الوقت نفسه يتقربان من الناس.
يكمن أثر العمل الفني في تحوُّله إلى مصدر إلهام، في دائرة أو خط إبداعي موازٍ. من هذه الناحية تَحَوَّل هذا الفيلم، بالنسبة لي، إلى جزيرة أخرى، فخلق نصًا مع مَشاهده الأولى ولم يَطُل مكوثي طويلًا للبحث عن نهاية له، فقد تكفلتْ أغنية التتر (الختام) بإكماله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش