توطئة:
حينما يوطئُ الكاتبُ للقارئِ فهذا يعني العديد من الأشياء، أولُها أنَّ الكاتبَ قدْ مرَّ بطريقٍ ما، وثانيها أنَّهُ عادَ إلى نقطةِ البدءِ، أيْ ما قبلَ سلوكِهِ للطريقِ، وثالثها أنَّهُ سيأخذُ منْ لا يعرفُ الطريقَ ويتعهدُ بتعريفِهِ إياهُ حتى يصلَ القارئُ إلى ما وصلَ إليهِ الكاتبُ نفسُهُ. فما هيَ وظيفةُ التوطئةِ إذًا؟ إنَّها قيامُ الكاتبِ بتجنيبِ القارئِ للمشقَّةِ المتمثلةِ في الالتقاءِ بما لا يساعدُ على بلوغِ وجهةٍ قدْ سبقَ لهُ بلوغُها إبانَ بحثِهِ وسلوكُهُ طريقًا لمْ يكنْ يعرفُ ما قدْ يواجهُهُ فيهِ. وبهذا فإنَّ التوطئةَ هيَ إعفاءُ القارئِ منْ المشقَّة عبرَ بيانِ ما لهُ داعٍ لبلوغِ الوجهةِ بصفتِهِ حاسمًا.
هذا المقال له طابَعٌ فلسفي ولا يقومُ على التعارضِ معَ مقالٍ قدْ سبقَ ونُشِرَ هنا في ميمٍ للكاتبِ "يزيدُ السنيد" بعنوان "السينما فنٌّ جماهيري؟" وما يثبتُهُ ولا على إثباتِ ما يردُّهُ وينفيهِ، ونقصِد من ذلِك أنّ هذا المقال يُخاطِب الجميع، وليس شأنا يخصُّ أو يعلي شأن فئة على فئة أخرى وهو على مسافةٍ واحِدة ممّن يُخاطِبهم على تنوّعهم و اختلافهم، وفي تقديرِنا أنَّ السؤالَ غيرُ ممكنٍ طرحهُ لا مِن جِهة الذين يثبتون جماهيريّة شيءٍ ولا من جِهة الذين يثبتون نخبويّته/خصوصيّته؛ لأنَّ انتماءَ الجمهورِ لمعروضٍ ما، سينمائيًا كانَ أوْ غيرَ ذلكَ، هوَ انتماءٌ يشكلُ حقيقةَ المعروضِ نفسِهِ، وهذهِ الواقعةُ الأولى التي يكونُ أولى مبادئِ النظرِ فيها هوَ القبولُ بها، إذْ أنَّ الجمهورَ واقعةٌ/incident/Vorfall غيرُ سارةٍ لمنْ يعرضُ شيئًا، لأنَّ التقاءَهُ بمعروضِهِ أمرٌ قدْ يترتبُ عليهِ عدمُ الاعترافِ بهِ، وهذا يعني إزاحةَ النظرِ عنهُ، ومثلما رأينا في كافّة محاورات أفلاطون سقراط وهو يُنكّل به بأنواع الإساءات والسخرية والاستنقاص وما كان ذلك إلّا لوضعيّة لم يُعلنها أفلاطون وهي : كلُّ قولٍ موجّه إلى الغير يحمِل في ثناياه إمكانيّة تعريضنا للخَطر.
في أنَّ الجمهور باعتباره "آخرًا" هو سند للموضوعية:
منْ شأنِ ما يُعرَضُ أنْ يكونَ لهُ جمهور، وبهذا المعنى فإنَّ الجمهورَ يمثلُ واقعيةً (reality) لما يُعرَض، أيْ المعروضِ منْ قبلِ الذاتِ والذاتِ التي تعرضُ شيئًا، والتي تسمى اصطلاحًا بـ "الذاتِ العارضة"؛ وكونُ الجمهورِ يمثلُ واقعيةً لها ولما تعرِض، فهذا يعني أنَّ الجمهورَ مكوِّنٌ ضروريٌّ لأيِّ معروضٍ تُظهِرُهُ الذاتُ العارضة، وبدونِهِ لا يكونُ المعروضُ "معروضًا"، وإلا فلِمَنْ تَعرِض؟ وعلى هذا المنوال، فإنَّ الجماهيريَّةَ تنتمي إلى أيِّ شيءٍ يُعرَضُ وبمقولةٍ كليَّةٍ متَّحدةٍ واحدة: "كلُّ ما هوَ معروضٌ جماهيري"، وهذهِ المقولةُ لا تجعلُ منْ الممكنِ إتاحة الفرصةِ لسؤالٍ بينَ أندادٍ على غرارِ "هلْ الشيءُ الفلانيُّ هوَ كذا؟" بحيثيةٍ تجعلُ منْ الإجابةِ عنهُ بالإيجابِ استبعادًا لغيرِهِ منْ الإجاباتِ، ومنْ الإجابةِ بالنفيِ إيجابًا لإجابةٍ أخرى. ولا يترتَّبُ على ذلك إعلاءُ شأنِ نخبةٍ ما على العوامِّ، ولا توجبُ عكسَ ذلكَ، وسنرى لاحقًا أنَّ ما يترتبُ عليه هوَ أنَّ هذهِ الثنائيةَ بمجملِها بدعةٌ لا محلَّ لها إذا نظرنا في مفهوم الجمهورِ و مفهوم النّخبة و التفاعُلات الكائنة بينهما .
لا يقتصرُ الأمرُ على علاقةٍ غائيةٍ مِنْ قبيلِ أنَّ أيَّ معروضٍ هوَ للجمهور، أوْ لأجلِهِ أوْ ينتميَ إليه، بلْ إنَّ المعروضَ، وقبلَ أنْ تعرِضَهُ الذاتُ العارِضةُ، هوَ الذي يحدِّدُ ما المعروض وكيفَ يكونُ؛ وذلكَ بناءً على حيثيتينِ: أولاهما هيَ أنَّ المعروضَ بحاجةٍ لأنْ يُفهمَ، وثانيهما أنَّ هذا الفهمَ لا يكونُ إلا عبرَ مشتركٍ بينَ الذاتِ التي تعرضُ والجمهورَ الذي يتجمعُ حولَ ما تعرِضُهُ. هذا المشتركُ يُعرَّفُ اصطلاحًا على أنَّهُ الفهمُ المسبق، حيثُ تتوسَّلُ الذاتُ العارضةُ عبرَ قضايا أوْ رؤىً مشتركةٍ بينَها وبينَ الجمهورِ لِيُبلغَ ما تعرضُهُ فيعرف ما هو، إلا أنَّ المعروضَ ليسَ الجمهورَ والعكس ليسَ صحيحًا، بيدَ أنَّ الثانيَ ضروريٌّ لكيْ يكونَ الأولُ "معروضاً" بالمعنى التامِّ، والمعنى التامُّ المقصودُ هنا هوَ أنْ يضيفَ شيئًا لموضوعيتِهِ على جهةِ المُصَادَقةِ، أيْ إعطائِهِ تأكيدًا على التأكيدِ الأولِ الذي قامتْ بهِ الذاتُ العارضةُ حينَ قررتْ عرضَهُ. ما تضيفُهُ هذهِ المصادقةُ هوَ حقيقةُ المعروضِ، أيْ أنَّها تمنحُهُ قوامَهُ كشيءٍ موجودٍ، فالمعروضُ لا يكونُ معروضًا إلا إذا كانَ مرغوبًا، ولوْ كانَ العملُ المعروضُ فنيًا أوْ غيرَ فنيٍّ، فلا بدَّ للذاتِ العارضةِ أنْ تأملَ لوْ تكونُ مرغوبةً منْ خلالِ المشتركِ بينَها وبينَ الجمهورِ، أوْ كما سميناهُ بالفهمِ المسبقِ، والذي تبني عليهِ فهم عملِها وتحصدُ منْ خلالِهِ المرغوبيةِ فيهِ. إنّ المُصادَقة لا تزال موضوعًا يحتاج إلى تدقيق لفهم مبررات حضورها الضروري في العلاقة بين ما يُعرض والجمهور. إنها تُعتبر حدثًا أنثروبولوجيّا إنسانيًا يتعلق بالناس وعلاقاتهم بشكل عام. وبما أن هذا هو طابعها، فإنها تعتمد على مفهوم بسيط للعدالة، وهو أن ما يُعتبر عادلاً هو ما يُمكن مُقاسمتُه مع الآخرين. فالمَعروض يتعلق بالذات التي تقدمه بنفس القدر الذي يتعلق فيه بالجمهور وذلِك من خلال فعل العرض، يتم تقاسم المَعروض مع الآخرين. وبالتالي، يُعتبر فعل المصادقة من قِبل الجمهور دليلاً على أن المَعروض عادل أو قابل للاقتسام مع الذات التي قدمته. فكيف يمكن أن تتجلى الموضوعية إذن؟ لها وجهان، ولا يوجد ثالث لهما:
الوجه الأوّل: يثبِّتُ الجمهورُ المعروضَ باعتباره شأنًا يُنظر فيه .
الوجه الثّاني: من خلال فعل التثبيت، يعملُ الجمهور على إدامة المعروض واستمراريَّته .
الجمهور ككتلة:
في كتابِهِ "فلسفةُ الرفض" (philosophy of no)، يقولُ غاستون باشلار إنَّ الكتلةَ عبارةٌ عنْ شيءٍ نقوِّمُهُ بالنظر، وهيَ في بعدِها الأرواحيِّ أوْ الإحيائي (أيْ بُعْدَ الحياةِ المتعلقِ بالنفسِ وحياتِها) تدلُّ على "الفائضِ"، تمامًا مثلما يتحدَّثُ معالجٌ نفسيٌّ أوْ محلِّلٌ سلوكيٌّ عنْ الشحنةِ العاطفيَّةِ، فهوَ يعني كتلةً عاطفيَّةً فائضة؛ إلا أنَّ الفائضَ ليسَ دومًا "زائدًا عنْ اللزومِ"، إنَّما يتَّجهُ في خطابِهِ نحوَ الرغبة، فكتلةٌ منْ وجبةٍ لذيذةٍ تخاطبُ الرغبةَ خيرَ مخاطبة.
لا يختلفُ شأنُ الجمهورِ عنْ شأنِ الكتلةِ، فهوَ علاوةٌ على ذلكَ كتلةٌ تتكتلُ حولَ المعروضِ، كما لوْ كانَ هناكَ تأنيبٌ سابقٌ منْ جهةِ المعروضِ نحوَ الجمهورِ على تركِهِ في انفرادِهِ (يقولُ الشاعرُ سلطان محمد: كما أنَّ صيغةَ الجمعِ للمفردِ تنمُّ عنْ توحُّدٍ شديدٍ ووحدةٍ)، وما نصفُهُ هنا هوَ وضعٌ وتهديدٌ أوليٌّ للمعروضِ بأنْ يفقدَ موضوعيتَه، حيثُ لا يثبتُ لينظرَ فيهِ ولا يدومَ ليتداولَ، وإنَّ كتلةً منْ الجمهورِ لتثبت المعروضَ خيرَ تثبيتٍ وتديمَهُ خيرَ إدامةٍ. وما هوَ أكثرُ عمقاً هوَ أنَّ هناكَ وحدةً تنشأُ بينَ المعروضِ وجمهورِهِ في حالةِ تكتلٍ حولَهُ، والتي تظهرُ في تجاربَ معينةٍ عندما يلومُ جمهورٌ معروضٌ ما أولئكَ الذينَ لا ينتمونَ إليهِ أوْ يعتبرونَهمْ غيرَ مهمينَ. والجدير بالذكرِ في هذه الحالة هُنا أنَّ نداءَ المعروضِ لامتلاكِ جمهورٍ يستمرُّ منْ خلالِ ذلكَ الجمهورِ ذاتِهِ الذي وجهَ إليه المعروض لوماً طبيعياً نابعًا منْ حقيقةِ وجودِهِ.
حلُّ الرابطة بين كثرة الجمهور وقلّته وقيمة الشيء المَعروض المُصادَق عليه:
نبدأُ فقرتَنا هذهِ بسؤالٍ: متى تكونُ التجرُبةُ تجربة؟ سنجيبُ عنْ سؤالِنا هذا بتحديدِ وضعيةِ الشيءِ الذي نجرِّبُهُ أولًا ولهُ وضعيتانِ:
وضعيةٌ أولى: أنَّهُ مجهولٌ.
وضعيةٌ ثانية: بالنظرِ إلى أنَّهُ مجهولٌ لا نستطيعُ أن نَّشتَرِطَ عليه أيِّ شيءٍ أوْ أنْ يعبرَ عنْ شيءٍ بعينِهِ و نفقِد الحق في ذلِك .
نقصدُ منْ وراءِ طرحِ هذا السؤالِ إزاحةَ الغايةِ عنْ التجربةِ؛ لأنَّ أيَّ فرضٍ نفرضُهُ حولَ التجربةِ سيجعلُ منْ تعبيرِ الشيءِ عنْ نفسِهِ أوْ المعروضِ في هذا السياقِ تعبيرًا محدودًا أوْ ناقصًا، نعني بذلكَ على نحوٍ أخصَّ أنَّ قلةَ أوْ كثرةَ جمهورِ من حيث العدد شيءٌ لا شأنَ له بقيمةِ المعروضِ، أكان عملًا فنيًّا أوْ تجاريًّا… الخ؛ لأنَّ حقيقةَ التجربةِ كما رأينا تفرضُ تجاهلَ كلِّ ذلك، والقيمةُ في الاستخدامِ اليوميِّ للكلمةِ هيَ إخبارٌ عنْ "فضل" شيءٍ علينا بصفتِنا كائنات ترغبُ. والحالُ أنَّنا في هذا السياقِ جمهورٌ يرغبُ في معروضٍ بعينِهِ، ويرغبُ تحديدًا في أنْ يعرضَ لنا نفسَهُ كيْ نجربَهُ، ومنْ هذهِ اللحظةِ سنعمدُ إلى حالةٍ ذكرَها القديسُ أوغسطينوس في اعترافاتِهِ ونستجلي منْ خلالِها انحلالَ الرابطةِ بينَ قلةِ أوْ كثرةِ جمهورِ شيءٍ ما وقيمتِهِ أمّا توليةِ الوجهِ نحوَ وثيقتِهِ المسماةِ بالاعترافاتِ فهيَ لأنَّ بحثَهُ عنْ الحقيقةِ قدْ أخذَهُ في تطوافِ نحوِ سائرِ أشكالِ العلاقاتِ ومنها العلاقةُ بينَ المعروضِ والجمهورِ، وأنَّ تجربتَهُ لهذهِ العلاقةِ كانتْ تجربةً بالمعنى الذي قررناهُ آنفًا.
يسردُ القديسُ أوغسطينوس في كتابِهِ "الاعترافات" أنَّ أحدَ العارفينَ المشهورينَ بالأدبِ المانويِّ قدْ حضرَ وأخذَ يلقي تعاليمَهِ على جمهورٍ قدْ تكتلَ نحوَهُ وعليهِ، فَشُغِفَ بهِ أوغسطينوس مِثلَهُم وأخذَ ينهلُ منْ كلِّ متاحٍ منْ المؤلفاتِ التي تختصُّ بالمانويةِ، ويذهبُ لهذا العارفِ الخطيبِ، يحتدمُ معهُ وَيسائلُهُ، حتى بلغَ مبلغًا عرفَ فيهِ أنَّ هذا العارفَ بالأدبِ المانويِّ ليسَ عارفًا كما هوَ مشهورٌ عنهُ وكما يُعَرِّفُ نفسَهُ. يهمُّنا في سردِ هذهِ الحالةِ ثلاثة أشياء: أوَّلًا وضعيةُ القديسِ أوغسطينوس والذي يعدُّ منْ الجمهور، وثانيًا عمليةُ الاحتدامِ معَ المعروضِ، وثالثاً هوَ أنَّ المعروضَ الذي كانَ لهُ قيمةٌ باعتبارِ عددِ جمهورِهِ لمْ يعدْ كذلكَ، بلْ إنَّهُ لا قيمةَ لهُ وإنَّما هوَ خلافُ ذلكَ. إنَّ هذا المثالَ كفيلٌ بسحبِ البساطِ منْ شرعنةٍ قيمةِ معروضٍ ما، سواءٌ كانَ عملًا فنيًا أوْ غيرَهُ، منْ خلالِ عددِ جمهورِهِ، والأهمُّ منْ ذلكَ أنَّهُ يجعلُ الإمكانيةَ الوحيدةَ للحكمِ على قيمةِ معروضٍ ما منْ خلالِ تجربةٍ لا تشترطُ غايةً أوْ شيئًا بعينِهِ ليعبرَ عنهُ المعروضُ سوى نفسِهِ. إنَّ تجربةً منْ هذا النوعِ، أوْ تجربةً متماهيةً معَ كونِها تجربةً، هيَ شرطُ إمكانِ تعيينِ قيمةِ المعروضِ نفسِهِ كما ظهرَ منْ خلالِ سردِ علاقةِ القديسِ أوغسطينوس معَ ذلكَ العارفِ بالأدبِ المانويِّ. يقولُ غاستون باشلار في عينِ الكتابِ الذي ذكرناهُ سابقاً إنَّ "الكتلةَ بالنظرِ إلى الرغبةِ قدْ تكونُ عائقًا معرفيًا" فلوْ أنَّ القديسَ أوغسطينوس توقفَ عندَ حدودِ الجمهورِ الذي هوَ كتلةٌ راغبةٌ تتكتلُ حولَ المعروضِ لكانَ الجمهورُ كذلكَ حجابًا بينَهُ وبينَ حقيقةِ المعروضِ.
هناكَ حالةٌ أخرى على اللسانِ الاعترافيِّ للقديسِ أوغسطينوس تكونُ فيها الأدوارُ مقلوبة، فهوَ الذاتُ العارضةُ لمعروضٍ يملكُ جمهورًا، وعلى لسانِهِ الاعترافيِّ يقولُ: "كنتُ بالكذبِ أبحثُ عنْ مجدٍ زائفٍ"، ويعرضُ هذا الاعترافُ إشكاليةَ عدمِ انفصامِ الرغبةِ عنْ التربحِ. يقولُ إيمانويل كانط: "نسمي الرضا الذي نربطُهُ بتصورِ موضوعِ منفعة". تكمنُ الإشكاليةُ في أنَّ التربحَ الذي يتعلقُ بالرغبةِ دونَ انفصامِ قدْ يولِّدُ تحايلًا وكذبًا ومكرًا بالآخرين، أوْ انتهاكًا لكرامةِ الأشخاصِ بحسبِ كانط أوْ الجمهور، أيْ أنَّ علاقةَ رغبةِ الذاتِ التي تعرضُ شيئًا للجمهورِ قدْ تُغرِّرُ بهِ لأنَّها منْ خلالِهِ تربحُ أمرًا. وبهذا فإنَّنا نقولُ إنَّ العلاقةَ معَ الشيءِ المعروضِ وتجريبِهِ تجربةً لا غايةَ لها سوى التجربةِ نفسِها هيَ وقايةٌ للجمهورِ و مسافةٌ تُنجِّي منْ تغريرِ الذاتِ التي تَعرِضُ به، وينبغي التنويه هنا أنَّ العلاقةَ بينَ قيمةِ شيءٍ وعددِ جمهورِهِ، كثيرًا كانَ أمْ قليلًا، يتجاوزُ صداها إطارَ الأعمالِ الفنيةِ ليشملَ سياقَ اللاهوتِ والإيمانِ والتاريخ، مثلما نجدُ في سورة التوبةِ في القرآنِ الكريم، والتي تعدُّ وثيقةً تاريخيةً وتعبرُ عنْ توجسِ القلةِ المؤمنةِ منْ الكثرةِ غيرِ المؤمنةِ، والتي تظنُّ أنَّها مهزومةٌ لا محالةَ أمامَها نظرًا لقلتِها العدديةِ، في حينِ تظنُّ الكثرةُ غير المؤمنةِ أنَّها تتفوقُ على القلةِ المؤمنة. لذلكَ، وبما أنَّ بعضَ القضايا في مجالٍ لها امتدادٌ في مجالٍ آخرَ فلا سبيلَ يبقى أمامَنا إلا بحلِّ المشكلةِ ذاتِها، حتى إذا انتهى قارئُنا الكريمُ منْ هذا المقالِ في هذا المجالِ ودلفَ إلى مجالٍ آخرَ ووجدَ هذهِ القضيةَ ذاتَها، وجدَ نفسَهُ في تناغمٍ ووحدةٍ فكريةٍ بدلَ أنْ تُمزَّقَ ذاتَهُ وتتفرقَ بقدرِ تفرقِ المجالاتِ.
في أن كثرة الجمهور تتبسَّط إلى قلَّةٍ لها معرفة غنوصيَّة بالشيء المعروض:
نقصدُ بمصطلحِ التبسيطِ في هذهِ الفقرةِ قابليةَ جمهورِ شيءٍ منْ الأشياءِ باعتبارِهِ كتلةً لأنْ يختزلَ في كتلةٍ أقل؛ وإنَّ هذهِ القلةَ التي نختزلُ فيها الجمهور نعدُّها مالكةً لمعرفةٍ غنوصيةٍ بالشيءِ المعروضِ تحصلُ عليها بفضلِ إعادةِ تجربةِ المعروضِ مرةً واثنتينِ وثلاثةٍ (يمكنُ وضعُ الحالاتِ التي ذكرناها عنْ القديسِ أوغسطينوس في الاعتبارِ هنا) نعني أنَّها اصطفيتْ لرؤيةِ حقيقةِ المعروضِ بفضلِ مداومتِها على الإقبالِ عليه. يمكنُ أنْ نشبِهَ عمليةَ التبسيطِ هذهِ بجدارٍ تصطدمُ بهِ الكتلةُ مراتٍ عدة، ومعَ كلِّ اصطدامٍ يسقطُ منها جزءٌ إلى أن يَختَرِقَ جزءٌ منْ الكتلةِ هذا الجدارَ الذي هوَ بمثابةِ حجاب؛ لماذا؟ لأنَّ هناكَ، وإنْ جازَ القول، معصيةً أولى أوْ خطيئةً هيَ جملةٌ منْ الافتراضاتِ المسبقةِ التي تعيقُ التجربةَ كتجربةٍ، منْ مثلِ أنَّهُ إذا تمَّ التصفيقُ لعملٍ فهوَ قيم… الخُ، والقضيةُ هنا أنَّ جمهورَ شيءٍ ما، قلَّ أوْ كثرَ، لا سبيلَ لقيمتِهِ إلا بفعلِ اصطدامٍ أوْ التقاءٍ متكررٍ بالمعروض، والذي يبسِّطُ بالضرورةِ عددَ الجمهورِ، وعليهِ فإنَّ الجمهورَ قادرٌ على التقييمِ، لكنَّ شأنَ تقييمِ المعروضِ متعلقٌ بتجربةٍ لا فروضَ فيها تجاهَ المعروضِ سوى تلكَ التي يدعيها حولَ نفسِهِ. وبهذهِ الدلالةِ فإنَّ المعروض، إنْ توخينا الدقة، لا يجرَّبُ، وإنَّما يُمتَحنُ امتحانًا ما دامَ يدعي شيئًا ما حولَ حقيقتِه. والنخبةُ إنْ جازَ لها الوجودُ فهيَ داخلَ جمهورٍ واحدٍ وتكتسي معنى مفيدًا للعامة، فتتعلقُ هذهِ المسألةُ بالتفاعلِ معَ الكتلةِ الأساسيةِ منْ الجمهورِ، حيثُ تعودُ إلى هذهِ الكتلةِ لتحددَ ما إذا كانَ المعروض يستحقُّ الحصولَ على الموضوعيةِ المتمثِّلة في التثبيتِ و يتمثّل إكتمالها في إدامة المعروض و الحِفاظ على إستمراريّته. إنَّ النخبةَ هاهنا ذاتُ دورٍ اتيقيٍّ، ونعني أنَّها معنيَّةٌ بتقديمِ حقيقةِ المعروضِ الذي جرى امتحانُه. ترادفُ كلمةُ الغنوصيةِ كلمةَ الباطنية، أيْ أنَّها تفترضُ وجودَ باطنٍ للمعروضِ، لكنَّ هذا الباطنَ ليسَ خفيًا إلا بقدرِ ما نحملُ نحنُ معصيةً أوْ خطيئةً أولى متمثلةً في فروض، فنحنُ سببُ خفائِه، والتغلبُ على هذهِ المعصيةِ أوْ الخطيئةِ الأولى يعني التحولَ إلى نخبةٍ لأنّ التغلّب عليها يعني بلوغ حقيقة المعروض و النّخبة تتحدد باعتبارها ذات علاقة مع الحقيقة و هي تعطي العاميَّ ما يجعلُهُ نخبويًا؛ مما يجعلُ النخبةَ تفقدُ امتيازَها لحظة حصولها عليهِ.
إنَّ الاستعانةَ التي قمنا بها بوثيقةِ اعترافاتِ القديسِ أوغسطينوس هي خيرُ مرجعٍ لفهمِ مسألةِ الجمهورِ هنا لسببين: أولُهما هوَ أنَّهُ كتابٌ "يؤرخُ" لذاتِهِ وللآخرينَ والتاريخُ بشكلٍ عام، بالتالي لا يسجلُ إلا اللحظاتِ القصوى منْ الشيءِ الذي يؤرخُ له، بمعنى أنَّهُ يمنحُ معرفةً بالطبعِ البشريِّ داخلَ لحظاتٍ حاسمةٍ والزمنُ الحاسم بالنسبةِ لشيءٍ هوَ الذي يظهرُ فيهِ معدنُهُ مسببًا انعطافاتٍ في شأنِ مسارِ مستقبلِهِ وما يتعلقُ بهِ؛ وثانيهما، وهوَ الجوهريُّ في هذا المقام، هوَ أنَّهُ يؤرخُ لما يقعُ في جبِّ الطبيعةِ البشرية، ومعنى الجبِّ هنا نأخذُهُ منْ تفسيرِ ابن عربيٍّ للآيةِ رقم 1ِ0 مِن سورَةِ يوسُف ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين﴾. يقولُ ابن عربي إنَّ الجبَّ هوَ قعرُ الطبيعةِ البشرية؛ فما الذي يوجدُ في هذا القعرِ؟ كلُّ ما هوَ غيرُ بريء ويخفى عنْ أعينِ الناظرينَ (الحقدُ-الحسدُ-الشهوةُ الجنسيةِ-الغيرة-المكر-حبُّ السيادةِ أوْ الظهور). لذا فإنَّ القديسَ أوغسطينوس، منْ خلالِ سردِهِ لنا حكايةَ هذا العارفِ بالأدبِ المانوي، يجعلُ منَ الخفي ظاهرًا، فقدْ قبضَ على نفسِهِ والآخرينَ متلبسينَ بالاستجابةِ لنوازعَ تقعُ في الجبِّ وتفضي إلى جرمٍ في حقِّ الجمهور، والذي ليسَ مفردًا بلْ كتلة، لذا فإنَّ المسألةَ ذات أهميَّةٍ كبرى، لأنَّهُ كما لوْ أنَّنا نتحدثُ بشأنِ جرمٍ في حقِّ المجتمعِ الذي يمسُّ الأكثرَ انفراداً عنهُ (نعني النخبةَ إنْ كانوا كذلك).
في أن هذا الضربَ من المعرفة الغنوصيَّة هو معرفةٌ لها طابَعٌ رياضيّ:
كانت كلمةَ رياضياتِ (mathematics) لدى الإغريقِ تشيرُ إلى mathèmata، وقدْ علقَها أفلاطونُ على بابِ أكاديميتهِ قائلًا: "لا يدخلُ هنا منْ لا يعرفُ الرياضي"، والرياضيُّ هوَ امتلاكُ معرفةٍ كاملةٍ بما نعرفُ سلفًا، أيْ الذي جربناه؛ فجميعُنا نعرفُ اللوحاتِ الفنية، لكن هل نعرفُها بدرجةٍ نكونُ فيها قادرينَ على أنْ نعطيَ الآخرين/الجمهورَ علمًا تامًا بها، بحيثُ يستطيعُ كلُّ فردٍ منْ هذا الجمهورِ أنْ يرسمَ لوحةً فنية؟ غالبًا ما ستكونُ الإجابةُ "لا"، فنحنُ نعرفُ بالقدرِ الذي نستطيعُ فيهِ استخدامَ الشيءِ أوْ تبادلِ الأحاديثِ عنهُ معَ الآخرين…
في كتابه "أصول التأويلية"، يعرِّف جورج غوسدروف المعرفة الغنوصيَّة أنَّها نوعُ من المعرفة المؤجلة، ومعرفة الشيء بالحيثيَّة الرياضيَّة التي تحدَّثنا عنها تأتي متأخِّرةً مثل العرفان أو الغنوص، إلا أن المعرفة الغنوصيَّة تنزع لامتلاكِ أصفى ما في الشيء (الشيء المعروض في هذا السياق)، وأصفى ما في الشيء هو الشيءُ نفسه. بهذا فهي قادِرةٌ على إعادة تمليكِه، ممَّا يجعلُ منها معرِفةً رياضيّة. يجب أن نعود إلى القدّيس أوغسطينوس كذلك، فجهل العارفِ بالأدبِ المانوي لم يتبيَّن إلا بعد اقتدار القدِّيس أوغسطينوس على تمليك الآخرين ما يملكه هذا العارف، وهو بهذا المعنى يتماهى مع الرياضي. وهنا نرى معنى متميّزا للرياضي، فامتلاك معرفةٍ من هذا النّوع يعني القدرة على إعادة تمليكها، والمَكسبُ هُنا يفرِض قيمته من ذاته. وكثيرةٌ هي الشواهد على هذه القلة من الجمهور، والتي تتحول هي بدورها إلى ذات عارضة لمعروض أجود يلبِّي احتياجات الجمهور بصورة أكثر فاعلية من الذات العارضة التي كانت هذه القلة من الجمهور تثمّن معروضاتها.
هذه القلة التي تتحوَّل إلى ذاتٍ عارضةٍ لا تخوِّن من كانت من جمهوره، بل هي التي تجعل من المعروض شيئًا موضوعيًا مستقلًّا عن الذات التي تعرض؛ وفي مثالٍ يكفي ذِكرُه لبيان المقصد وتوضيحه، فإنّ شركة لامبورغيني للسيَّارات قد نشأت بعد حوار مالكها فوريتشو مع إنزو فيراري، المالك لشركة فيراري، حول "مبدِّل السرعات" الخاص بسياراته؛ إن هذا النشوء لشركة لامبورغيني يمكن أن نتحدّث عنه باعتباره وفاء لتوجه الذات العارضة الأولى وما ترنو إليه؛ أي أن هذا إِحسانٌ في تبليغ الجمهور ما كانت تبُلّغه أو تُقدِّمُه فيراري.
في أن الجمهور واحدٌ ومتعدد، وليس في ذلك شيطانية ولا تفاضُلَ بين أجزاء الجمهور:
"إن اللغة من وضع مشرّع سكران" - أفلاطون.
"إن الواحد يقال على معانٍ شتّى فقد يقال على المتصل واحد" - أرسطو.
"وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟»" - (سفر التكوين 3:1).
﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)﴾ - سورة الأعراف.
«أما الجمهور فينتهك جميع هذه التمييزات العددية فهو واحد وكثير ومثل هذا الخداع عمل شيطاني» - مايكل هارت وأنطونيو نيغري.
في الاقتباس الأول نسبنا إلى اللغة خاصية التحريف؛ وفي الثاني رأينا أن تحريف اللغة لا يضر، فالواحد الذي يتَّصف بالوحدة، أي عدم التكاثر، يقال على الكثير، فنقول مثلًا سيَّارةً واحدة، لكنَّ السيَّارة مركَّبةٌ من عديد الأجزاء أي من الكثير؛ وفي الثالث نسبنا التحريف إلى الشيطان؛ وفي الرابع والخامس يعدُّ التحريفُ عملًا شيطانيًا. أمّا ما هو مشترك، وتعبّر عنه هذه الاقتباسات كافَّة، فهو أنَّ ما جعلَ الواحِد متعدِّدًا باعِثٌ على الشّك، وبالنّظر إلى القرآن بالذّات، فإنّ جعلَ المُتعدِّد واحِدًا مثارُ تعجُّبٍ واستغرابٍ يعبِّر عن استحالة ذلك، مثلما نجد في القرآن الكريم، في الآية 4 من سورة ص: ﴿أجَعلَ الآلهة إلهًا واحِدا؟ إن هذا لشيءٌ عُجاب﴾. وبالتالي فإنَّ جعلَ الواحِد متعدِّدًا هو فعلٌ يُنسَب إلى الشيطان ويثير به الشكَّ والتخبُّط في شأن شيء ما. أما عكس ذلك، أي جعلَ المتعدِّد واحِدًا، فهو فعلٌ يُنسَبُ للإله، ويضطَّلِعُ بهِ أولِياؤُه (رسله - أنبياؤه - الصالحين)، ويدعو إلى الدّهشة والاستقرار، لأنَّه يُمكِن أن يكون كما يدَّعي، ومِن ذلك نفهم كيفَ أنَّ وعدَ الشيطان يُعدُّ لاهوتيًّا وعدًا كاذبًا. أمّا وعدُ الإله، فهو يَصدُق ويكونُ كما وَعد.
نحنُ نبيحُ لأنفسِنا الاستنتاجَ منْ الكتبِ المقدسة؛ لأنَّ لفظَ الشيطانِ الذي استعملَهُ كلٌّ من مايكل هارت وأنطونيو نيغري هوَ لفظٌ لاهوتي-ديني، ونسبةُ الشيطانيَّةِ إلى الجمهورِ تعني عدمَ إمكانيَّةِ تعيينِه، وتحديدًا عند استخدامِهما للفظ "ينتهكُ"؛ فالشيطانُ إذًا يمكنُهُ بلوغُنا، في حينِ لا نستطيعُ نحنُ بلوغَه، وهذا ما يردُ في القرآنُ، في الآية 27 من سورةِ الأعراف ﴿يراكمْ هوَ وقبيلَهُ منْ حيثُ لا ترونَهمْ﴾. نستنتجُ من ذلك أنَّ الجمهور، بما أنَّهُ في حالِ "شيطانيةٍ"، لا نستطيعُ بلوغه لأنَّهُ مراوغ، في حينِ أنَّ الذاتَ العارضةَ والمعروضَ الذي تقدمُهُ يمكنُ للجمهورِ، وكذا الشيطانُ، أنْ يبلغاهُ؛ يتصفُ الجمهورُ إذًا بفعلِ المكرِ أوْ الاستدراجِ تجاهَ ما يستقلُّ عنهُ (نعني الذاتَ العارضةَ) لكنْ في معنىً إلهيٍّ محمودٍ للمكرِ، وليسَ شيطانياً مكروهًا؛ لنقرأْ هذهِ الأبياتَ الشعريةَ لابنٍ عربيٍّ إذْ يقولُ:
فَمَن أرادَ الأمن مِن مُكرهِ
لِيُحَصِّلَ الباطنَ و الظاهرْ
يُحَقِّقُ المِيزَانَ مِن شَرعِهِ
فَيَعْلَمَ الرَّابِحَ و الخَاسِر
يضيف ابن عربي بعد هذه الأبيات قائلًا: "اعلم أنه من المكر عندنا بالعبد أن يرزق العبد العلم الذي يطلب العمل ويحرم العمل به وقد يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه". إذًا يتعلق المكر بإظهار المفارقة، وعلاقة القدّيس أوغسطينوس بالعارف بالأدب المانوي مثالٌ غنيٌّ يخبرنا بالكثير؛ إذ أنَّه يمثل مكرًا هدفه إظهار المفارقة، فالعارفُ ليس بعارفٍ ومن يملُك لا يملك. إذًا أين تكمن وحدة الواحد أو تُنفى تعددية الجمهور؟ في عملية المكر هذه التي، ومهما اختلف جمهور عن جمهور، تبقى بمثابة إنقاذ الجمهور في كل مرة. يحدثُ نفي التعددية عبرَ الجمهور نفسه ومن خلاله، عبرَ نموذج القدّيس أوغسطينوس الذي يعدُّ مثالًا عليه، وقد رأينا فيه أنّ الجمهور الواحِد تسكنه التعددية، ورأينا عنده أنّ جمهور ذلك العارف، رغم أنّه على علاقة بمعروضه، ليس كذلك. وفي ضوء ذلك نفهم أنّ جمهورين لعصرين مُختلفينِ لا يُفاضَل بينهما من خلال ما يِملكه أحدُهما ويفقده الآخر، لأنّ الوصول إلى شيء لا يعني بلوغ حقيقته.
نلاحظ أنَّ المكرَ في البيت الشعري "يُحَقِّقُ المِيزَان"، أي يقومُ بعمليَّةٍ صاهِرةٍ للتضاد بين ادعاءٍ ما وحقيقة الدعوى، ويقيم سِلمًا محل نزاعٍ ويجعلُ من الانقسامِ وحدةً والمتعدِّدِ واحِدًا. إنَّ إظهار المفارقة يعيد الانسجام ويتيح فرصةً للتحديد، فالجمهور إذًا ليس شيطانيًّا إلا بقدر ما لا يكون المعروض-العمل، كما تدعي الذات التي تعرضه، ليس شيطانيّا إلّا بقدر ما لا يكون المعروض واحِدًا، أي أنَّه متعدِّد. يدّعي البعض أن الجمهور واحد، ولكن إذا كان هناك شيء مريب فيه، فهذا يعود إلى وجود مشكلة في المعروض. إن شيطانية الجمهور تعكس شيطانية ما يُعرض؛ وتكاد الأوصاف التي قدمها مايكل هارت وأنطونيو نيغري لا تعبر إلا عن قلق الذات من أن تظهر الفجوة بين ما تدعيه وما هي عليه. يعني ذلك أن المعروض شيطاني وقد انتهك نفسه، فهو في ظاهره واحد ولكنه في الحقيقة متعدد بسبب تلك الفجوة. لذا، فإن شيطانية الجمهور هنا تعبر عن خوفه من نفسه، أو مواجهة لحظة مع ملاك. إن عدم القدرة على تحديد الجمهور هو ما يمكننا من تجربة وتقييم المعروض؛ فإذا كان القديس أوغسطينوس مثل غيره ممن اجتمعوا حول العارف بالأدب المانوي، لم يكن ليعرف حقيقة ما يعرضه وما إذا كان يستحق الثبات والاستمرار. وبالتالي فإن تعددية الجمهور وشيطانيته تتعلق بمدى وصول المعروض إلى حقيقته، ومن هنا يجب إزالة صفة الملائكية عنه بناءً على ما يمكن أن نستخلصه من تعدديته.
في نعت الفلاسفة أو ما جانَسَهم من النّخب للجمهور بالرعاع و ما شابه ذلك:
التفلسف، بشكل عام، يعني بناء علاقة صداقة وتناغم مع الحقيقة (دون أهمية لتعريف الحقيقة في هذه الحالة). وفقًا لدولوز وغيتاراي في كتابهما "ما هي الفلسفة؟"، يمثل الفلاسفة مجتمعًا يقوم على الصداقة مع الحقيقة. الجميع يسعى إلى هذه الصداقة، مما يبرز الحاجة إلى التمييز بين الأصدقاء الحقيقيين للحقيقة والأصدقاء الزائفين. نستخدم هنا لفظ "ذلك" للإشارة إلى أن صديق الحقيقة الزائف يبتعد عنها. وبالنسبة للفلاسفة أو الأصدقاء الحقيقيين للحقيقة، نشأ وصف الجمهور بالرعاع (القطيع-الغوغاء) في وقت ظهور "السفسطائي"، الذي يمارس "التلفيق" ويقلد صديق الحقيقة الحقيقي، ولكنه لا تربطه أي علاقة حقيقية بها أو بأصدقائها. لم يكن الجمهور، عند النظر إليهم، "رعاعي" أو "غوغائي" بل كان الأمر يتعلق بمدى اتباعهم لصديق الحقيقة الزائفة أو السفسطائي. بمعنى آخر، إذا نظرنا إلى ولاء الفيلسوف، الذي يُعتبر الصديق الحقيقي للحقيقة، فإن الأوصاف التحقيرية - إن وُجدت - تشير أساسًا إلى علاقة مع الوهم واتباع له. بشكل أكثر دقة، فإن هذه الأوصاف تستهدف على نحو خاص أولئك الذين يروجون للوهم على أنه حقيقة، أما من يتبعون هؤلاء المروجين، فإنّ هذه الأوصاف تستهدِفهم بصورةٍ عَرَضيّة فمعروضُ أصدقاء الحقيقة لا يَكفُّ عن أن يَتضَمّنَ كشفًا مستمِرّا للأوهام و عليه فإنّهم في الأصل يعملون على خلاصِ وتحرير الذين يَتَّبِعون مُروِّجي الأوهام كما تّحرّروا هُم أوّلًا من ذاتِ الأوهام.
هذه النظرة المثيرة للشفقة لا تعود فقط لأصدقاء الحقيقة، بل هي تتعلق بالمجتمع البشري بشكل عام. كما يتناول بول ريكور في كتابه "الإنسان الخطّاء" فكرة النظر المشفق إلى الذات، حيث يطرح مفهوم "مؤثرية البؤس" الذي يشير إلى أن الحالة الأساسية للذات هي "البؤس". هذا المفهوم لا يقتصر على الأديان السماوية، التي تؤكد ذلك من خلال قصة هبوط آدم وزوجته، بل يرتبط أيضًا بنظرية الكهف الأفلاطونية، التي تصور السجناء الذين تكتفي عقولهم بظلال الأشياء ويعتقدون أنها الحقيقة. ولكن عندما يخرج أحدهم من الكهف وينظر إلى الواقع بعيدًا عن الظلال، تحدث لحظة اكتشاف الحقيقة ويصبح فيلسوفًا. وبالتالي، يمكن اعتبار الفيلسوف في البداية شخصًا غوغائيًا يتبع الزيف والباطل. وعندما يعود السجين الذي تحرر من أغلاله إلى بقية السجناء، فإنه يواجه إحباطًا، وهذا ما يدفعه للحصول على تلك الصفة. هو نعت يعكس اليأس وليس الاحتقار، وإلا لكان الأجدر به أن يحتقر نفسه أولًا، لأنه ليس مختلفًا عنهم في شيء. يأمل الفيلسوف، كما يظهر في أعمال نيتشه، أن يخصص أي شخص بعض الوقت الحقيقي للتفاعل مع كتاباته، ويشاركه برأيه حول تجربته الصادقة معها.
في كتاب "نقد ملكة الحكم" لإيمانويل كانط، الذي يتناول فلسفة الجمال والفن، يجب أن نلاحظ أنه عمل "أملي" يهدف إلى تحقيق نوع من اليقين. يستند الكتاب إلى "نقد العقل المحض"، حيث يوضح كانط في مقدمته الثانية الهدف المراد، وهو الحصول على اليقين. كما يعرض بعض الافتراضات والتوليفات التي يعتمدها في تحليله، ويشير بوضوح إلى أن على القارئ أن يقيّم ما إذا كان قد حُقِّق النجاح في هذا السياق أم لا. لا يتبنى كانط مواقف محددة بشأن قضايا مثل "هذا هو كذا" بل يسأل "كيف يمكن أن يكون كذا" ويقول أيضاً "إذا أردنا أن نَتحَصَّل على اليقين، فلننظر إلى كذا على أنه كذا". فعلى سبيل المثال، إذا كان الحس المشترك أو الجمهور قادرين على التعرف والتفكر، فإن هذا يمثل ادعاءه الخاص، ولكن كانط يسعى للبحث عن الأساس الذي يجعل هذا الادعاء موجودًا، لأنه قد يسهم في تحقيق نوع من اليقين في مجال الإستطيقا (الجمالية) والتي ترتبط بالذوق، وهو موضوع نسبي. إذا إتّسقنا مع كانط، فإن جميع مؤلفاته تستهدِف اليقين، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال إيجاد "مبادئ"، وهي نقطة يؤكدها كانط أيضاً. المبدأ يستلزم نوعاً من الثبات والاستمرارية، وهو ما يؤكده كانط أيضاً، وبالتالي يكون للجمهور قانون ويكون الجُّمهور واحِدًا. يمكننا القول، إذا اتفقنا مع كانط، إن الجمهور يتمتع دائمًا بالعبقرية عبر العصور، سواء مع التقنية أو بدونها، أو يمكننا إلغاء فكرة العبقرية بالكامل عنه. إشكالية الحِس المشترك وفقًا لما نناقشه هنا تكمن في أنه لا يمكن أن يوجد مشترك إلا من خلال تجربة تواجه موضوعًا مجهولًا ولا تستخرج من ذاتها حق اشتراط شيء ما ليعبر عنه. وإذا كانت العبقرية تمثل إمكانية لكشف شيء ما، فإنها تصبح صفة خاصة لأولئك الذين يخوضون التّجربة كتجربة.
تعتبر ثنائية "نخبة" و "عوام" من اختراع أولئك الذين يدعون معرفة الحقيقة كما أشار الفلاسفة. فقد حذر سبينوزا من محادثة الناس حول موضوعات لا يفهمونها، بينما عَدّ ابن حزم أن العالم الذي يزدري الآخرين ليس من أهل العلم. وفي مؤلفات البيهقي، نجد رسالة بعنوان "الرسالة في نصيحة العامة"، والتي تعبر عن أن النخبة، كما يمثلها البيهقي، تقدم للعوام ما لديها، مما يساهم في تقليص الفجوة بينهم وممّا يعني أنّهم يمُدّونهم بِعلم كامِل بما يَعرفه العوام سلفًا، فتكون لهم معرِفة ذات طابَع رياضي. وبذلك، تساهم النخبة في تمكين العامة من معرفة ذات طابَعٍ آخر تُمَلِّكُ أصفى ما في الشيء. أما الفلاسفة الذين يزدرون العامة (إن وُجدوا)، فإن مؤلفاتهم تمنح هؤلاء العامة الفرصة لتجاوز كونهم "رعاعًا"، حيث إن ما يجعلهم نخبة يكون في متناولهم.
في الختام، يتحدث بيتر رابينوفتز عن مفهوم "الجمهور الافتراضي"، حيث لا توجد ذات تعرض تعلم جمهورها الفعلي، بل تفترضه بشكل واعٍ أو غير واعٍ. يرتكز هذا الافتراض على اعتقاداتهم ومعرفتهم ومدى ألفتهم مع ما يُقَدَّم. وقد يكون الجهل بالجمهور الفعلي هو ما يسهم في تحسين جودة ما تعرضه الذات. كما يُمَكِّن معروضها مع طبيعةِ جُمهور مِن عَينةِ أوغسطينوس، وهذا يطرح تساؤلاً حول إمكانية أن يكون وجود أشخاص مثل أوغسطينوس خطرًا على من يقدمون معروضهم. لكن ربما يكون وجود هؤلاء بمثابة امتحان لجدارة ما نقدم، و ﴿كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾. لِذا لا يَحْسَبَ النّاس أن يقولوا عَرَضنا و هُم لا يُمتحنون.
خاتمة تختصر البيان:
لِنَتَذكَّر أوغسطينوس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش