لقاءات و حوارات

«هوبال»: الصحراء كملاذ من العالم

تتجاوز الصحراء كونها مجرد مكان وبيئة لتتحول إلى رمز وثقافة، وتاريخ عريق، وفضاء روحي ومكان للعزلة والفرار من كل ما يسعى لطمس معالم الهوية، ومسرح لهذا الصراع القديم بين الإنسان وبيئته، الذي هو انعكاس لصراعه المتجدد مع ذاته ومع مخاوفه الدفينة التي تعصف بكيانه. وتأتي الإبل بصفتها عنصرا مميزا من عناصر هذا الفضاء له دلالاته العديدة، ومن هنا جاء العنوان «هوبال» نسبة إلى نداء يطلقه مربو الإبل التي تستجيب له فتعود لصاحبها وتتبعه.
يرسم المخرج تفاصيل «هوبال» في قلب صحراء مهيبة وخلابة، قد تحولت إلى عزلة وملاذ لعائلة بدوية تسعى إلى الحفاظ على وجودها، أمام مجهول تتضخم صورته في مخيال الجد «ليام» الذي أدى دوره الفنان القدير «إبراهيم الحساوي»، هذا الجد الذي يحمله خوفه على عائلته وحب دفين لا يبديه لهم، على الإبقاء عليهم بعيدا عن أعين عالم لا يأتي منه إلا كل شر. وفي قلب هذه العزلة يبرز إقدام امرأة شجاعة هي «سرّا»، التي حملها خوفها على ابنتها إلى التفكير في تحدي كل القوانين التي وضعتها العائلة والوقوف ضدها لأجل أن تنقذها.  
تدور أحداث «هوبال» أثناء حرب الخليج الثانية في السعودية، حيث جاء مؤرخا لفترة حاسمة ومفصلية من تاريخ المملكة، التي كانت شاهدة على تحولات كبيرة. يظهر الفيلم هذه العلاقة القوية والارتباط العاطفي والروحي والوجداني الذي يحمله البدوي تجاه الصحراء، هذه العلاقة الممتدة في القدم التي تشهد عليها الحكايا والأساطير والأشعار البدوية، لدرجة أن قسوة الصحراء ومناخها الصعب لم يتمكن من كسر هذه الرابطة العميقة والقوية التي يسعى الفيلم إلى التقاط لمحات من سحرها.
عرض فيلم «هوبال» للمرة الأولى في مهرجان البحر الأحمر في دورته الرابعة، وقد استطاع الفيلم أن يأسر قلوب الجمهور، وكان من إخراج عبدالعزيز الشلاحي وتأليف مفرج المجفل الذي تمخضت شراكته مع المخرج عن ثلاثة أفلام أخرى حظيت بالكثير من الاهتمام والتفاعل الجماهيري، وكان «هوبال» هو الفيلم الرابع، والذي توج بجائزة الجمهور من مؤسسة «فيلم العلا». هذا الفوز الذي يقول عنه الفنان إبراهيم الحساوي، أحد أبطال الفيلم: «أن تفوز بجائزة الجمهور، فهذا يعني فوزك بأهم وكل الجوائز»
حلّ مخرج الفيلم عبدالعزيز الشلاحي ضيفا على «ميم» في حديث شيق تطرق فيه إلى أهم التحديات التي واجهت الفيلم وكيف قاد الشغف والعمل الجاد إلى تجاوز كل العقبات، ليأتي الفيلم مجسدا لرموز الثقافة المتفردة، موقظا للذكريات وللحنين محييا ماضيا لا يزال متوهجا في تاريخ المملكة.

قدّم فيلم «هوبال» صورة الصحراء والإبل، إحدى المكونات الرئيسية للثقافة السعودية، بأسلوب سينمائي رائع.. كمخرج للعمل، ما الذي يعنيه هذا الفيلم بالنسبة إليك، وما الذكريات التي تملكها والتفاصيل الشخصية المعبرة عنك التي تقاطعت مع أحداث الفيلم وقصته؟

لقد نشأت في بيئة ذات امتداد وارتباط بالصحراء في جزء منها، وكنت دائمًا مفتونًا بعلاقة جدي مع هذه البيئة القاسية والمُلهمة في نفس الوقت. خلال العمل على الفيلم، استرجعت الكثير من ذكريات طفولتي، خصوصًا تلك اللحظات التي تأملت فيها تأثير البيئة على الإنسان وعلى الصفات التي يمتلكها. وعلى المستوى الشخصي، الحالي، فأنا أحب الرحلات البرية  والذهاب إلى الصحراء، حيث نقضي أحيانًا أياما طويلة بدون شبكة اتصال، وهي ما كونت لدي شعور الإنسان في بحثه عن العزلة حتى في المكان الواسع الفسيح.

بالعودة إلى البداية.. حدّثنا عن كواليس عرض نصّ الفيلم عليك أوّل مرة. ما الذي شدّ انتباهك وأثار حماستك للعمل على الفيلم؟

دائما ما نجتمع أنا والكاتب «مفرج المجفل» لنتحدث عن موضوع أو فكرة أو منطقة قبل أن يقوم هو بكتابة النص. إن تناول موضوع العزلة ونهاية العالم كان أكثر ما لفت انتباهي في القصة، وعندما وصلتني أول نسخة من النص كان ذلك في بداية عام 2019، أي قبل جائحة كورونا، والتي عاد فيها الصوت مرة أخرى المنبئ بنهاية العالم، وكأن النص والكاتب تنبأ بما سيحدث بعد عامين. وهذا ما يميز نص هوبال، بساطة القصة وعمقها في الوقت نفسه؛ فهي ليست مجرد قصة عن الصحراء وشخصياتها، بل هي نص مليئٌ بالتفاصيل التي تأخذك في رحلة إنسانية شاعرية.

فيلم «هوبال» هو التعاون الثالث من هذا الحجم الذي يجمعك بالكاتب مفرج المجفل، بعد تجربتكما المميّزة في فيلم «حدّ الطار» ومن قبلها في «المسافة صفر»، كيف تصف تجربتك في العمل مع المجفل، هل هي ثنائية تتشكل؟ وهل لديكما خطط لأفلام أخرى مستقبلية؟

العمل مع مفرج المجفل تجربة غنية ومُلهمة. هناك انسجام فكري وفني بيننا يجعل التعاون سلسًا ومثمرًا. مفرج يمتلك قدرة استثنائية على خلق قصص عميقة، وفي الوقت نفسه تحمل بُعدًا إنسانيًا عالميًا. هذا ما يجعل نصوصه دائمًا قريبة من الجمهور.
في «حد الطار» و«المسافة صفر»، كانت لدينا تحديات مختلفة، ومع ذلك نجحنا في تقديم أفلام ذات قصص أصيلة بأسلوب سينمائي جديد في وقتها. ومع «هوبال»، أعتقد أننا نجحنا في الانتقال إلى مستوى آخر من التعاون، حيث عمّقنا العمل على التفاصيل والشخصيات. وأرى أن الأمر بيننا هو شراكة أكثر من كونه ثنائية؛ شراكة تجمع بين رؤية الكاتب ورؤية المخرج بتجسيدها بصريًا. أما بالنسبة للمستقبل، فنعم، لدينا عمل، ربما يُعلن عنه قريباً، والذي سيكون في منطقة جديدة تمامًا.

يمثّل «هوبال» عودة كاملة بالزّمن إلى العام 1990، ما هي أبرز التحديات الإنتاجية التي واجهتك كمخرج في هذه الظروف: تصويرٌ في الصحراء، حضورٌ للإبل، واستعادةٌ لكلّ أدوات الماضي مع اعتناء بالتفاصيل؟

لم تكن هذه الفترة الزمنية بعيدة ولكنها تفتقد المراجع البصرية والتوثيق المرئي أو المكتوب، ورغم ذلك، فإن هذا لم يمنعنا من البحث بشكل دقيق، لتكون المراجع مريحة لكل الأقسام سواء الملابس أو الإكسسوار أو حتى السيارات. اجتمعت في الفيلم أكبر ثلاث عناصر تنطوي على تحدي كبير، وهي الطقس، بحكم أن أغلب تصوير الفيلم كان خارجي، والحيوانات، وهي التي لم تكن مجرد خلفية للمشاهد وإنما جزء من الحبكة والأحداث، والعنصر الثالث هو الأطفال، بما فيهم أبطال الفيلم،  فالتعامل مع الأطفال يحتاج مهارة أخرى وهدوء وصبر. لكن بفضل الفريق الذي عمل على الفيلم تغلبنا على كل هذه التحديات وتجاوزناها.

شهد الفيلم تألقاً لافتاً للممثلين فرغم عدم امتلاكهم لخبرة طويلة في عالم السينما أو التمثيل بشكل عام، مثل حمدي الفريدي وميلا الزهراني، اللذين كانت لهما أدوارٌ رئيسية في الفيلم، إلا أنهما تمكنا من تقديم أداء رائع.. صف لنا تجربة العمل مع الممثلين، خاصة مع صعوبة الأدوار التي كانت على عاتقهم؟

التحديات التي واجهتها، فيما يخص التمثيل، هي وجود ثلاث أجيال من الممثلين، وعدد كبير من الشخصيات. لذلك عملنا مع الفريق على تجهيز خطة للتحضير قبل بداية التصوير. ابتدأت من قراءة النص والتي تمت بحضور جميع الممثلين، واستمرت لمدة ثلاث أيام، حيث قُسّم العمل فيها، بعد قراءة متصلة وتوضيح للشخصيات.
ساعدنا أيضاً الكاتب مفرج في كتابة وصف للشخصيات بأسلوب بسيط، يخاطب كل ممثل حسب عمره، وعند وصولنا إلى «نيوم»، قبل بداية التصوير ب ٢٠ يوم، وضعنا جدولا لجميع الممثلين، يشمل مجموعة من المهام اليومية بحيث لا يُصيب الممثل أي ملل من الانتظار أو الفراغ فالممثل الذي ليس لديه «بروفة» مع المخرج يكون لديه تدريب على اللهجة أو تدريب على قيادة السيارة أو أي عملية في الفيلم حتى ولو كانت صغيرة  مثل مشهد بتال في صناعة الخبز حيث طلبت منه أن يصنعه بشكل حقيقي، وأحضرت لأجل ذلك شخصا من المنطقة، فقط لكي يكون أداؤه بشكل عفوي.
وفي الأيام الأخيرة من التحضير، بعد ما انتهى فريق الديكور من بناء المخيم بشكل كامل وفرشه بالاكسسوارات كنت أطلب حضور الممثلين  بالملابس والمكياج ونتركهم في المخيم بدون نص لمدة ٤ - ٥ ساعات وأطلب منهم أن يخلقوا حوارات جانبية ويعيشوا حياتهم اليومية كما لو كانوا موجودين بشكل حقيقي. وساعدني في ذلك أن المكان لم يكن مُغطى بشبكة اتصالٍ، ففعلياً كانت عزلة حقيقية عن كل شي.
وبالعودة لتميز «حمدي» و«ميلا» فإن ذلك يعود لتفانيهما الكامل في أداء أدوارهما، واستعدادهما لتحمل التحديات، سواء كان ذلك في التعامل مع البيئة، أو تقديم مشاعر معقدة أمام الكاميرا. وأعتقد أن حماسهما وشغفهما انعكس بوضوح على الشاشة. بالنسبة لي، فإن هذا الأداء الرائع، الذي قدمه جميع الممثلين، يترجم حماسهم ورغبتهم وتعاونهم والذي تشكل من خلال الشغف والحب والحماس واحترام العمل التي تقاسمه الجميع.

ظهر الممثل القدير «إبراهيم الحساوي» في دورٍ مميّز يختلف عن الأدوار التي عودنا الظهور بها، ما كواليس تعاملك كمخرج وتعامل الحساوي مع هذه الشخصية المعقدة التي بُني حولها أساس الفيلم؟

«إبراهيم الحساوي» ممثل قدير يتمتع بقدرة استثنائية على تقمص الأدوار وفهم عمق الشخصيات، لذلك كنت واثقًا من أنه الشخص المناسب لهذا الدور المعقد والمحوري في هوبال. الشخصية التي لعبها تحتاج إلى حضور قوي يُوازن بين التعقيد الداخلي والبساطة الظاهرية، وهذا هو الشيء الذي وجدته في إبراهيم.
في الكواليس، كان التعامل مع إبراهيم رائعا جداً، فهو ممثل يُسلّم نفسه للمخرج في حال اقتنع برؤيته، وتجده دائمًا مُستعدا لتقديم الاقتراحات وإضافة لمساته الخاصة، مما جعل الشخصية أكثر  تأثيرًا حتى عندما تغيب. إن أحد التحديات التي واجهتنا، كانت في إبراز الوقار والهيبة عبر الصمت الذي يخفي الكثير، والنظرات التي تنقل كل شيء. عملنا معًا على بناء هذه التفاصيل الدقيقة، وكان إبراهيم يملك قدرة مذهلة على إيصال هذه التناقضات بشكل طبيعي وبسيط.
وجود إبراهيم في هذا الدور لم يكن فقط إضافة كبيرة للفيلم، بل أيضًا فرصة لي كمخرج للعمل مع فنان يحمل هذا الكم من الخبرة والاحترافية.

تدور أحداث الفيلم في بيئة بدوية في الشمال الشرقي من المملكة، فيما طاقم الممثلين ينحدر من مختلف مناطق المملكة، كيف تعاملتم مع تحدّي اللهجات في الفيلم؟

اللهجة، بمثل هذه الأعمال، دائماً ما تكون عائقًا ومحل حوارٍ خارج الفيلم نفسه، والجمهور يحب أن تكون صادقاً معه، لذلك تعاملنا مع اللهجة بحرصٍ شديد لضمان أن تكون جزءً أصيلًا من القصة تعكس واقعية المكان والشخصيات.
والأمر الذي ساعد على ذلك، هو أن النص كُتب باللهجة البدوية كما ظهرت بالفيلم. لذا بدأنا العمل بتدريب الممثلين على اللهجة من خلال جلسات خاصة مع متحدثي اللهجات البدوية من تلك المنطقة. كان الهدف معالجة الحوار بحيث لا يؤثر على الأداء الطبيعي، ولا تكون اللهجة عائقًا فتُؤثر على جودة التمثيل. لذا عملنا على تبسيط بعض التعبيرات واختيار مفرداتٍ، لبعض الشخصيات، يسهل نطقها. أما بقية الممثلين، فقد كان لديهم مرجع خاص وعملوا بأنفسهم على اللهجة.

الملحنة «سعاد بوشناق» تولّت مهمة صناعة الموسيقى التصويرية للفيلم.. كيف حدثت الموائمة حتى تتمكن سعاد من تقديم ألحان موسيقية تناسب الفيلم؟

الموسيقى التصويرية كانت عنصرًا أساسيًا في نقل مشاعر الفيلم وتعميق تجربة المشاهد، خاصةً وأن القصة تدور في بيئة بدوية تعتمد على الإحساس بالجمال والصمت والطبيعة.
اجتمعت مع سعاد وحكيت لها الرؤية بوضوح، وتناقشنا نقاشات مطولة، تتضمن تفاصيل القصة والبيئة التي تدور فيها الأحداث. تحدثنا عن الصراعات الإنسانية، والمشاعر التي نريد أن تصل إلى الجمهور. وأكثر ما أسعدني، هو أنه من خلال مشاهدة واحدة كانت النقاشات مع سعاد توحي وكأنها قد حضرت الفيلم أكثر من مرة فهي التقطت كل التفاصيل والمشاعر ببراعة. هذا التناغم لم يكن ليحدث لولا التواصل المستمر والعمل المشترك بيننا.
سعاد، أظهرت حساسية عالية تجاه روح الفيلم، واستطاعت أن تصنع موسيقى ليست فقط مناسبة، بل مؤثرة تضيف بعدًا عاطفيًا جديدًا للعمل.

يوم السبت، ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي، تمّ تدشين العرض الأوّل لـ«هوبال»، ما الذي مثّلته هذه اللحظة بالنسبة إليك بعد 3 سنوات من العمل الشاق على الفيلم، وكيف تصف ردة فعل الجمهور عند المشاهدة؟

شعوري لا يوصف، فهي مكافأة للجهد المبذول من قبل كل فريق العمل في الفيلم، لذلك حرصت كل الحرص أن يكون الطاقم متواجدا في العرض الأول.
لم أكن مهتما بمشاهدة الفيلم في القاعة، فعادتي، عند عرض أي فيلم، أن أذهب إلى زاوية القاعة وأشاهد ردات فعل الجمهور، وأنتبه إلى كل اللحظات، حتى عندما ينفصل أحدهم عن الفيلم ليقوم برؤية هاتفه، فأعيد تقييد هذه اللحظات، للتأكد والانتباه لما جذب الجمهور وما لم يجذبه وينتبه له.
استشعرت، خلال العرض، كيف تفاعل الحضور مع تفاصيل القصة والبيئة البصرية والموسيقية للفيلم. هناك لحظات من الصمت والانبهار، وأخرى من التفاعل العاطفي تجاه قرارات الشخصيات، مما أكد لي أن الفيلم قد نجح في الوصول إلى القلوب وإثارة التساؤلات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

قيس عبداللطيف وأسماء حراشيف
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا