مقالات

«هانامي»: قصيدة عن الوطن

هنالك قصص تعد كونية لما تنطوي عليه من حكايا مشتركة بين البشر، كميلاد طفل، أو موت عزيز، أو حتى سرد غير سياسي لحرب أهلية. وعلى الجانب الأخر، توجد هناك قصص، تكاد تكون متشابهة ولكنها تظل بعيدة المنال، حميمية وشخصية جدا، لا تسمح لنا بالاقتراب منها أكثر من اللازم. وكنت دائما أفضل النوع الثاني من القصص، إذ ليس لدي أي رغبة في الخوض في تجربة كونية مجردة من تفاصيلها الخاصة، وبكل صراحة، فإني أرى أن هذه القصص هي من قبيل السرديات الاستشراقية، أو أيا كان معنى الكلمة الفعلي. وبالنسبة إلي، وتعقيبا على تشريح سونتاج للكاميرا باعتبارها أداة قتل، فإني أرى أن الأفلام الاستشراقية، يغلب عليها طابع التفرج «vouyerestic»، حيث يتم التلصص على الآخر من خلال عدسة تبصر من خلف قناع أبيض. وعلى كل حال، فإن الخوض في هذا الحوار سيجبرني على التطرق إلى سر حبي لمخرج كندي معين وهذا أمرٌ آخر، ليس موضوع حديثنا اليوم. لكن مع هذا كان من الضروري الإشارة إلى هذه المعلومة ولو بشكل عابر، لأنها تشكل حجر الأساس في تجربتي مع فيلم «هانامي» وسبب وقوعي في غرامه.
يبدأ فيلم هانامي بمشهد أليف للغاية، وغير محدد بأي هوية، شخصان يمسكان بأيدي بعضهما، يبدوان مثل زوجين، الفتاة تحث الفتى أن يمرر يده لتحسس الطفل الذي تحمله في بطنها. وسواء كان بالصدفة أو من دونها، فإن هذا المشهد العادي يتجلى كمشهد كوني فيما ينطوي عليه من ألفة. نعرف عن الفتاة أنها من جزيرة أخرى وأن الفتى صياد، والمنزل الذي يقطنانه -على غير ماهو معتاد- قائم بلا أي أبواب أو نوافذ. من هنا يبدأ الفيلم بتهيئتنا للغته الشعرية الخاصة، ليغوص فيما هو ذاتي وشخصي.
تنتقل اللقطات بين الفتاة ومنزلها ثم باتجاه البحر، سكان الجزيرة يغنون للصياد بأن يعود، لكنه لا يفعل، فقد قضى نحبه في البحر. تتحدث الفتاة إلينا بأسلوب شاعري، لا تعلم ما عليها أن تفعل، فهي تقف لوحدها في مواجهة هذه المعضلة. ثم تولد الفتاة «نانا»، لكن والدتها لا تستطيع تربيتها لوحدها بشكل سليم، فتعهد بها إلى سكان الجزيرة ليقوموا بتربيتها.
تمر السنين، لنرى نانا وقد أضحت طفلة، انطوائية، هادئة، ترفض الاقتراب من الآخرين، ومع ذلك فإن شعورها بالوحدة جليّ، ورغبتها في الارتباط محسوسة. ففي إحدى الملاحظات الأولى، حين ترغب إحدى مربيات نانا في تصفيف شعرها، تخبرها بأن طبيعة شعرها مختلفة عنهم، فشعرهم أكثر نعومة منها، ولا يكتفي الفيلم بهذا المشهد، بل تمتد اللقطة إلى مشهد آخر لامرأة تمشط شعرها الناعم الكثيف الممتد إلى خاصرتها، إن عبارة كتلك تجعل نانا طفلة أكثر عزلة.
وبينما كان للمشهد الإفتتاحي إيقاع شعري، تجلى في صورته البصرية والسمعية على حد سواء، فإن هذه النبرة الشعرية تجبرنا على الانتقال مما هو كوني إلى ماهو ذاتي وشخصي في الحكاية. إن الشطر الأول من الفيلم الذي تغلب عليه العبارات والمشاهد التي تعزز اختلاف نانا، وكاميرا توثق نشاط سكان الجزيرة، يبرز بصفته مقدمة متلصصة يغلب عليها طابع الفرجة والفضول تجاه ثقافة الجزيرة، ولكن بدل النظر من عدسة المستشرق المتلصصة فإننا نرى من خلال عيني فتاة صغيرة تشعر بأنها هي ذاتها هذا الآخر المختلف الذي يتوق إلى التواصل والاقتران بمحيطه.
دولة «الرأس الأخضر- Cape Verde» هي أرخبيل من الجزر، حيث لكل جزيرة ثقافتها المميزة، ومن خلال عيني نانا، نستكشف ثقافة «الفوغو»، وأهمية «الكريول» كلغة محلية رأس أخضرية، التي يمكن اعتبارها لغة عامية حية تتميز باختلافها وتنوعها من جزيرة إلى أخرى. ورغم تعدد النظريات حول تطورها، فإن معظم سكان الرأس الأخضر يتحدثون الكريول باعتبارها لغتهم الأم، وهي لغة باقية ومتجذرة على الرغم من أن اللغة البرتغالية هي اللغة الرسمية للبلاد، ولكونها كذلك يفقد الكثيرون ممن لا يمارسون الكريول طلاقة الحديث بها. قوة أي لغة مرتبطة بكونها لغة حية ومستخدمة في الأحاديث اليومية، و«اللغة بقدر ما هي حية ومتداولة، فمن يكترث باللاتينية؟» تناهت هذه العبارة إلى أسماع الطفلة «نانا»، من المُربّي الذي يعتبر بمثابة عمها، والذي يُقدَّم بصفته الشخص الذي يحترم الثقافة، ويُوبِّخ أي شخص يحاول التحدث بلغة مختلفة عن الكريول على طاولة الطعام.
تصاب نانا بحمى مزمنة، وتطلب منها المرأة التي تعتني بها، أن تذهب إلى الجانب البركاني من الجزيرة، حيث توجد إحدى النساء المتخصصات في الطب التقليدي، وتطلب منها جلب نوع معين من النباتات الموجودة في المنطقة البركانية. تلتقي هناك بمجموعة من الأطفال، يختلفون عنها في المظهر، ويخبرونها أنها في الواقع مختلفة، وأنها تبدو كطفلة من المدينة. وكما يفعل الأطفال عادةً، يدعونها للعب معهم. تتبع نانا الأطفال -الذين يتسلقون الجبل بخفة- للحظة وجيزة، ولكنها تتخلف عنهم وتجلس وحيدة، حتى يأتي عمها ومعه النبتة التي كانت تبحث عنها. في لحظة تعليمية، يتحدث العم عن صديقه عالم الجيولوجيا الياباني، الذي ينتظره منذ مدة، ويذكر أنه هو من علمه خصائص التربة البركانية، وأنها مميز للغاية وينبغي أن تحظى بما تستحقه من الاهتمام، ومن الملفت هنا أن هذا العالم لم يكن يتحدث سوى اليابانية ولكن العم كان يفهمه ويحدثه في المقابل بالكريول التي كان الياباني يفهمها بدوره، فاستطاعا بذلك تجاوز حاجز اللغة والترجمة، واختلاف اللغة لم يمنعهما من التواصل في جو من التآلف والصداقة.
«هانامي» طقس ياباني يعني حرفيًا «مشاهدة الزهور»، ففي بداية كل فصل ربيع يقوم اليابانيون بتأمل الزهور وهي تنمو وتلون المكان، وهذا بالضبط ما يسلكه الفيلم في فصله الأخير، فنشاهد نانا وهي تكبر، تستمر بدراستها، تتعافى، ثم تمرض مرة أخرى وتشفى، لم تعد نانا الفتاة المنعزلة عن محيطها التي تسعى إلى الاندماج، بل تصبح جزءًا من الثقافة، تعمل في متجر عمها، وتصفف شعرها، بل وتتعرف على فتى من الجزيرة وتصادقه. تعود «نيا»، والدة نانا، إلى الجزيرة، وتخبرها أنها صارت قادرة الآن على الاعتناء بها. لكن في النهاية، وبعد قضاء بعض الوقت معًا، والرقص على أنغام «الباتوك»، الأمر الذي كانت نانا ترفض فعله من قبل، تخبر نانا أمها أنها ترغب في البقاء ولا تود مرافقتها.
ختاما، فإن فيلم «هانامي» هو ليس فيلما عن قصة جزيرة، ولا عن ثقافة شعب متجذرة، بل هو فيلم عن زهرة تتغذى وتتفتح نتاج ثقافة جزيرة وسكانها. يدعونا لمشاهدة نانا، والنظر إلى ثقافة الفوغو من منظورها، لا لتدوين مدى تميز الثقافة وخصوصيتها، لكن للتأمل في مدى الاختلاف بيننا، فننظر بعيوننا الخاصة ونرتبط رغم الاختلاف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

رامي الحربي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا