في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990م) ظهر جيل جديد من صانعي الأفلام الذين أرادوا توثيق وتصوير الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد من خلال أفلامهم في منتصف السبعينيات، وكان من بينهم مخرجات سينمائيات رائدات مثل هيني سرور (مواليد 1945)، ليلى عساف (مواليد 1946) جوسلين صعب (1948- 2019)، ورندة الشهال (1953- 2008) اللاتي استخدمن السينما بوصفها منصةً لعرض وجهات نظر المرأة حول الحرب، وفي الوقت نفسه، تحدي الصور النمطية الموجودة مسبقًا على الشاشة.
عامةً، اختارت السينما اللبنانية تجاهل دور المرأة في الحرب، حيث بدا أن الرجال هم مَن دبّروا الحرب، والنساء تحملن العبء الأكبر في قلب الصراع. لذلك، قدّمت أفلامٌ مثل «رسالة من زمن المنفى» لبرهان علوية وفيلم «خارج المكان» لمارون البغدادي النساءَ بوصفهن ضحايا، أو غير موجودات، وعرضوا الحربَ بوصفها ساحةً ذكورية، إلا أن المخرجة اللبنانية نادين لبكي قدّمت الحرب من منظور نسوي، وعالجتها كذلك على أيدي النساء.
يُتيح التاريخ اللبناني مادة خام للكوميديا السوداء، وكانت لدى الجيل الجديد الذي ظهر في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة أسباب كافية للتشكك في الحرب والرجال بوصفهم عنصرًا فاعلًا ومتسببًا في الحرب. وجدتْ السخريةُ من الحرب والرجال متنفسًا كوميديًا ودراميًا في أعمال المخرجة نادين لبكي التي صورت الحرب بوصفها مهنة ذكورية، وفي المقابل، صورت النساءَ رمزًا للسلام وإيقاف الحرب.
«هلأ لوين؟» فيلم من كتابة وإخراج وتمثيل المخرجة اللبنانية نادين لبكي، يدور حول قرية صغيرة في لبنان، يسكنها المسيحيون والمسلمون، الذين يعيشون في وئام نسبي على الرغم مما يحدث في العالم الخارجي، ومع وصول الراديو والتلفزيون الذي يبث القتال بين المسلمين والمسيحيين، يجتاح العنف الطائفي قريتهم الصغيرة، وتثار الشكوك، وتشتعل العداوات، وتُبعث الأحقاد القديمة من جديد، وسرعان ما يخوض سكان القرية حربًا شاملة بعضهم مع بعض، إلا أن النساء تسأم من الحداد ودفن أحبائهن؛ لذلك، يضعن خططًا هستيرية لمنع الرجال من الحرب الطائفية.
منذ المشهد الافتتاحي للنساء الأرامل اللاتي يتّشحن بالسواد ويتمايلن بخطى ثابتة على وقع الحزن والألم أثناء زيارة المقبرة، تظهر النساء كشعب متحد، لا منقسم. ويظهر الصراع في لبنان من خلال الشخصيات الذكورية، على حين يتحقق الأمل بالحل من خلال الشخصيات النسائية. طوال الفيلم، يتصاعد الخلاف بين الرجال إلى الفوضى والجنون، بينما تخطط النساء، مسيحيات ومسلمات، ضد الرجال من أجل خلق الانسجام داخل القرية، مما يعني أن الطريقة الوحيدة لإنهاء دائرة الكراهية هي من خلال الوحدة والتعاطف الموجود داخل النساء. وبرغم أن العنف الطائفي هو الموضوع الظاهري لفيلم نادين لبكي، تبرز مسألة دور المرأة في المجتمع بوضوح كبير. يُظهر المشهد الأولي الحزن الذي يتعاملن معه نيابة عن الرجال الذين يحببنهم. تقول إحدى النساء إنه ليس من وظيفتهن الحداد على الرجال. يفترقن فجأة على قبور متناثرة في مقبرة مختلطة بين مسلمين ومسيحيين، في إشارة إلى تقاسم ذات الفجيعة والفقد. لقد صعدن من خلال الألم فوق الانقسامات الدينية التي ما زال الرجال مقيدين بها. ومن خلال الاتحاد كمجتمع نسائي، تُوافق النساء على حماية أحبائهن بكل التدابير الممكنة وسط الحرب.
يظهر تمكين المرأة في هذا الفيلم حقًا من خلال شخصيات أمل (نادين لبكي) وتكلا (كلود باز) وعفاف (ليلى حكيم) وإيفون (إيفون معلوف). الرمزية المقدمة من خلال النوع الاجتماعي ليست صدفة، فإنّ الديناميكية الذكورية الأنثوية هي موضوع مشترك في أفلام الحرب الأهلية اللبنانية. يُظهر الجانب الذكوري الدورة التي لا نهاية لها من الحرب والصدمة والكراهية، وفي المقابل، يمثل الجانب الأنثوي الإمكانات التي يمكن تحقيقها من خلال التعاطف والشعور بالانتماء للمجتمع. وبالرغم من أن النساء يتم وضعهن وفقًا للقوالب النمطية لأدوار الجنسين من خلال منحهن أدوار الأمهات والزوجات، فهن لسن مراقِبات سلبيات أو ضحايا مطيعات كما تتنبأ هذه القوالب النمطية. تتصرف النساء بناءً على ما يرَينه ويسمعنه، ويبحثن عن حلول تتجنب العنف.
تستخدم نادين لبكي المشاهد التي تدعو فيها النساء مجموعة من النساء الأوكرانيات لصرف انتباه الرجال عن القتال، والحشيش في الكعك أثناء تجمع القرويين لمشاهدة التلفزيون، وتزييف زوجة العمدة رؤية مريم العذراء، لإنهاء الصراع. تُعتبر هذه المشاهد في الفيلم بمثابة أمثلة لعرض الاستراتيجيات الإبداعية التي اتبعتها هؤلاء النساء في توجيه الرجال نحو حل قضايا العنف فيما بينهم سلميًا. المعجزات المزيفة، والمومسات، والكعكة المخدرة، كلها جزء من عملية طويلة تعمل على وقف الحرب. وعلى الرغم من أن القرية كانت تتعايش بسلام نسبيًا حتى الآن، لا يزال خطر تصعيد أي نزاع بسيط إلى اشتباك كبير من قِبَل الرجال الجاهزين للقتال وأخذ الأسلحة قائمًا. الأهم من ذلك أن الأمهات اللاتي يستجبن فورًا عند ظهور أول علامة على الاضطرابات، وهو ما يشير إلى استمرار الصدمة الجماعية، يقفن على حراسة المجتمع من الانهيار، وتكون اللقطة الذروة مع إقدام إحداهن على إطلاق الرصاص على قدم ابنها لمنعه من الانتقام من الطائفة الأخرى لمقتل شقيقه.
في الفيلم كثيرٌ من اللقطات المؤثرة إلى درجة البكاء، وكثيرٌ من لحظات الضحك والسخرية أيضًا. صحيح أن استخدام الكوميديا في حل قضايا الصراع هو جزء من الاستراتيجيات الإبداعية لمعالجة المشكلات، ولكن عند مَشاهد معينة يتشتت الفيلم، لأسباب منها هذه الكوميديا في المواقف القاتمة، والشخصيات الكثيرة، والموسيقى الرومانسية التي حُشرت بلا مبرر في المشهد الذي جمع لبكي «المسيحية» صاحبة المقهى والنجار «المسلم» الذي يعمل على تجديد المكان، لكن هذا كله تتداركه نادين لبكي بحنكة وذكاء بحيث لا يفقد هذا العمل الطَموح مساره.
في النهاية «تضحي» النساء بدينهن من أجل إنقاذ رجالهن، ففي الوقت الذي يكاد يكون فيه الصراع حتميًا تغير النساء ملابسهن وديكور منزلهن وعبادتهن، حتى إنهن يستبدلن معتقداتهن إلى ما يعتبره الرجال «الآخر». تزين النساء بيوتهن برموز دينهن الجديد، الأمر الذي يجد الرجال أنفسهم غرباء عنه ويتفاجؤون بشدة. لقد اخترن أن يكنّ «الآخر» من أجل منع صراعات جديدة مع الآخر في المستقبل. بهذه الطريقة، أصبحت كل امرأة هي الآخر بالنسبة إلى الرجل، وإذا كان هناك صراع مع الآخر، فإنّ على الرجال أن يواجهوا حقيقة أنهم إذا استمروا في القتال فسيتعين عليهم محاربة النساء اللاتي يحبونهن. يأتي الحل من إدراك أن الرجال يقاتلون أنفسهم، وهو أمر لم يكن واضحًا حتى ظهرت النساء. هذا التحول في الدين يقنع الرجال بالتصالح أخيرًا مع جيرانهم عندما يجتمعون للمشاركة في موكب جنازة ضحية أخرى للعنف الذي لا معنى له. مشهد النهاية يوازي الافتتاح ولكنه يشير أيضًا إلى أمل جديد بسبب العمل النسائي. تسير الأم مع حشود خلفها، حاملين جثة ابنها المسيحي لدفنه. هنا تأتي حيرة الدفن بسبب تبادلاتهم الدينية.. يشعر حاملو النعش بالحيرة بشأن المكان المناسب، في جهة المسلمين أم المسيحيين؟ وهنا أيضًا يرتفع السؤال الإشكالي المهم، والذي يرمز أيضًا إلى صوت النساء الجديد الذي سيلجأ إليه الرجال للحصول على التوجيه المناسب لحل الأزمات: «وهلأ لوين؟»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش