النقد

«هجّان»: الناقة التي مرت مرور الكرام

موجز فيلم «هجّان» أعادني إلى فيلم «أوكجا» (2017) Okja والذي يتناول قصة طفلة كورية تتعلق بخنزير بري معدّل جينيًا، كانت قد قضت سنوات طفولتها الأولى إلى اليفاعة برفقته. هذا الحيوان غير العادي عهدت به شركة أمريكية إلى جدّ الطفلة لكي يُرعى وينمو في الأرياف الجبلية الكورية، على أن تستعيده منه لاحقًا عندما يحين الوقت. والمقصود بالوقت هو انتهاء التجربة أو المسابقة التي تهدف إلى اختيار الخنزير ذي اللحم الأفضل من بين عدة خنازير أُرسلت إلى أماكن مختلفة في العالم لتُربى على أيدي مزارعين تقليديين. أما الغرض من كل هذه المسابقة فهو بيع لحم تجريبي للمستهلك مع التغطية على ممارسات الشركة المشبوهة. 

نقطة قوة الفيلم كانت في عرض رحلة الإنقاذ التي انطلقت فيها الفتاة الغاضبة من أجل استعادة صديقها أوكجا، إذ تتعقد هذه الرحلة على نحو هزلي وتتكشف من خلالها أطراف أخرى توسّع دائرة الصراع وتمنحه أبعادًا أكثر عمقًا. كل هذا البناء المتسارع والمتوسع لا يُغفِل اللبنة الأساسية في القصة، وهي الطفلة الريفية التي نزلت من الجبل بعد أن دسّت في حقيبة ظهرها بضعة أوراق وقروش نقدية، وانطلقت إلى أمريكا وهي لا تجيد الإنجليزية ولا تفقه شيئًا عما أقحمت نفسها فيه مدفوعة بالصلة القوية التي تربطها بصديقها الخنزير أوكجا، كيلا يتحول إلى لحم للأكل. 

في «هجّان» (2023)، يفقد الطفل «مطر» أخاه بعد واقعة مأساوية في سباق للهجن، ويواجه تهديدًا مماثلاً بفقدان ناقته الأثيرة «حفيرة» بإرسالها للذبح وتحويلها إلى لحم للأكل. يسعى مطر إلى إنقاذها عبر طلب الإذن لركوبها في المنافسات وإثبات جدارتها بوصفها ناقة صالحة للسباق، ويُعطى فرصة واحدة على شرط أن ينجح فيها، وحينما ينجح في إنقاذها من الذبح، يواجه مشكلة أخرى وهي نيلها استحسان جاسر، الراشي المهووس بسباقات الهجن، والذي يشتريها بعد السباق لتصبح واحدة من أملاكه. يلتحق مطر بحفيرة كي يبقى بقربها، ليجد نفسه هو أيضًا ضمن أملاك جاسر ورهن أوامره. 

الخطوط العريضة للقصة تبدو واعدة ومشوقة، لكن الفيلم يفشل في أحد أصعب الأمور التي تواجه صنّاع السينما السعوديين اليوم وأبسطها على حدٍ سواء، وهي: أن تحكي قصة. 

بعد عرض الفيلم في «سيدني أوبرا هاوس» (Sydney Opera House) ضمن ليالي الفيلم السعودي، تسأل المُحاورة المنتج ماجد السمّان عن فكرة الفيلم وكيف بدأت، فيجيب بأنهم أرادوا صنع فيلم عالمي بنكهة سعودية. وهذا الذي يكاد ينطق به الفيلم أثناء عرضه، إذ يشعر المُشاهد بهذا الثقل الترويجي بكامل حمولاته الدفاعية والتفكيكية، فعوضًا عن أن ينشغل الفيلم بقصّ القصة على نحو فنّي، واختيار الأسلوب الأمثل لإظهار أبعاد الشخصيات، وإحكام البناء النظيف نحو لحظات التوتر أو الصراع التالية -والتي تمتلئ بها القصة- يظهر الفيلم مشغولاً بمخاطبة الفرضيات المسبقة لدى المُشاهد، متذبذبًا بين إثباتها ونفيها، عجولاً في تمرير المشاهد باتجاهها، لكي يعرضها منقحة في لحظة التأثير الأخيرة. 

أصبحت مهمة حكاية القصة أكثر تعقيدًا وتمثل تحديًا أكبر اليوم بسبب تزايد هذا الوعي الضاغط بالآخر من جهة، ومن جهة أخرى، بفعل الطموح لخلق صورة معيارية عن الذات، أو ترسيخ صورة مسبقة تعزز ما هو مرغوب في ترويجه أو تحارب عبرها سردية مخالفة.

أبدت المحاورة افتتانها بالإبل ومازحت السمّان برغبتها بشراء واحدة وتساءلت عن تكلفتها، وقد كان ذلك لافتًا، فالإبل ليست غريبة عن البيئة الأسترالية، بل فإنها متواجدة بكثرة، كما تُعقد سباقات للإبل كذلك في أستراليا. إلا أنّ الإبل التي عُرضت في الفيلم هي ذلك الرمز الغامض لبلد شرقي بعيد، والمعروفة بتكلفتها العالية (لذا كان لا بدّ من مسّ هذه النقطة) وفي بيئة صحراوية «لانهائية» -كما قُدمت- وكما يتخيلها بالتحديد المُشاهد العالمي، وبين بدو يعيشون في ظروف بدائية يهيمن فيها الرجال، فظهرت الصورة محصورة بعناية في إطارها القديم المعتق. 

أعادني افتتان المُحاورة بالإبل إلى رواية «ليلة النار» (2015) للكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت، الذي يصف الإبل عندما رآها في حديقة الحيوان بأنها «تجتمع فيها كل التشوهات»، ويستطرد في وصفها بدقّة من منظور يستقبح كل ما فيها، ثم يقول بعدما رآها في الجزائر: «لكن هنا في موطنها الأصلي بإفريقيا أعطتني الجِمال انطباعًا مختلفًا»، ويتبدل منظوره فيبدو مسحورًا بها، مشيدًا بين الحين والآخر بعظمتها ومهابتها. وعلى نطاق أوسع، تعليق المُحاورة ومقطع كهذا، يحفزان أسئلة مثل: هل تُحدث الرموز والعناصر تأثيرها فقط عند حصرها في إطارها المعتاد والمعتّق؟ وهل هذا هو دور الفنّ؟ وهل يمكن للفنّ بكل ما ينطوي عليه من إبداع أن يكتفي بمثل هذه الوظيفة؟

استطرد السمّان حول تحديات صنع الفيلم، وصرّح بأن المطلوب -من قِبل إثراء- أن يكون الفيلم فيلمًا عالميًّا ذا نكهة سعودية وعن «الإبل». في البداية -يُكمل السمان- كان الأمر صعبًا إذ لم يكن على دراية بالإبل وعوالمها، مما استوجب جلسات عديدة مع عدد من الكتّاب للإتيان بالقصة. تفاجأت المحاوِرة بذلك، فأخبرها بأنّ الإبل وأهلها يكادون يكوّنون «طائفة» (cult) منفردة بذاتها في السعودية. وهكذا، يصبح جليًا أنّ الفيلم حاول الدخول إلى الساحة العالمية من أكثر المناطق ألفة لدى المُشاهد العالمي.

الدالّ في هذا السياق أن فيلمًا تحت عنوان «أنا وعيدروس» قد عُرض قبل فيلم «هجان»، وهو فيلم عن فتاة تحاول إقناع سائق البيت بأخذها للقاء حبيبها في موعد غرامي عام 2005. بعد بدء المقابلات، بادرت المحاورة بالاطمئنان على بطلة الفيلم الممثلة عايدة وسألتها عبر التصريح والتلميح إن كان «كل شيء تمام» وإن كان مسموحًا لها الظهور من دون حجاب، الأمر الذي أكدته لها الممثلة، وطمأنت الجمهور عبر الإشارة إلى شعرها ثم فنّدته بالتفصيل. «وماذا عن البويفريند؟»، هكذا ذهبت المحاورة أبعد في الاطمئنان. «لديَّ واحد»، طمأنتها الممثلة. اتّباع مثل هذا النهج في عرض القصص والحصول على ردود أفعال مثل هذه، يطرح كثيرًا من الأسئلة عن مستوى الجديّة الذي تقدّم به هذه الأعمال نفسها بوصفها أعمالاً فنيّة، أو مستوى الجدية الذي تطمح للوصول إليه.

على النهج نفسه تقريبًا، ينتزع فيلم «هجّان» نفسه من قصته ويفرّ من موضوعاته، ليجيب عن السؤال الأكثر إلحاحًا عند المُشاهد العالمي وهو مسألة «تمكين المرأة»، وفق ما يفهمها المُشاهد العالمي. بالعودة إلى فيلم «أوكجا»، يتضح بالنظر إلى موجز القصة وجود موضوعات مثل الارتباط بين الحيوان والإنسان، ممارسات شركات صناعة اللحوم، حقوق الحيوان، وعي المستهلك.. إلخ. وبالفعل يلتزم الفيلم بمساره ويحاول التوغل أبعد لكشف المنظور الذي ينطلق منه. وبالنظر إلى موجز قصة «هجّان»، تطفو كذلك موضوعات معينة مثل العلاقة بين الإبل وراعيها، استغلال الأطفال في مسابقات خطرة، مواجهة نفوذ المال، النشأة في بيئة صحراوية..إلخ. وعوضًا عن أن يذهب الفيلم إلى مناطق أبعد لاستكشاف موضوعات مرتبطة جوهريًا بالقصة التي قدمها في بدايته، يكاد يمرّ عليها دون أن ينظر فيها، وعلى وجه الخصوص، مسألة استغلال الأطفال في مثل هذه المسابقات الخطرة كان إغفالها خطأً كبيرًا، ولا سيما مع وجود الواقعة المأساوية في بداية الفيلم. 

استحضار فيلم «أوكجا» هنا ليس بوصفه نموذجًا مثاليًا، لكنه نجح على الأقل في مراكمة ومتابعة بنائه الفني وإعطاء الزخم المتلاحق لرحلة الإنقاذ حقه، بحيث صنع فيلمًا تشويقيًا إلى حدٍ مقبول. «هجّان» كذلك حاول أن يقدّم نفسه بوصفه فيلمًا تشويقيًا وأن يضع أمام البطل مجابهات ومجازفات من دون أن يصنع أي زخم متناسب مع ما يمرّ به البطل، فحتى ذروة هذه المواجهات والقصة ككل، لم تكن من نصيب بطل القصة، بل كانت من نصيب الفتاة مجد حين كشفت عن هويتها وفازت بالسباق، إذ ضجّ المشاهدون في الصالة بالتصفيق والتصفير على ذلك المشهد الذي يُفترض به أن يكون رمزًا لتمكين المرأة. واستمرت هذه النشوة في المشهد اللاحق، حين أتت ردة الفعل على خوضها السباق إيجابية تمامًا وغير متسقة مع ظروف الهيمنة الذكورية أو الأعراف البدوية التي كان الفيلم يحاول إبرازها. 

اللافت أنّ الفيلم يحرص في النهاية على تصوير عواقب ممارسات جاسر، كما يصوّر أنه من غير المقبول وفق قِيم البدوي أخذ مال غيره عندما فرّ مطر بحفيرة، لتُردّ إلى مالكها جاسر. وبالمقابل تظهر الفتاة محصّنة ومُعفاة من أي تبعات رغم الكشف عن أنها المتسببة في مقتل أخي مطر، وهذا يثير كثيرًا من الاستفهامات عن مسألة تمكين المرأة التي يصورها الفيلم.  

من ناحية أخرى، كان المكياج سيئًا والصوت ضعيفًا والموسيقى مرتفعة واستخدامها مبالغًا فيه في محاولة لجعلها الأداة الأكثر تأثيرًا وليس الحدث نفسه، والنتيجة أن الكلام لم يكن مفهومًا، مما جعلني أعتمد على قراءة الترجمة. أما التمثيل فقد

 كان شديد التواضع، وهذا أقل ما يمكن أن يقال عنه. اللهجات كانت مفتعلة ومتفاوتة، فعبد المحسن النمر مثلاً كان يزفر مع نطق الكلمة أو العبارة وكأنها بهذه الزفرة ستصبح بدوية. أما الممثلون غير المحترفين، مثل الطفل مطر الذي -كما أشار السمّان- يلعب هذا الدور في الحياة الواقعية، أي أنه هجّان بالفعل، فقد جاء أداؤه جامدًا وباهتًا. المعلقان في السباقات اللذان يلعبان هذا الدور كذلك في الحياة الواقعية، جاء أداؤهما جيدًا، إلى حدٍ ما، وقد كان الأول منهما يرتجل أصلاً بناءً على خبرته.

في النهاية، من المُلاحظ ظهور عدة أفلام سعودية مؤخرًا تتبع هذا النهج من حيث موضعة وحصر نفسها في اتجاه محدد، وسعيها إلى مخاطبة وعي ووجدان المُشاهد العالمي، مع استغفال أو تجاهل المُشاهد المحلي. وإن الأفلام ليست الوحيدة، فعلى سبيل المثال يظهر هذا النهج بوضوح في عالم الأدب على نطاقٍ أوسع. نلحظ هذا في ظهور أعمال مكتوبة بالعربية بوصفها محطة عبور -فحسب- إلى الإنجليزية، أو نلاحظ هذا السعي لترجمة عملٍ ما كي يتلقى حقه -المفترض- من الأصداء. والأمر عينه في مجال الجوائز الأدبية التي تربط أغلبُها الفوزَ بالترجمة الإنجليزية، في حين أنّ المبررات -وإن قيل عداها- معروفة، مما لا يجعل مفرًا من التساؤل عن كُلفة تجاوز واستصغار المتلقي المحلي والعربي وتبعات ذلك على المدى البعيد. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. فاطمة إبراهيمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا