ألفباء سينما المؤلف
في الحقيقة، لا شيء يفضح المخرج الرديء، في سينما المؤلف، بقدر ما تفعل الكتابة. الصورة موضوع دُربة وممارسة طويلة بإمكان المخرج المتمرس أن يتقنها، أو بتوظيف مدير تصوير ممتاز يمكنه التعامل معها. هذا أمر متعارف عليه في المجال، فإن كنت منتجًا مع مخرج بخبرة ضئيلة أو قدرات غير موثوق فيها، فوظّف له مدير تصوير كبيرًا. هذه من حِيل السوق المبتذلة، وهي حيلة، في واقع الأمر، مفيدة لكثير من الأفلام التجارية ذات المستوى الفني المتوسط وما دون ذلك، غير أن الأمر يختلف تمامًا في سينما المؤلف. إننا، بوصفنا مشاهدين، والحالة هذه، ننظر إلى الصورة والنص معًا على الشاشة، ونظل نقارن. من هنا تكمن صعوبة هذا النوع من السينما. الأمر يشبه كثيرًا فن الغناء الشرقي، أو الخليجي، في تاريخنا الفني الأقرب جغرافيًّا، بمعنى: الفنان البارع في عزف العود بالتزامن مع الغناء له مكانة أعلى، نقديًّا وفنيًّا، من الذي يغني غناءً ممتازًا بغير عود أو مع عود بعزفٍ عادي. المهارة تكمن في السيطرة على أوتار الحنجرة وأوتار العود، في آن معًا. يفضح هذا الأمر الجلسات الخاصّة. لذا، فثمة فنانون كبار تكون متعة الاستماع لهم فارقةً بوضوح في جلسات العود، أو العود والإيقاع فقط، وهذا مجرد تشبيه، أو تقريب للصورة العامة، لا أكثر، ولو استرسلنا فيه فسوف نطيل. المهم، بما أننا سيّرنا على أكثر من نوع فني، أن السؤال يطرح نفسه: كم من فنان، وعمل فني، ومبدع، حاز على جوائز ومدائح نقدية، ورُفّعَ فيه حتى أوشك أن يطير، وانتفخ مثل قولون مريض، ثم ما كاد الزمن يمر إلا وهو منسي تمامًا؟ كم مرةً حدث وأن قرأتَ عملًا أدبيًّا لذلك أو تلك الكاتب أو الكاتبة الفائز أو الفائزة (صوابيّة في الحَشّ؟) بجائزة نوبل للآداب، ثم لم تجد شيئًا ذا قيمة؟ فلنتذكر أن ليف تالستوي لم يفز بنوبل، ولا جيمس جويس، ولا أنطون تشيخوف، وكلٌّ له مكانته المعروفة. إذن، فالفن مسألة زمن بالدرجة الأساس، والترفيع، مهما بلغ، لن يجعل من الحصاة جبلاً. فلنتفق على هذا أولاً، رغم سخافته وبديهيته، ثم فلنكن طيبينَ مع الميتينَ، إذ إن «الضرب في الميّت حرام»!
رفسُ الشنفرى
يقال في أساطير التراث العربي إن الشنفرى أقسم أن يقتل من القبيلة التي عاداها مئةَ رجل، إلا أنه بعدما قتل الرجل التاسع والتسعين قُبض عليه وشنعوا في قتله، ثم لم يدفنوه إيغالاً في إهانته. مر الزمن، وصادف أن مر رجل من القبيلة على الشجرة إياها، ولفرط حقده على الشنفرى ركل جثته المتحللة فأصاب قدمَه جزءٌ حاد من عظام الشنفرى، وعلى إثر ذلك مرض الرجل لعدة الأيام ومات إذ تسمم دمه، فقالوا: «أوفى الشنفرى بوعده وهو ميّت»، وبرغم الفارق المهول بين عزة الشنفرى وقيمته وبين حِطة الصحوة ووضاعتها فإن الأمر يكمن في التعفف والكرامة، والخوف (أم التمني؟) أن يصاب واحد من مثقفينا في مرة من المرات بما أصاب رجل القبيلة، إذ إن الجثث في النهاية سواءٌ وتسبب التسمم. لقد أصبح مثقفونا مهزلةَ الجيل الجديد، وعقلاءِ الجيل القديم، لفرط لتّهم وعجنهم في سيرة الصحوة ومساوئها. ولا نقول في «نقد» الصحوة، فالأمر لا يعدو مجرد الطاري بالسوء والمذمة. وليت الأمر كان تناولاً نقديًّا أو مراجعة فنيةً لما حدث في الماضي ومساءلته في سبيل معرفة الأسباب والتعلم من الأخطاء، أو حتى، في أقل القليل، هجاءً يحمل قيمة فنيةً أو متعةً. أبدًا، هو مجرد هذر يسمونه فيلمًا أو رواية أو مقالة، وما أشبه ما نرى بعملية اجترار فكري تكشف عن ضحالة ثقافية وغيرة موظفين في شركة من بعضهم. بالمقابل، نشاهد في عديد من الأفلام العالمية، على سبيل المثال، تناولاً للنازية وكوارثها، وبرغم ما تحمله بعضها من بروباغندا صهيونية مقيتة (فيلما «قائمة شندلر» -Schindler's List و«عازف البيانو» - The Pianist مثلًا) فإنها تلتزم بجودة فنية عالية، ليس من حيث الصورة وحسب، بل ومن حيث الكتابة أيضًا، وهي الأهم. هل هذه الأفلام تمثل لنا قيمة عليا؟ بالنسبة إلينا، من المفترض أن يكون الجواب: لا! خصوصًا مع الحاصل في غزة حاليًّا. إلا أنها، بكل تأكيد، تعطينا درسًا في أهميّة الالتزام بتقديم جودة فنية عالية، على الأخص في الكتابة، فمهما بلغت جودة الصورة وجماليتها فهي لن تَرقع ثغرات الكتابة.
في ذم الاستسهال
يبدو فيلم «نورة» في بدايته واعدًا، بسبب جمالية الصورة الواضحة في افتتاحيته، إلا أننا ما نلبث أن نتوجس من الفيلم مع بداية مونولوج البطلة، إذ تلتقط الأذن لهجة حضر الحجاز في وسط بيئة من البدو، وهذا خطأ كارثي -على الرغم من سخافته- إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التقدم الملحوظ في السينما السعودية، وإن قلّ عدد الأفلام الجيدة، وهو خطأ متعلّق باختيار الممثلين، خطأ يؤشر على خلل عند أي مخرج لا يحسن اختيار ممثلي رؤيته الإخراجية. مثل هذه الأخطاء في التفاصيل لا يلاحظها الخواجة في «كان» أو غيرها، لكن الفيلم فاز أيضًا بأفضل فيلم في مهرجان البحر الأحمر، أليس كذلك؟ يا صديقي، الخواجة فكرة، والأفكار لا تموت!.. ما علينا.
يستمر الفيلم في إظهار حالات من الاستسهال المتتالية، والتي لو نظر إليها أي مونتير لانتبه لها بالتأكيد، لكن في الكواليس ما فيها. بدايةً، إن عملاً يعتمد على نحو أساسي على فكرة التخفي بين بطلة وبطل في بيئة منغلقة اجتماعيًّا لن يساعده بأي حال أن تكون هذه البيئة مفتوحة بهذا الشكل. البيوت متباعدة، الساحة في المنتصف واسعة، أي شخص في أي طرف من المنطقة يستطيع رؤية الرائح والغادي فيها بكل سهولة. كان يمكن التعب أكثر بعض الشيء في الاشتغال على موقع التصوير. ليس من الضروري أن تكون الكادرات واسعةً ليقول المشاهدون إن عين المخرج فنية. ثانيًا، حوارات المعلم لطلابه هي حوارات تتوجه للمُشاهد أكثر مما للطلاب؛ لا يمكن أن يتحدث معلم إلى طلاب صغار في السن بهذه اللغة المثقفة، فضلاً عن أن يخطب عليهم باستعارات ضحلة عن النور والظلام والفن والانغلاق. هذه لغة لا يتحدث بها مدرّس في المدينة لطلابه في الثانوية حتى. كل هذا وغيره ماشي، قد يمر على مضض، إلا أن الربع الأخير من الفيلم هو الكارثة بعينها.
ترجع سردية العمل بفلاش باك إلى طفولة البطلة في سبيل توضيح سبب بقائها في الديرة دون والديها المُتوفيين. نعرف من خلال هذا الفلاش باك أن أهل الديرة قد طردوا والد البطلة لأنه شاهد فيلمًا (ربما كان فيلم نورة؟ إذن، معهم حق) وهو ما يعتبر في عُرفهم تمردًا لا يقبل الغفران، إلا أن الوالد يعود في أحد الأيام بعدما تزوج إحدى بنات المدينة وأنجب «نورة» ذات الثمانية أعوام حينذاك، أما سبب عودته للديرة فهو لحضور عزاء وفاة والده. في العزاء تبصق جدةُ البطلة على زوجة ابنها المدينية، فيقرران الرحيل إثر هذه الإهانة. حالة من سواليف المجالس التي لم تُكتب جيدًا لترقى إلى مستوى القص الفني؛ الشاهد في هذا أنه في اللحظة التي توشك أم البطلة على الصعود في السيارة للرحيل، تلدغها أفعى في قدمها. وعليه يأخذها زوجها، أبو البطلة، ويسرع بالسيارة للوصول إلى أقرب مستشفى في المدينة من أجل إنقاذ الأم الملدوغة، تاركًا ابنته في الديرة بين أهله، إلا أنه ينحرف بالسيارة في الطريق فيصطدمان بشجرة ويُتوفيان فورًا، الأب والأم، وتبقى البطلة في الديرة بقية عمرها. ولك أن تتخيل يا عزيزي الديراوي أن شخصًا يُلدغ في الديرة فيُؤخذ بالسيارة إلى المدينة، في مشوار ساعة زمن على أقل تقدير. ألفباء (ما أكثر الألفبائيات التي يحتاجها هذا الفيلم!) الديرة، أن غالبية البيوت على الأقل، يكون في مطبخها إما عقار أو عشبة ضد سموم الأفاعي، بجانب أن أغلب أهالي الديرة، أيِّ ديرة، يحسنون التصرف مع مثل هذه الحوادث، إما بشق جرح مكان اللدغة وسحب السم، أو بربط محيط اللدغة، وهم -الديراويين- يحرصون على تعليم صغارهم هذه الاحتياطات. في المحصلة، هذا استسهال مقزز. ونحن لا نتكلم هنا بصفتنا نقادًا بل بوصفنا ديراويين نعرف هذه الأمور، ولو نظريًّا في الأقل.
وماذا بعد؟ لا شيء، لكن لك أن تتخيل أن البطلة، قبل هذا الفلاش باك -في الخط السردي- قامت بمحاولة هروب مع المدرس «نادر»، غير أنه يتم القبض عليهما من قِبل خطيبها الديراوي، الذي -ويا للرقة والإنسانية الغامرة- لا يقتلهما فورًا، بل يكتفي بالتهديد شاهرًا بندقيته، وإعادة البطلة إلى الديرة، وطرد المدرس. وهذا بطبيعة الحال منطقي جدًا، فنحن في إحدى ديار التسعينيات الإنسانية مع قيم الصحوة الحريصة على عدم قتل النساء، بل الأهم أن نكتفي بوأدهن في البيوت وتزويجهن لأبناء الديرة. وهنا نتراجع معتذرين عما وصفناه في الفيلم بالاستسهال، بل إن الأمر، إحقاقًا للحق وتجنُّبًا لظلم أي طرف، هو: سلق بيض!
كثرة البيض المسلوق تسبب غازات في البطن
إن أهمية نقد مثل هذه الأفلام في واقع السينما السعودية حاليًّا، أننا لا نود تكرار ما حدث في بقية فروع الثقافة، فلطالما رأينا من الأعمال التلفزيونية والأدبية، ما كان في أحط حضيض فني، ما نفّر كثيرًا من المتلقين وأدى إلى استعاضتهم عن الأعمال المحلية بأعمال عربية أو عالمية أجوَد. هذا واحد من أهم أسباب نفور عموم الجمهور السعودي من الإقبال على السينما اليوم. ولا لوم عليهم، إن أردنا الإنصاف، فالثقة بين المتلقي والفنان لا تكون وليدة لحظة، ولا تُبنى عبر البروباغندا و التدشينات المستمرة، إنما هي علاقة قائمة على تراكمات من الأعمال الفنية. في كل حين، يخرج علينا ناقد أو فنان، ويخطب قائلاً إن الجمهور السعودي ذكي وذو ذائقة فنية لا يُستهان بها، ثم ما نلبث إلا وينهال على الجمهور «الذكي» سيل من الأعمال الرديئة. رأس المشكلة ليس في عدم وجود كُتّاب أو مخرجين أو مبدعين سعوديين، بل في انتشار حالة «سلق البيض» وثقافة المجلات السهلة. وفيلمنا اليوم على سبيل المثال، في مفارقة طريفة، قد حكم على نفسه بنفسه كفيلم ثقافة مجلات. من ناحية، البطلة تعتمد المجلة كثقافة ومَخرج من جو الديرة الخانق، ومن جهة أخرى فالفيلم لن يتجاوز أن يكون خبرًا متداولاً في المجلات الفنية والجرائد بوصوله إلى مهرجان «كان» وما كان من حوارات صُنّاعه. إن «سلق البيض» يهتم أول ما يهتم بهذه الجوانب: المجلات، حفلات العروض، الترند.. إلخ. حتى وإن حاول العمل ترويج نفسه بوصفه فيلم مهرجانات. الأفلام بعمومها، مهرجانات أو تجارية، هي في نهاية الأمر إما جيدة أو رديئة وكفى. الباقي تحصيل حاصل. وأخشى ما نخشاه أن تُؤسَّس ثقافة سينمانا في دائرة تحصيل الحاصل، أفلام تُعرض ويحتفى بها ثم تموت كأن لم تكن. مع الزمن، سنجد أجيالاً تزدري الفيلم السعودي، وتفضّل عليه أفلامًا أخرى، مما يجعل المهمة أصعب على كل صانع أصيل يحاول تقديم صوته. نعم، السوق مفتوحة للجميع، لكن إن امتلأت السوق بكافتريات البيض المسلوق فسنُضطر إلى الطلب من «شي إن» السينما العالمية ولو كان رديئًا، فالرديء طبقات كذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش