في فيلمه «الجندي الصغير» (1963) The Little Soldier، يصوّر «جان لوك غودار» المعضلة الفكرية والأخلاقية التي يعاني منها الباحث عن الحرية والاستقلال في ظل ضغوطات اليمين واليسار وقوى الاحتلال والمقاومة. وكعادة أبطال «غودار»، يتحدث «برونو فوريستر» إلى فَتاته «فيرونيكا دراير» عن السياسة والحب والثورة إلى غيرها من الموضوعات الفكرية.
يعيش «برونو» في جنيف هربًا من التجنيد في فرنسا. هو في هذه المرحلة كالمستجير من الرمضاء بالنار، لا يفرّق بين أن يكون جنديًا في جيش أو عميلًا للمخابرات، فكلتا الوظيفتين لا تناسبان شخصًا يبحث عن الحرية. تكلّفه المخابرات الفرنسية باغتيال «باليفودا»، صحافي يعمل في الإذاعة السويسرية ويدافع عن الثوار الجزائريين. عند هذه النقطة تبدأ المعضلة الأخلاقية التي سيعاني منها «برونو». كان قد فر من الجندية حتى لا يضطر للقتل، وها هو مطلوب منه أن يقتل صحافيًا لسبب غير واضح سوى إثبات أنه -برونو- ليس عميلًا مزدوجًا. يرفض تنفيذ الأوامر معللًا ذلك بقوله: «حتى الجندي لا يمكن إجباره على القتل». يلاحقه الفرنسيون من جهة ويختطفه أفراد من المقاومة الجزائرية من جهة ثانية ويعذبونه قبل أن يتمكن من الفرار ويتعرض لابتزاز الفرنسيين مجددًا باختطاف حبيبته «فيرونيكا».
من السياسة إلى الفلسفة
تبدو خطوط القصة سياسية، لكن مضامينها فلسفية، وهذا ما وضحه «غودار» في إحدى مقابلاته قائلًا بأنه «لم يكن يحقق فيلمًا سياسيًا بل فيلمًا فلسفيًا عن الحرية بالمعنى المطلق وعن حرية الاختيار بالمعنى الحصري»(1). الفيلم -كما يوضح «غودار»- «أشبه بيوميات، دفتر ملحوظات، أو مونولوج شخص يحاول أن يبرّر نفسه أمام كاميرا تتهمه تقريبًا، كما يفعل الشخص أمام محام أو طبيب نفساني»(2).
يقول «غودار»: «قصة الفيلم عن رجل يشعر أن صورته المنعكسة في المرآة لا تتطابق مع صورته الحقيقية، رجل يحلّل ذاته ويكتشف أنه مختلف عن الفكرة التي كوّنها عن نفسه.. مطلوب منه أن يفعل شيئًا لا يريد أن يفعله.. وهو يتشبث بمبدئه، رجل لم يكبر بعد.. لذلك اخترت للفيلم عنوان "الجندي الصغير"» ويضيف: «ثمة حديث عن السياسة، في الفيلم، لكن ليس هناك أي انحياز سياسي. أنا أتحدث عما يعنيني ويقلقني، باريسي في العام 1960، غير منتمٍ إلى أي حزب، والذي كان يعنيني وقتذاك هو معضلة الحرب. لذلك عرضت رجلًا يطرح على نفسه معضلات لا يستطيع أن يحلها، لكن بطرحها هو يقوم بمحاولة لإيجاد حل لها. أريد من الفيلم أن يطرح أسئلة. تلك هي الغاية»(2).
من زمن الفعل إلى زمن التفكير
الجملة الأولى في المشهد الافتتاحي للفيلم تقول: «زمن الفعل قد ولّى، بالنسبة لي، ولقد نضجت الآن، وقد آن زمن التفكير». عبارة يمكن أن تتوقعها من شيخ، لكنها تصدر من «برونو» وهو في مقتبل شبابه ليعني بها ماضيه الذي لا نعرفه حتى اللحظة. تفتح العبارة الافتتاحية، بهذا المعنى، نافذة تشويقية للسؤال حول ذلك الماضي الذي سيُسرد بتقنية الاسترجاع. سنعرف لاحقًا أنه يعني به ماضيه وهو جندي، يوم كان ينفّذ الأوامر، ثم وهو عميل للمخابرات الفرنسية، أما ابتداءً من هذه اللحظة فعليه أن يفكر في تلك الأفعال وفي حياته الجديدة التي قرر أن يعيشها مفكّرًا حرًا.
ما إن ينتهي «برونو» من سرد عبارته بالتعليق الصوتي، انطلاقًا من الحاضر، وهو يقود سيارته، حتى تنفتح نافذة أخرى على سؤال تشويقي آخر: هل سيتمكن من تحقيق تلك القطيعة التي وعد بها نفسه؟! هل سيكون حرًا فعلًا؟! العبارة تمثّل قطيعة بين زمنين أو مرحلتين، لكن التصوير من داخل السيارة أو من خارجها يربطهما ويجلعه زمنًا متصلًا، أو دائريًا. وستكشف النهاية (قبل لحظة الاسترجاع) أن الجندي يتغلّب على المفكّر الذي لم يكن قد حسم أمره في مرحلة التساؤلات. هي عبارة فلسفية تنسجم مع بحث قائلها عن الحرية، لكن الفاعلين لم يكونوا ليسمحوا للفكر والحرية أن ينتصرا على طاعة الأوامر. إنه جندي، وجندي صغير، في حرب كبيرة، ومن يضع نفسه في خانة الحياد، والحرية، والخيارات الذاتية، سيدفع الثمن مركولًا بقدمي الطرفين المتحاربين. يسترجع «برونو» تلك الأحداث، واصفًا نفسه بأنه كان لا يزال شابًا أحمق، ويشعر أنه أضاع عمره سُدى. وبذلك، لا يدفع «برونو» ثمن الحياد، بل يدفع ثمن الحرية، ثمن اختياراته الشخصية.
جندي «غودار» وجندي «برتولوتشي»
بطل «غودار» هو النقيض من بطل «برتولوتشي» في فيلم «الممتثل». بطل «غودار» حر، أو باحث عن الحرية، وبطل «برتولوتشي» ممتثل للنظام. بطل «غودار» مجبر على اغتيال الصحفي «باليفودا»، وبطل «برتولوتشي» يختار بنفسه اغتيال أستاذ الفلسفة «كوادري». بطل «غودار» مضطر -بدافع من الحب والرغبة- إلى الخلاص من ظرف مؤقت، وبطل «برتولوتشي» ممتثل للنظام ومتكيف معه. «برونو» و«مارسيلو» -بطل «برتولوتشي»- يترددان قبل التنفيذ، لكن العملية تتم مع الفارق في حجم الضغوطات ومساحة الاختيار.
جندي «غودار» يملك أن يقول لا، لمن يطلبون منه اغتيال «باليفودا»، وتقف خلف هذا الرفض فلسفة وتفسيرات وتفكير عميق. وبطل «برتولوتشي» "جندي صغير" أيضًا، لكنه النقيض من جندي «غودار»: جندي «برتولوتشي» يشاهد عملية الاغتيال بأعصاب باردة، وتُقتل عشيقته «آنا» دون أن يهتز له رمش، وينتقل في النهاية من نظام إلى آخر دون تفكير إلا في مصلحته أو بتوجيه من اللاوعي.
كلا الجنديين لا يباليان بالمشاعر الإنسانية كثيرًا، ولا بالأخلاق. يمثّل «برونو» عملية الاغتيال مرات عدة وأمام الملأ ليكشف عن برودة أعصاب واستسهال أو استهتار. رفضُهُ للاغتيال في البداية يأتي لأسباب فلسفية تتعلق بالحرية والاختيار، لا لكونه رحيمًا أو أخلاقيًا. يستشهد بمقولة لـ«لينين» يقول فيها: «الأخلاقيات هي جماليات المستقبل»، وفي سياق آخر وتعبيرًا عن اللامبالاة والتناقض نراه يقول: «المسألة لا تتعلق بالقتل، فقد فعلت ذلك من قبل».
في فيلم «برتولوتشي»، وبعد أن يُكَلّف بتنفيذ عملية الاغتيال بدقة وسرعة، يقف «مارسيلو» بملابس داكنة أمام خلفية رخامية بيضاء مصوّبًا المسدس في ثلاثة اتجاهات: تجاه المسؤول الذي كلفه بالمهمة، وتجاه شخص مجهول، ثم في اللقطة الثالثة تجاه رأسه، ما يعني أنه مستعد لقتل المسؤول وقتل نفسه وقتل أي شخص آخر. هذه اللامبالاة نجدها في لقطات مماثلة في فيلم «غودار» حيث يتدرب «برونو» على عملية الاغتيال بتصويب المسدس نحو «باليفودا» في الأماكن العامة، ثم يغتاله أخيرًا أمام الملأ، ثم تكشف العبارة الختامية في الفيلم عن غياب الشعور بالندم.
مرحلة التفلسف والتساؤلات
مفاهيم عديدة تشغل تفكير «برونو» وسيفلسفها خلال أحداث الفيلم في حواراته مع «فيرونيكا»، وهي حوارات من طرف واحد غالبًا، مونولوج أو محاضرة يلقيها «برونو» ويقتصر دور «فيرونيكا» فيها على السماع أو الاستجابة المحدودة بكلمات قليلة.
مصداقًا لما قاله «برونو» في المشهد الافتتاحي من أن زمن الفعل قد ولّى وهذا زمن التفكير، سيتحدث «برونو» عن قضايا عديدة تُحيّره: الموت والحياة، الرجال والنساء، اليمين واليسار، الحقيقة، الجبن والشجاعة، الجبر والاختيار، القومية والوطنية، الثورة..
«برونو» غير مؤدلج. هو شاب لا يحب الحرب ولا يفهم كثيرًا في السياسة، لكنه غير ناضج تمامًا؛ يخلط بين مهمة الجندي ووظيفة الممثّل ويحتقرهما معًا. يقول لـ«فيرونيكا»: «أعتقد أن الممثلين أغبياء. أنا أحتقرهم. قل لهم أن يضحكوا، سيضحكون. قل لهم أن يبكوا، سيبكون. قل لهم أن يزحفوا، سيزحفون. وهذا بشع بالنسبة لي». تسأله «فيرونكيا»: «لماذا؟». يرد: «لأنهم ليسوا أحرارًا». يتوق «برونو» هنا للحرية بمعناها المطلق، وهذا غير ممكن عمليًا إلا في ظل فردانية مطلقة لا يحتاج فيها الإنسان لغيره. وهذا التفسير قد يتوافق مع ما قاله «غودار» عن نفسه في فترة اللاانتماء، أي في فترة التفكير الحر قبل أن يتحول في نهاية الستينيات إلى الاهتمام بالأيديولوجيا الماوية، وينتج أفلامًا قصيرة عبّرت عن وجهة نظره هذه. بهذه الأفلام تحوّل «غودار» من مفكر حر إلى جندي، أي أنه انتقل من زمن الفكر أو التفكير إلى زمن الفعل، خلافًا لرحلة بطله «برونو».
تؤمن «فيرونيكا» بالمبادئ، ولهذا السبب تختار تأييد المقاومة الجزائرية، أما «برونو» فيؤمن بأن هناك ما هو أهم من المبادئ. يؤمن بالقوة ويعتقد أنها أسمى من الذكاء، ولذلك يقول: «عليك أن تمهد طريقك بخنجر». أثناء اختطافه من قِبل عملاء المقاومة الجزائرية يفكر في الانتحار، ثم يسأل نفسه، على نحو براغماتي: «لماذا عليّ أن أقتل نفسي! كل ما عليّ فعله هو أن أعطيهم المعلومات التي يريدونها» لكنه لا يفعل ذلك، مضحيًا بنفسه في سبيل حرية الاختيار أو قوة الإرادة أو الإيمان بمبدأ يؤمن به هو شخصيًا، لا بإكراه أو ضغط من جهة خارجية. لا يصمد «برونو» أمام معذبيه لأنه شجاع أو لِقيمة المعلومات المطلوبة منه أو لأنه يتمتع بمبادئ ثورية تمنعه من إفشاء الأسرار، بل يصمد حتى لا تُثبت عليه تهمة العمالة المزدوجة، ثم لأنه يريد أن يثبت لنفسه أنه حر ويمتلك الإرادة والقدرة على اتخاذ القرار بشكل مستقل.
الحيرة التي يعاني منها «برون»و تجعله يتساءل ما إذا كان سعيدًا لشعوره بأنه حر أم أنه حر لشعوره بالسعادة! يقرأ مقطعًا من قصيدة لـ«أراغون»: «يا شهر الزهور والتحوّل (metamorphosis)، لن أنسى الليلك أو الوردة أبدًا»، ثم يتساءل: «لماذا كنت مهووسًا بهذه القصيدة؟» والإجابة نجدها في معنى كلمة التحوّل أو الانسلاخ. يقف «برونو» في منطقة وسطى، راغبًا في الانسلاخ عن ماضيه لبدء حياة جديدة مثلما تتحول البيضة إلى يرقة وشرنقة ثم إلى فراشة بالغة.
نتيجةً للضغوطات الممارَسة ضده من الطرفين -الفرنسيين والجزائريين- يمر «برونو» بحالة فصام. تقول له «فيرونيكا»: «أنت تتصرف بغرابة» فيجيبها: «لأنني أصبحت جبانًا.. هذا غريب. عندما أنظر إلى وجهي في المرآة، يبدو الأمر وكأنه لا يتطابق مع شعوري من الداخل». فخور جدًا بكونه فرنسيًا، لكنه أيضًا ضد القومية، فالمرء -كما يقول- «يدافع عن الأفكار لا عن الأراضي»، ولهذا السبب يحب «برونو» فرنسا لأنه يحب «يواكيم دو بيلاي» و«لويس أراغون»، ويحب ألمانيا لأنه يحب «بيتهوفن». وهو لا يحب برشلونة بسبب إسبانيا، بل لأن مدينة مثل برشلونة موجودة فيها، ويحب أمريكا لأنه يحب السيارات الأمريكية.
«برونو» -كما يقول عن نفسه- «تائه ما لم [يتظاهر بأنه] تائه». يبحث عن الحرية، لكنه «جبان» بوصف «بول» و«جاك»، والحرية تتطلب الشجاعة، أو الندم، على حد وصفه: «ربما الندم هو بداية الحرية». يعيش صراعًا فيشعر بأن «الشيء المهم في الحياة هو ألا [يُهزم]»، لذلك فإن قتل «باليفودا» لا يكون انتصارًا وإنما محطة للندم في سبيل الخلاص من المخابرات الفرنسية. لكن هل الخلاص ممكن، أم أن النهاية المفتوحة قد تؤدي إلى ملاحقته من قِبل الطرف الآخر؟ كل هذا غير مهم في نظر «غودار»، لأن هدفه من الفيلم هو طرح التساؤلات وتعزيز فكرة الاختيار الحر.
إن «طرح الأسئلة أهم من الحصول على إجابات» كما ورد في الفيلم، ولذلك يضعنا «غودار» أمام مجموعة من التساؤلات. يتساءل «برونو»، مساويًا بين اليمين واليسار: «ما الذي يعتقده أتباع اليمين واليسار؟ ما الهدف من الثورة اليوم؟ ينتصر اليمين ثم يطبّق السياسات اليسارية والعكس صحيح. أنا أفوز أو أخسر، لكني أقاتل وحدي» -أي بشكل منفرد دون أن أكون منتميًا لأي فريق- وتلك مرحلة فكرية لم يكن قد وصل إليها «برونو» عمليًا.
ويساوي «برونو» بين المسيحية والشيوعية متسائلًا: «لماذا بابا الفاتيكان مناهض للشيوعية، مع أنه -كالشيوعية- يؤمن بأن جميع الناس إخوة!». يتحدث «برونو» بلا انقطاع، في رحلة تهدف إلى البحث عن الحقيقة، وهي رحلة بشرية يشبّهها «برونو» بعملية التنقيب عن الذهب: «كما لو كانوا في بحثهم عن الحقيقة ينقبّون عن الذهب. لكن بدلًا من الحفر في مجاري الأنهار، فإنهم يحفرون بعمق في أفكارهم، ويلقون جانبًا كل الكلمات التي لا قيمة لها، وينتهي بهم الأمر بكلمة ذهبية واحدة: الصمت»، والصمت هنا محطة للتفكير، وبذلك فقد تحول «برونو» من مرحلة الكلام -الفضية- إلى مرحلة الصمت -الذهبية- مصداقًا للعبارة الشائعة: «إذا كان الكلام من فضة، فالصمت من ذهب».
الموت بالنسبة إلى «برونو» «عملية عبور إلى عالم آخر»، حيث يستشهد بعبارة لـ«فان جوخ» يقول فيها: «سنمتطي الموت للوصول إلى كوكب آخر»، وربما لهذا السبب لا تمثّل له عملية الاغتيال معضلة أخلاقية، بل وقودًا للفكر وموضوعًا فلسفيًا. السياسة هي ما تجعله يعاني من هذه المعضلة الأخلاقية. ولذلك فإن السياسة هي «المأساة اليوم»، كما يعبّر نقلًا عن «نابليون». وإزاء هذا الضغط من قِبل طرفي النزاع يقول «برونو»: «إنه لأمر فظيع اليوم. إذا لم تفعل شيئًا، فسيحل عليك الجحيم، لأنك لا تفعل شيئًا على وجه التحديد. لذلك، نقوم بأشياء من دون اقتناع. وإنه لمن المؤسف شنّ حرب دون اقتناع».
هذا ما يفعله «برونو» بالتحديد في النهاية: قتْل «باليفودا» دون اقتناع. ما يمنعه من اغتياله في البداية هو كونه غير مقتنع بذلك. هي ليست مسألة أخلاقية، لأنه يقايض في الأخير اغتيال «باليفودا» مقابل الحصول على تذكرتين له ولـ«فيرونيكا» للرحيل إلى البرازيل، ليكشف «برونو» بهذا عن شخصية براغماتية.
ملامح «برونو» الجامدة تشي باللامبالاة، خلافًا لموقفه الذي يعبّر عنه في التعليق الصوتي وفي حواراته مع «بول» و«جاك». وفي إشارة بصرية إلى الانحدار الذي بلغه نراه وهو في السيارة يخفي وجهه بصورة لـ«هتلر» وبيده الأخرى يحمل مسدسًا لتبدو الصورة مع المسدس وكأنّ «هتلر» هو من يصوّب المسدس نحو «باليفودا». يوحّد أو يُماهي «غودار» في هذه اللقطة بين «برونو» و«هتلر» -وكذلك سيفعل «برتولوتشي» مع «مارسيلو» في فيلم «الممتثل»- ليقولا إن «برونو» و«مارسيلو» سواء أو أنهما يسيران على خُطى «هتلر».
المهم في رحلة «برونو» الفكرية هو «أن تتعرف على رنّة صوتك وعلى شكل وجهك»، أن تتطابق أفعالك مع أقوالك، وظاهرك مع باطنك، أن تكتشف ذاتك. تلك كانت رحلة «برونو فوريستر» الذي كرّر نظراته للكاميرا مرتين أو ثلاث ليواجه المُشاهد بتساؤلاته ويلقي بما يعتمل في نفسه عليه -على المشاهد- في تقنية سردية يراد بها إحلال المُشاهد مَحَلّ «برونو» لتصبح أسئلته الوجودية هي أسئلتنا التي لا ترتبط بزمان ومكان محددين، بل بحالة إنسانية فلسفية تظل راهنة على الدوام.
إضافة إلى هذه الأفكار الفلسفية، ثمة تصريحات غريبة عن المرأة تصدر أغلبها على لسان «برونو»: «المرأة الأجنبية التي تتحدث الفرنسية هي امرأة جميلة دائمًا»، «أكتاف المرأة جميلة جدًا ونبيلة»، «يصبح الرجال أكثر جاذبية مع تقدّمهم في العمر، خلافًا للنساء. أعتقد أنه من الظلم أن تشيخ المرأة»، «يجب ألا تتجاوز النساء 25 عامًا أبدًا» (هذا ما يتحقق بمقتل «فيرونيكا» على يد الفرنسيين)، «تقف الحياة في صف المرأة، أما الموت فيقف في صف الرجل»، وهذه العبارة قد تصدُق على الواقع، لكن نهاية قصة الفيلم تكذّبها بمقتل «فيرونيكا» وبوقوف الحياة في صف «برونو».
يختتم «برونو» بدرس علّمته الحياة إياه: «لم يكن لديّ خيار سوى أن أتعلم ألا أكون ساخرًا لاذعًا. كنت سعيدًا لأن الكثير من الوقت ما زال أمامي». عبارة الختام هذه محيّرة وتفتح بابًا للتساؤل: هل كان «برونو» يقاتل من أجل خلاصه الفردي، أم من أجله و«فيرونيكا»، أم من أجل خلاصنا نحن؟! في البوستر الرسمي للفيلم نرى «برونو» وهو يحتضن «فيرونيكا» بِيَدٍ، وبيده الأخرى يصوّب مسدسًا نحو عدوّ مجهول. تظهر «فيرونيكا» هنا كدرع يحتمي به «برونو» من خطر الرصاصات المقابلة. ثمة أنانية يمكن أن نشاهدها ماثلة في كادر يقف فيه «برونو» أمام المرآة ولا يرى سوى نفسه، بينما تقف «فيرونيكا» في الخلفية. يمكن أن نرى هنا أيضًا صورة لانقسام أو فصام «برونو» من خلال صورته المنعكسة على المرآة مقابل ذات واحدة لـ«فيرونيكا»، تلك المنعكسة على المرآة والمعبّرة عن موقفها الثابت وتصالحها مع نفسها ومبادئها.
بعد اغتياله للصحفي لا يشعر «برونو» بالندم أو الحزن، بل نراه يتطلع إلى الوقت المديد المتاح له في المستقبل. ربما هناك، بعد أن أنجز ما طُلب منه، وبعد أن تخلّص من ملاحقة المخابرات له، سيكون بوسعه التفكير. عبارة الافتتاحية إذن محلها هنا في الختام المفتوح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.إبراهيم العريس: اندبندنت عربية
2.أمين صالح نقلًا عن كاييه دو سينما، العدد 138، ديسمبر 1962