في حَنَايَا السينما التركية نلاحق يوسف

مصطفى القرعاني
و
February 27, 2025

تضيء «ثلاثية يوسف» (The Yusuf Trilogy) للمخرج سميح كابلان أوغلو عتمة الروح والعقل، حيث تتتبَّع شخصية يوسف عبر الزمن، مقدمةً رحلةً عميقة في أغوار الذات. هذه الثلاثية لا تُعدُّ مجرد مسارٍ ممتدٍّ عبر مراحل العمر، بل هي مرآةٌ تعكسُ تقلُّبات الروح ومعاناتها، تتوالى فيها مراحل الطفولة، والشباب والنضج، في ترتيبٍ زمنيٍّ معكوس، وكأنها انعكاسٌ لمسارِ الروح رجوعًا إلى نقطة البداية.

تعدُّ ثلاثيَّة يوسف عملًا استثنائيًّا يتجاوزُ حدودَ السردِ التقليديِّ ويؤسِّس للغةٍ سينمائيَّةٍ مبتكرة. تتكونَّ الثلاثية من أفلام «البيض» (Yumurta - 2007)، «الحليب» (Süt - 2008) ، و«العسل» (Bal - 2010)، وتتمحور حول مفاهيم العزلة والوحدة، مقدِّمةً رحلةً روحانيَّةً عميقةً من خلال رصدِ حياةِ شخصيَّةٍ واحدةٍ عبر ثلاث مراحل عمريَّةٍ مختلفة، مرتَّبة زمنيًّا على نحوٍ عكسي. هذه الأعمال تمثِّلُ نقطةَ تحوُّلٍ في السينما التركيَّة المعاصرة، حيث تُقدِّم رؤيةً مغايرةً تمامًا للنمط السائد. تأخذنا هذه الأفلام الثلاثة في رحلةٍ شاعريَّةٍ تتوازى مع الواقع، لكنها مُشبَّعة بالخيال، وتُبرز بعمقٍ العوالم النفسيَّة والاجتماعيَّة لشخصيَّة يوسف. وهذا ما يؤكد قوَّة السينما كأداةٍ فريدةٍ للتأمُّلِ في أعماق النفس البشريَّة وأسئلةِ الوجودِ الكبرى.

يتميَّز كابلان أوغلو بلغةٍ بصريَّة فذَّةٍ تعتمد على عدَّة عناصر أساسيَّة، لعلَّ أبرزها هو التصويرُ البطيء والمتأنِّي للمشاهد، حيث تمتدُّ اللقطات في أفلامه لفتراتٍ طويلةٍ تُتيحُ للمُشاهِد التأمُّلَ في جميعِ التفاصيل، والتماهي مع شخصيَّة يوسف في لحظاتٍ عديدة، فيصبح المشاهدُ شريكًا غيرَ مرئيٍّ في تجربته، وكأن خيطًا رفيعًا ومتأرجحًا فقط هو ما يفصلُ بينهما.

وَلِأن الثلاثيَّة ترصدُ حياة شابٍّ ريفيٍّ، فقد انصبَّ التركيز بشكلٍ أساسيٍّ على تصوير الحياة اليوميَّة والمناظر الطبيعيَّة، وهذا ما عزَّز الإحساس العميق بالزمان والمكان. وبدلاً من الاعتماد على الموسيقى التصويريَّة التقليديَّة، اعتمد كابلان أوغلو على الصمت والأصوات المحيطةِ كعناصر دراميَّةٍ تُضفي على المَشاهد بُعدًا حسِّيًا جديدًا، وتمنحها واقعيةً تتماهى مع أجواء الفيلم التأمليَّة.

وأخيرًا، فإنَّ ابتعاد كابلان أوغلو عن الإضاءة الصناعيَّة في معظم أفلام الثلاثيَّة، وتفضيله استخدام الضَّوء الطبيعي، أضفى على المشاهد أجواءً تجمعُ بين الواقعيَّة والشاعريَّة بلمسةٍ من الحميمية. هذا النهج جعل الضوء ليسَ مجرَّدَ عنصرٍ جماليٍّ أو تقني، بل جزءًا من السرد نفسه، ينبضُ بالحياة ويتفاعل مع الشخصيَّات والزمان والمكان، مما منح الأفلام طابعًا بصريًا فريدًا يرسِّخ الإحساس العميق بكلِّ لحظةٍ تُعرض على الشاشة.

وعلى عكس السائد في السينما، ينطلقُ السرد في ثلاثيَّة كابلان أوغلو من مرحلة النُّضج، ويمضي بصورةٍ عكسيَّةٍ نحو الوراء وصولًا إلى مرحلة المراهقة، قبل أن ينتهي به المطاف إلى مرحلة الطُّفولة، مما يزيد من رغبةِ المُشاهد في استكشاف شخصيَّة يوسف والغوص في أعماقها لرؤيتها من منظور أوسع. وإلى جانب هذا البناء الزمني العكسي، يعتمدُ المخرجُ إيقاعًا بطيئًا في رسم الأحداث، ممَّا يمنحُ المشاهد فرصةً للتأمل والتفاعلِ مع المشاعر الكامنة في تفاصيل القصة، ليصبحَ كلُّ مشهدٍ تجربةً حسيَّةً تتجاوز حدود السرد التقليدي.

الزَّمن كَحِيلَة دِيكارْتيَّة

في الفلسفة الديكارتيَّة، يُنظرُ إلى الحاضر باعتباره اللحظة الوحيدة التي نمتلكها ونُدركها على نحوٍ يقيني، في الوقت الذي يبقى فيه الماضي والمستقبل ضمن إطار اللايقين. هذا المفهوم يتجلَّى بوضوحٍ في ثلاثيَّة يوسف، حيث يبدو الزمن محكومًا بإطار مشابه: في فيلم «البيض» يُلاحق الماضي يُوسفَ، لكنَّه يظلُّ غامضًا وغير جلي، إذ لا يُكشف عن الأحداث التي حدَّدت مصيره على نحوٍ واضح، مما يدفع المشاهد إلى التركيز على اللحظة الراهنة. أما في فيلم «الحليب»، فيبقى المستقبل مجهولًا وغير مؤكد، وذلك نتيجةً للتباين ما بين طموحاتِ يوسف وواقعه الحياتي. في المقابل، يركِّزُ فيلم «العسل» على الحاضر، حيثُ تُعاش اللحظة الراهنة بكلِّ تفاصيلها وكثافتها، مما يعزِّز الشعور بالزمن كتجربةٍ مباشرةٍ وملموسة.

تُظهر الثلاثية جوانب من الثنائية الديكارتية بين العقل والجسد من خلال تأكيدها على الصراع بين المادي والروحي؛ ففي «البيض»، يمثِّلُ يوسف الجسدَ بعودته الفيزيائيَّة إلى قريته القديمة، فيما تجسِّدُ صراعاته الداخلية المرتبطة بالماضي وواجباته الأخلاقية الطرف الثاني من الثنائية، أي العقل. أما في فيلم «الحليب» فإن هذه الثنائيَّة تتجلى من خلال هذا الصراع القائم بين الجوانب الماديَّة لحياة يوسف (عمله كبائع حليب) وطموحاته الروحية بأن يصبح شاعرًا. وفي فيلم «العسل»، حيث يبدو العالم الطبيعي متناغمًا، يبرزُ هذا الانسجام بين الجسد، المتمثِّل في صورة الطفولة والبراءة، وبين العقل المتأمِّل للكون والطبيعة. هنا تصبح الغابة رمزًا لهذه الوحدة بين العقل والمادة، مجسِّدةً الحلم الفلسفي الديكارتي في التوفيق بينهما.

وفي ملاحظةٍ بالغة الأهمية، صوَّر سميح كابلان أوغلو ثلاثيَّته خلال فترةٍ زمنيَّةٍ متقاربة (2007-2009)، رغم أنَّ الفارق الزمنيَّ بين المراحل العمرية لشخصيَّة يوسف في الأفلام الثلاثة يتجاوز 35 عامًا. هذا التناقض الظاهريُّ بين زمن التصوير والزمن الدرامي يفتح أمامنا آفاقًا جديدةً لفهم رؤية كابلان أوغلو الفلسفيَّة للزمن والوجود.

من الواضحِ أنَّ كابلان أوغلو يرغبُ في التأكيدِ لنا أنَّنا لسنا بصددِ مشاهدة ثلاث قصصٍ منفصلة عن بعضها بعضًا، بل سنغوص في عالمٍ واحدٍ متكامل، ألا وهو عالم يوسف. هذا العالم يتجاوز الخطِّية الزمنيَّة التقليديَّة ليخلق فضاءً زمنيًا متداخلًا، حيث تتعايش كل أوجه يوسف في آن واحد. يمكن تفسير تقارب فترة التصوير كإشارةٍ إلى أنَّ جميع مراحل يوسف الحياتيَّة موجودةٌ في اللحظة نفسها، فالطفل الصامت في «العسل» لم يختفِ حين صار شابًا في «الحليب»، والشاب الحالم لم يتلاشَ حين أصبح رجلًا ناضجًا في «البيض». جميع هؤلاء موجودون معًا، يشكلون طبقات متراكبة من الوعي والوجود.

يدعونا كابلان أوغلو إلى التأمُّل في عالم يوسف كفضاء روحي يتجاوز حدود الزمن المادي، حيثُ تصبحُ المراحلُ العمريَّة الثلاث مجرَّد تجلِّياتٍ مختلفةٍ لجوهر واحد، كأنَّ يوسفَ ليس شخصيَّةً تتطوَّر عبر الزمن، بل هو حالةٌ من الوجود تتجلَّى في أشكال مختلفة. هذا التفسير تدعمه وحدة الأسلوب البصريِّ التي حافظ عليها كابلان أوغلو في الثلاثية، حيثُ تتكرَّر اللغة البصريَّة نفسها، كذلك الإيقاع البطيء والاهتمام بالتفاصيل، بغضِّ النظر عن اختلاف المراحلِ الزمنيَّة، كما لو أنَّ هذا التوحيد الأسلوبي تأكيدٌ لوحدةِ عالم يوسف، حيث تذوب الحدود بين الماضي والحاضر، ليصبح الزمن نفسه تجربةً شعوريَّةً أكثر منه خطًّا متسلسلًا.

هذا التداخلُ الزمنيُّ يفتح أمامنا بابًا واسعًا للتساؤل حول طبيعة الهويَّة. هل نحن فعلًا كيانات مختلفة في مراحل حياتنا المتعاقبة؟ أم أنَّنا نحتفظُ بكلِّ تلك المراحل بداخلنا، كأنَّها جزءٌ من كياننا الثابت، مهما تقدم العمر بنا؟

يبدو أنَّ تقارب فترة تصوير الثلاثية هو اختيارٌ مدروسٌ من كابلان أوغلو، والهدفُ من ذلك هو تأكيدُ فكرةٍ أساسيَّة: أن عالمَ يوسف عالمٌ متكاملٌ يتجاوز حدود الزمن المادي. إنَّه عالمٌ روحيٌ فلسفي، حيث تتداخل كلُّ المراحلِ في آنٍ واحد، ويصبحُ البحث عن الذات رحلةً تتجاوز حدودَ الزمن لتصلَ إلى جوهرِ الوجود ذاته.

الرموز كمفاتيح للمعنى

تتسلل السريالية في ثلاثية يوسف كخيط رفيع من الحلم يربط عوالم كابلان أوغلو، حيث تبرُزُ بصمةٌ سرياليَّةٌ في كلِّ فيلمٍ من أفلامه الثلاثة منذ البداية، تاركة بابًا مفتوحًا بين الواقعِ والخيال، بين الماديِّ والروحي، وبين ما نراه وما نتخيَّله.

لا يمكن اعتبار مشاهد السرياليَّة في الثلاثيَّة مشاهدَ عابرةٍ أو معزولة، بل هي نسيجٌ متكاملٌ يمتدُّ عبر الأفلام الثلاثة، فنرى مشاهدَ تتكرَّر كالحلم، حيث يظهرُ الماء والغابة والضوء كعناصر سرياليَّةٍ تربطُ بين عوالم يوسف المختلفة، كما لو أنَّ المخرج يقول لنا إنَّ الواقع نفسه قد يكون مجرَّد حلمٍ طويلٍ نعيشه بكافَّة تفاصيله. في العديد من اللحظات، تتحوَّل المشاهد العاديَّة إلى لوحاتٍ سرياليَّة، فالأشجارُ تتحدَّثُ بلغةٍ صامتة، والظلالُ تروي حكاياتٍ لا يسمعها إلا من يصغي بقلبه، والزمن نفسُه يَفقِدُ خطِّيته المعتادة كي يصبحَ دائرةً من الأحلام المتداخلة. وأيضًا تتجلى السرياليَّة في طريقة معالجة كابلان أوغلو للزمن، فالثلاثية التي صُوِّرت خلال فتراتٍ زمنيَّةٍ متقاربةٍ تتناول مراحلَ متباعدة من حياة يوسف، وكأنَّ الزمن نفسه يخضعُ لمنطقٍ سرياليٍّ خاص، حيث باستطاعة الماضي والحاضر والمستقبل أن يتعايشوا في لحظةٍ واحدة.

هذا التداخل الزمني السريالي يخلق إحساسًا بأنَّنا لسنا أمام ثلاثة أفلامٍ منفصلة، بل أمام حلمٍ واحدٍ طويلٍ يتجلى في ثلاث صورٍ مختلفة. في عالم كابلان أوغلو السريالي، تصبحُ الأشياءُ العاديَّة حاملةً لمعانٍ غير عادية، فالعسل ليس مجرَّد طعام، والحليب ليس مجرَّد شراب، والبيض ليس مجرَّد رمزٍ للحياة، بل تتحوَّل جميعُها إلى مفاتيحَ لفهم عالم يوسف السريالي، حيث تتجاوز دلالاتها المباشرة لتصبح جزءًا من لغةٍ بصريَّةٍ وروحيَّةٍ تتحدَّثُ عن الجوهر الإنساني، وعن صراع الذات مع الزمن والوجود والهويَّة. حتى الصمت، وهو عنصرٌ أساسيٌّ في الثلاثيَّة، يكتسبُ بعدًا سرياليًّا يجعلُ منه لغةً في حدِّ ذاته، لغةٌ تتجاوزُ الكلمات كي تخاطبَ ما هو أعمق في النفس البشرية.

تمتدُّ السرياليَّة لتشملَ حتى طريقة التصوير نفسها، حيثُ تصبحُ اللقطات الطويلة الصامتة، والضوء الطبيعي الذي يتسلَّل إلى المَشاهد بانسيابيَّةٍ شاعريَّة، وكذلك الحركة البطيئة للكاميرا، عناصرَ أساسيَّة في بناءِ عالمٍ سرياليٍّ متكامل، إيقاعه يشبه الحلم، وتكوينه ينسجُ واقعًا يتماهى مع الخيال، حيث يتلاشى الخط الفاصل بينهما تدريجيًا.

في هذا العالم، تصبحُ الحدود بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والحلم، بين الماديِّ والروحي، حدودًا هشَّةً قابلة للاختراق في أيِّ لحظة. وهكذا، تصبحُ السرياليَّة في ثلاثية يوسف أكثرَ من مجرَّد أسلوبٍ فنيٍّ أو تقنيَّةٍ سرديَّة؛ إنَّها منظورٌ عميقٌ لفهمِ الوجود ذاته، فهي تكشفُ عن السحر الكامن في التفاصيل اليوميَّة، حيث يمكنُ لأيِّ لحظةٍ عاديَّة أن تتحوَّل إلى مشهدٍ مفعمٍ بالغموض والجمال، ولأيِّ واقعٍ مألوفٍ أن يخفي بين طيَّاته بذور حلم. في عالم كابلان أوغلو، لا يكون الصمت مجرَّد غيابٍ للكلام، بل حوارًا خفيًا مع الذات والكون، لغةً تنبضُ بما لا يُقال. إنها سرياليَّةٌ لا تُختَلق، بل تنبعُ من صميم الحياة نفسها، لتؤكِّد أنَّ الواقع، في أقصى لحظاته صدقًا، قد يكون أكثر غرابةً وشاعريَّة من أيِّ حلم.

خاتمة

ليست ثلاثيَّة يوسف مجرَّد أعمالٍ سينمائيَّة، بل هي رحلةٌ شخصيَّةٌ يعيشها المرء بكلِّ تفاصيلها، رحلة تتسلَّلُ إلى أعماق الروح تاركةً أثرًا لا يُمحى. ومع كلِّ لقطةٍ يراودُ المشاهدَ شعورٌ بأنَّ كابلان أوغلو يخاطبه هو تحديدًا، يفتح أمامه نافذةً على عوالمِ التأمُّلِ والفلسفة، دافعًا إيَّاه لعيشِ كلِّ لحظةٍ كأنَّها تنتمي إليه، كأنَّها تحملُ له معنى أعمق ممَّا يبدو على السطح. هذه الأفلام ليست فقط عن يوسف، بل هي عن كلِّ واحد منَّا، عن صراعاتنا الداخليَّة بين الماضي والحاضر والمستقبل، عن محاولاتنا لفهم ذواتنا في عالمٍ يمضي دونَ توقف.

المدهشُ حقًّا هو الكيفيَّة التي استطاع بها كابلان أوغلو إظهار الجمال في البساطة، بأن جعلَ من الصَّمت والأصوات اليوميَّة لغةً أكثر تأثيرًا من الكلمات. ربَّما يشعرُ المرءُ أنَّه يرى نفسه في يوسف، وفي رحلته يجدُ إجاباتٍ عن أسئلةٍ لم يكن يعلمُ أنَّه يبحثُ عنها. ثلاثيَّة يوسف دليلٌ حيٌّ على أنَّ السِّينما ليست مجرَّد وسيلة للتَّرفيه، بل وسيلة لاكتشافِ الذَّات، وأنَّ الأفلام تنجح في أن تلامس أرواحنا، من خلال ما تتيحه من تَّأمُّل وما تحققه من عمق.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى