فوضى الهويّة في فيلم «4»

حامد محضاوي
و
February 24, 2025

يُعتبرُ فيلم «4»، الذي صدر في عام 2004 من إخراج إيليا خرجانوفسكي وسيناريو فلاديمير سوروكين، أوّل فيلم درامي طويل في مسيرة المخرج الروسي. يحملُ عنوان الفيلم «4» دلالةً أعمق من كونه مجرَّد رقم؛ فهو يمثِّلُ مفتاحًا لفهم عملٍ مشبع بالرموز والاستعارات البصريّة التي تتغلغل في تفاصيل السرد. يعكسُ الرقم هوسًا متكرّرًا يُسلّط الضوء على العدمية والتكرار الذي يُشوّه فكرة الهويّة ويؤدِّي إلى تلاشيها.

يتّسم الفيلم بجو قاتم يثيرُ الشعور بالكآبة، ويعرضُ رؤيةً صادمةً عن روسيا كأرضٍ غامضة ومظلمة، حيث لا وجود للأبطال التقليديّين أو لمركزيّة الشخصية نفسها. ومع غيابِ مفهوم البطولة، يتحوّل السرد إلى فسيفساء متقطِّعة من الشخصيات التي تبحث عن هويّتها في عالم مليءٍ بالتناقضات. الأخلاقيّات في هذا العالم ليست ثابتةً أو واضحة، بل قابلة لإعادة الصياغة والمساءلة في ظلِّ الفوضى القيميَّة، ممّا يجعلها تبدو فكرًا باليًا وسط انهيار المعايير الإنسانيّة.

يسلك الفيلم نهجًا فريدًا في تفكيك المفاهيم التقليديّة للسّرد والبطولة. يمثِّلُ «4» تجسيدًا لفكرة الفوضى والتحلّل، حيث تتسلّل السخرية إلى كلّ زاوية من زوايا الفيلم عبرَ شخصياتٍ تعيش حياةً متشابكة تتخلّلها الخديعة والتهرُّب من مواجهة الحقيقة. كما أنّ أحداث القصّة تتكشّف بطريقة مُبهمة، دون أن تمنحَ المشاهدَ يقينًا أو تماسكًا واضحًا، ممّا يعزّز الإحساس باليأس ويُبرِزُ التّدهورَ المستمرَّ للهوية في ظلِّ عالم مضطرب. «4» ليس مجرّد فيلم يتناول شخصيات وأحداث؛ بل هو تأمُّلٌ في عالمٍ يسعى لإيجاد معنى وسط الاضطراب، ولكنّه لا يجد سوى صورٍ مشوَّهةٍ لهويَّته المتآكلة.

يعتبرُ مشهد الحانة في بداية الفيلم من المشاهد الرمزيّة البارزة التي تقدّم شخصيات الفيلم وتؤسّس للثيمات الكبرى التي يتناولها. على الرغم من بساطته الظاهريّة، يتجاوز المشهد الأبعاد الزمانيَّة والمكانيَّة كي يكشف عن هشاشة الهويّة الإنسانيّة، وعن محاولة الأفراد المستميتة للهروب من واقعهم البائس من خلال خيالٍ مؤقّت لا يستطيع الصمود أمام صلابةِ الحقيقة.

يبدأ المشهد بلقاء ثلاث شخصيات هامشية في حانة قديمة تنبض بآلام روسيا ما بعد الحقبة السوفيتية؛ روسيا الغارقة في متاهات تَفكك الهوية وتحولات القيم، حيث تتداخل الأقدار وتتشابك الأحلام بين ضباب الذكريات وأصداء الحاضر. وهذه الشخصيَّات هي:

مارينا (مارينا فوفشينكو)، التي تعمل كعاهرة بينما تدَّعي أنَّها تعملُ كمديرة تسويق. هذه الكذبة ليست مجرَّد وسيلةٍ للهروب من واقعها المهين، بل هي محاولةٌ لتكوينِ صورةٍ اجتماعيَّةٍ تعطيها إحساسًا مفقودًا بالاحترام والاعتبار.

أوليغ (يوري لاجوتا) الذي يعملُ تاجرًا للُّحوم، بينما يتقمّص شخصيّة مورّد مياهٍ للكرملين، في محاولة هزليَّةٍ لإضفاء أهميّة على وجوده وربطه بدوائر السلطة والنفوذ التي لا ينتمي إليها بأيِّ شكل.

فولوديا (سيرجي شنوروف)، مُعدّل البيانو الذي يقدِّم نفسه كعالمٍ في مجال علم الوراثة. هذا الدور المزعوم ليس مجرَّد كذبة عابرة، بل يحمل دلالاتٍ عميقةٍ تتجلّى لاحقًا في رمزيّة الاستنساخ والهويّات المتكرّرة التي يشير إليها الفيلم.

إن هؤلاء الثلاثة ليسوا مجرَّد غرباء التقوا بمحض الصدفة، بل هم تجسيدٌ لحالةِ الإنسان الروسي المعاصر الذي يواجه مصيرًا محاصرًا بين جدران واقعٍ يفيض بالألم والاغتراب. إنهم يمثِّلون روحَ مجتمعٍ يكافح في خضمِّ فقدانٍ تدريجي لقدرته على اكتشاف هويَّته أو إعادةِ تشكيل نفسه من جديد.

الحانة ليست مكانًا عاديًا، بل تُعتبرُ مساحةً رمزيَّةً تُستخدمُ كخشبة مسرحٍ لأداء الأدوار المصطنعة من قبل مارينا، أوليغ، وفولوديا. داخل هذه المساحة المعزولة، تُعلَّقُ قوانين الواقع، ويُسمح للشخصيات بإعادة كتابة قصصها الشخصيَّة ولو بشكلٍ مؤقَّت. إلَّا أنَّ هذا العالمَ الخياليَّ لا يخلو من العبثيَّة، كما يتجلّى في شخصيّة "عامل الحانة" الصامت، الذي يكاد يغفو من الملل، في تعبيرٍ ساخرٍ عن الفراغ الذي يلفُّ الجميع.

المشهد طويل، وفيه يمتزج الحديث الساخر بالتوتّر الخفي. ومن خلاله تتجسَّد قدرة الشخصيَّات على خلقِ عوالمَ بديلةٍ تواجه بها واقعها المظلم، لكنَّها في الوقت ذاته تُظهر عجزها عن بناءِ علاقاتٍ حقيقيَّة أو حتى التصالح مع الذات. هنا لا يُعتبرُ الخيال حلًا دائمًا، بل هو استراحةٌ قصيرةٌ من صخب الحياة الحقيقيَّة، استراحة تنتهي فور مغادرتهم الحانة.

ما إن يتفرَّق الثلاثة، حتى تبدأ حيواتهم في الانهيار بوتيرةٍ متسارعة، وكأنَّ الحانة كانت الحاجز الأخير الذي يحميهم من الانجراف في تيار الواقع القاسي. يكشف الفيلم، من خلال مشاهدَ متلاحقة، كيف يتسلَّل الفراغ إلى أيامهم، وكيف يصبحُ كلُّ واحدٍ منهم أكثرَ عرضةً لوحشة الوحدة وثقلِ الحياة التي كانوا يهربون منها خلف طاولات الشراب.

تغادر مارينا إلى الريف بعد تلقيها نبأ وفاة شقيقتها "زويا"، في رحلة تستحضر إلى الأذهان فيلم «المطارد» (Stalker - 1979) لأندريه تاركوفسكي. هذه الرحلة ليست مجرّد انتقالٍ جغرافيٍّ من المدينة إلى القرية، بل هي انتقالٌ نفسيٌّ عميقٌ يختبر الذات والذاكرة. ومع ذلك، فإن تسلسل الأحداث المغلف بالغموض، إلى جانب التعبير المحايد والخالي من الانفعالات الذي تتقنه مارينا، يعيق إمكانية النفاذ المباشر إلى أعماق أفكارها. إذ تبدو وكأنها جدار صامت، تخفي وراء برود ملامحها عالمًا داخليًّا مضطربًا لا يُفصح عن نفسه بسهولة.

بحركات متعثّرة ومرتبكة تتابع الكاميرا المحمولة باليد مارينا، وهو ما يعكسُ حالتها النفسيَّة المضطربة. معها ينغمس المشاهد في عالمٍ غريبٍ ومبهم، في قريةٍ تبدو وكأنَّها خارج الزمن، مليئةٍ بالتعاويذ الغامضة التي تتمتِم بها نساءٌ مسنَّاتٌ بجلودٍ مترهّلة. هذا المكان المجهول يعيش سكّانه من حرفةٍ غير مألوفة: صناعة الدمى من الخبز الممضوغ.

في جنازة زويا، تتقاطعُ مسارات مارينا مع شقيقتيها الأخريين. التشابه الجسدي بينهنَّ ليس عاديًا، بل مذهلًا، كما لو كنَّ ظلالًا لصورةٍ واحدة، ممَّا يثير تساؤلاتٍ تتجاوز مسألة الهويَّة الفرديَّة وصولًا إلى جوهر التفرُّد ذاته. نرى لمحةً قصيرةً لصورة زويا المعلَّقة على الصليب، التي تكشفُ عن ملامحَ تكاد تكون نسخةً طبق الأصل من وجه مارينا. هذا التشابه المريب يعيدُ إلى الأذهان حديث فولوديا في مشهد الحانة عن الاستنساخ، ذلك الافتراض الذي بدا آنذاك كأنه محض خيال علمي أو تهويم سكران، يتحوّل الآن إلى احتمال مقلق، يطارد وعي مارينا كظلٍّ لا سبيل إلى الفرار منه.

في حديثه، يدّعي فولوديا أنَّه عالم وراثةٍ يعمل في مختبر سرّي للاستنساخ. يشرح بأسلوبٍ غامضٍ كيفية إنشاء "التوائم" في حاضناتٍ مخصَّصة تُنظِّمها برامج خاصَّة تحت إشراف مؤسّسات على غرار جهاز الاستخبارات السوفييتيَّة المعروف بـ «لجنة أمن الدولة» (KGB) ووزارة الدفاع الروسيّة. ويشير إلى مقالٍ صحفيٍّ حديثٍ حول "قرية التوائم" في موردوفيا، وهي منطقة مكتظَّةٌ بالتوائم والثلاثيات والأرباع، الذين يعانون جميعًا من الأمراض. وعلى بعد مسافةٍ قليلةٍ من تلك القرية توجدُ منشأة تُعرف بـ"سويوز 4"، وهي إحدى أولى الحاضنات السوفيتيّة.

يشرح فولوديا أنَّ هناك ثلاثة أنواعٍ من الاستنساخ: النوع M، والنوع F، والنوع 4. والنوع الأخير، الذي يعتمدُ على دمج أربع مجموعات كروموسوميّة في خليّة واحدة لإنتاج أربعة استنساخات، يُعتبر الأكثرَ استقرارًا والأقلَّ عرضةً للأخطاء، مع أعلى معدَّل للبقاء على قيد الحياة. إلَّا أنَّ التساؤل الأكبر يبقى: هل مارينا وشقيقاتها هنَّ فعلًا نتاج مشروعِ استنساخٍ من النوع 4؟ أم أنَّ هذا التطابق بينهنَّ مجرَّد مصادفةٍ بيولوجيَّة؟ بدلًا من تقديم إجابةٍ واضحة، يترك الفيلم هذا السؤال مفتوحًا، ليزيد من تعقيد شبكة الغموض التي تحيطُ بالسرد.

إنَّ حضورَ النساء المسنَّات في الفيلم، رغم افتقاره للذوق والعاطفة، يؤدِّي وظيفةً كوراليَّةً عميقةً ترتبطُ بالسياقات المسرحيّة الكلاسيكيّة على نحوٍ عميق. هذا الوجود يتمثَّلُ في محاكاةٍ ساخرةٍ للإستراتيجيّة الكوراليَّة في المسرحيَّات اليونانيَّة القديمة، حيث تتجلَّى الأصوات الطقوسيّة والمونوتونيّة للنساء في استدعاءٍ مريب للعجائز الغامضات في مسرحية «ماكبث» لشكسبير.

تتجلَّى إحدى اللّحظات الكوميديّة السوداء عندما يتعرّض مارات (كونستانتين مورزينكو)، الذي يبدو أنَّه كان على علاقة مع زويا، للسخرية بسببِ عمله في "إصلاح" الدمى بطرق غريبة، حيث يخيط عضوًا ذكريًا مكان أنف إحدى الدمى. هذه اللحظة تتحوَّلُ إلى مشهدٍ ساخرٍ ومرعب: تشرعُ النساء المسنّات، وهنَّ يتصرَّفن كالأطفال في لعبٍ هزلي غير مفهوم، في تقاذفِ أجزاء مفكّكة من الدمى على بعضهنَّ بعضًا. هذا العبث يعكس زوال معاني النظام أو العقلانيَّة في العالم الذي يعيش فيه هؤلاء الأفراد.

تظهر حالة مرضيَّة لدى إحدى الأخوات، ممّا يثير التساؤل عن صحة افتراض فولوديا بشأن طول عمر النوع 4. في هذا السّياق، يتولَّى مارات دور المنقذ، ويحمل مجموعة من الدمى بعيدًا عن أيدي النساء المسنّات اللاتي أسأن العبث بها. يردّد لنفسه عبارة "القذارة" بنبرة تملؤها السخرية واليأس، قبل أن يصل إلى مكان مهجور كأنَّه قبوٌ أو إسطبل. هناك، يضع مارات الدمى جانبًا كما لو كانت عائلته، وقبل أن يغرق في حالةٍ من السُّكر، يهمسُ لإحدى الدمى قائلًا: «كلّ شيء سيكون على ما يرامٍ يا زويا». ولكنَّه عندما يستيقظ، يكتشفُ أنَّ الدمى قد تمزَّقت وأكلتها الكلاب، في مشهد يرسِّخ الشعور بالفقد والعبثيَّة.

لاحقًا، تكشفُ إحدى المحادثاتِ بينَ الأخواتِ عنْ صراعاتٍ خفيَّةٍ بينَ مارينا وزويا. نعلمُ أنَّ مارينا لمْ تغفر لزويا، لكنَّ التّفاصيلَ بقيتْ غامضة. تفصحُ مارّينا عنْ ألمها قائلةً إنَّها لمْ تستطعْ الصفحَ «لأنّني كنتُ في المستشفى ثلاثةَ أشهر... لأنَّني كنتُ أتعفَّنُ في المحطة... الإجهاض، والأسوأ - قطعوا أجزاءً منَ الجنينِ». تعاني هذهِ الكلمات، مثلَ باقي أحداثِ الفيلم، منْ وجودِ غموضٍ وعدمِ وضوحٍ في المعاني.

تشيرُ مارينا إلى حلمٍ رأته في اللّيلة السابقة تظهرُ فيه زويا وهي تسلِّمها جرَّةً مملوءةً بالترابِ بدلًا من جرَّة المربّى التي طلبتها. ترفض مارينا تفسير الحلم كنتاجٍ لشعورٍ بالذنب، ولكنَّنا نجدها في المشهد التالي، وهي في حالة انكسار، تبكي بحرقةٍ وتردِّد: «زويا، زويانكا... اغفري لي». هذا المشهد يلقي بظلالٍ من الغموضِ على العلاقةِ بين الأختين ويعمِّق التساؤل حول ماضيهما وألمِهما المشترك.

تجسِّدُ النّساءُ المسنّاتُ اللاتي يطحنَّ الخبزَ صورةً كوراليّةً تعكسُ الحزنَ الجمعيَّ على وفاة زويا، صانعة الدمى التي حملتْ معها سرَّ تشكيل وجوهها. يصرخُ مارات مؤكِّدًا أنَّ زويا تركتْ هذا السرَّ له، فقد كانت الوحيدةَ القادرةَ على تشكيلِ وجوهِ الدمى، بينما الآخرونَ لا يتقنونَ سوى خياطةِ ملابسها وأطرافها وطحنِ الخبزِ. تقترحُ مارينا على مارات استخدامَ قالبٍ لصنعِ الوجوه، مشيرةً إلى إمكانيَّةِ استخدامِ وجهِ طفلٍ لتحقيقِ ذلكَ. غير أنَّ هذا الأمر يغدو معقَّدًا مع عدم وجود طفلٍ في القرية. ومع ذلكَ ينجحُ مارات في العثورِ على طفلٍ في الشارعِ ويطلبُ منْ والدهِ الإذن بالاستعانة بابنهِ لصنع قناع. يرفضُ الأبُ بشدةٍ ويضربُ مارات الذي يرفعُ نظرهُ إلى السماء قائلًا: «إذًا نحنُ على قيد الحياة... انظري إلينا يا زويكا».

تتجلى الرمزية في هذا المشهد بقوة، لكنها تظلّ مغلّفة بالغموض، كأنها لغزٌ يُلمَح ولا يُفكك. زويا، أو "زويكا"، التي لا تظهر أبدًا على الشاشة، تحضر في السرد كروحٍ هائمة، كشبحٍ يطارد القصة دون أن يتجسّد فعليًا. إنها كيانٌ غائب، لكنه مؤثر، يكاد يكون انعكاسًا لوجود إلهٍ خفيّ، يراقب العالم من بعيد، غير مكترثٍ بسعادة البشر أو عذابهم. في موتها، أو ربما في غيابها المطلق، يبرز إحساسٌ مقلق بانفصال الإنسان عن الإله، كفراغٍ لا يُملأ، أو كدعوةٍ للتساؤل عمّا إذا كان هناك من ينظر إلى العالم حقًا، أم أن النظرة نفسها مجرّد وهم.

حالة العزلة هذه تستدعي إلى الأذهان الكوابيس التي تشكّل جوهر الديستوبيات الأدبية، كما في «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي و«المسلخ رقم 5» لكورت فونيغوت، حيث يتحوّل الوجود البشري إلى سلسلة من العبث والفقدان واللاجدوى. لكنها أيضًا تستحضر رمزية «غرنيكا» لبيكاسو، حيث يُترجم الغياب الإلهي إلى استعارة بصرية للصراع الإنساني: وجوه مكدّرة ترفع صرخاتها إلى الفراغ، مصابيح ضوء كعيون مفتوحة على مأساة لا خلاص منها، وكأنها شظايا ضميرٍ ضائع، يلمع للحظة قبل أن ينطفئ.

النساء المسنَّات، بجلودهنَّ المترهِّلة وأفعالهنَّ الغامضة، يمثِّلن القيمَ العتيقة التي عفا عليها الزمن، ويعكس وجودهنَّ القطيعة ما بين الماضي والحاضر، حيث يصبحُ فقدان زويا رمزًا لمحوِ سرِّ الخلق. في هذا السياق، تشبه زويا الإله الذي كان يملك القدرة الحصريَّة على منح الفرديّة. ومع موتها تُمحى تلك القدرة، ويصبح البشر مثل الدمى: نسخٌ متكرِّرةٌ تفتقرُ إلى التميُّز وتُنتجُ بشكلٍ آليٍّ لملءِ هذا العالم.

في محاولة لاستعادة هذا السرّ، يتَّخذ مارات خطوةً تبدو كلفتُها فدائيّة، ولكنَّه ينتهي بالإنتحار. على عكس الفداء الديني، فإنَّ موته لا يخلّص البشرية من الجهل وفقدان الإيمان، بل يُظهر نوعًا من الاحتجاج ضدَّ فناء الحياة وعبثيَّة الوجود. يشير الفيلم إلى أنَّ الخطر الحقيقي يكمن في "علمنة" الخيال وتحويله إلى أداةٍ فارغةٍ من الإلهام. ومع ذلك، فإنَّ انتحار مارات لا يأتي بوصفه تعبيرًا عن الحرية، ففي أحد المشاهد يقول رجل مسنّ: «إنّ الانتحار ليس سوى مسكِّن مؤقّت، خيار مفروض في لعبة الحياة، حيث الهويَّة في حالة تغيُّر مستمر»، مثيرًا بذلك التساؤل حول الإنتحار كخيارٍ للفرار من معاناة الحياة. إلَّا أنَّ الإجابة تبقى مبهمة.

ينتهي الفيلم بنبرةٍ من الإغلاقِ المثير وغير المكتمل. تحرقُ مارينا الدمى عند قبر زويا، في إشارة إلى نهايةِ دورة الخلق. يُرسَل فولوديا إلى ساحة حرب "للتكفير عن خطاياه"، ويموت أوليغ في حادثةٍ أثناء محاولةِ إنقاذ كلب. يظهر لصٌّ يأخذ ساعة أوليغ ويهرب، بينما تتبعه الكاميرا المحمولة عبر ضبابٍ رماديٍّ قبل أن تتوقّف. بهذا الإغلاق الإشكالي، يتجلَّى الفيلم كمرآةٍ للحياة، حيث الأسئلة تظلُّ مفتوحة، والمعاني غير مكتملة.

مشهدُ احراقِ الدمى الذي تتسبَّب فيه مارينا هو مشهدٌ مرعبٌ يحمل إشاراتٍ ضمنيَّةً إلى ضرورة الهروب من المسار التاريخي الواحد الذي يثقلنا بالعارِ والذنب، والذي غالبًا ما ينسى أن يعلِّمنا كيفيِّة تحمُّل تلك الأعباء. في هذا السياق، يصبح النسيان، الذي تعبِّر عنه "الفودكا"، هو المسكِّن الوحيد المتاح. يُصوَّرُ هذا الهروب بطريقةٍ مستفزَّةٍ للغاية، حيث يظهرُ كمحاكاةٍ تربط بين الظلم والسخرية.

النساء المسنّات، في سلوكهنَّ المتَّسم بالعنف والمشحون بالرمزية، يقمنَ برمي الأشياء على بعضهنَّ البعض، في فعلٍ يكشفُ عن طبقاتٍ عميقةٍ مكبوتةٍ من الذاكرة والوعي اللذين، على الرغم من تحجُّمهما، لا يُقضى عليهما تمامًا. يظهر الإيثار السطحي الذي يتبنَّاه فولوديا، من خلال "القتال من أجل الوطن"، كإغراءٍ زائفٍ يعكسُ التهكُّم على القيم التي تُزيَّف. أمَّا حب أوليغ للكلاب واستمرار الرموز الكلبية في حياته، فيحيل إلى الفنان الروسي «أوليغ كوليك»، الذي تتكرّر في أعماله مواضيع انهيار التواصل والعلاقات. مع اقتراب نهاية الفيلم، يسود صمتٌ قاتمٌ بينما تبدأ التترات بالتعاقب مصحوبةً بأصواتٍ عابرةٍ تذكِّرنا بأصوات المسرح (مثل صرير الكراسي، السعال العارض أو العطسة) مما يُشعرُ الجمهور بأنّه أصبح جزءًا من تجربة الفيلم، أو العكس.

يمكننا القول إنَّ فيلم «4» يعكس تجربةً وجوديَّةً تحت وطأة النسيان، حيث تتحرَّك الشخصياتُ في عالمٍ يطغى عليه التفكُّك والضياع. من خلال بنيةٍ تتحدَّى التوقُّعات التقليديَّة للسينما، يكشفُ الفيلم عن صراع مستمرٍّ مع الهويَّة في عالمٍ يرفضُ الثبات. في هذا السياق، يتماهى الفيلم مع فكرة الفوضى الوجودية، التي تتمثَّل في تآكل الأخلاقيات والبحث عن المعنى وسط السواد واللامبالاة المحيطَينِ بالشخصيات. إنَّ عدم القدرة على التوصُّل إلى إجاباتٍ قاطعة، والسخرية التي تسري في كلِّ تفاصيل السرد، تعكس بدقِّة حالةَ الوجود الذي يحكمه النسيان، حيثُ يُكبح الفهم، وتظلُّ الأسئلة معلَّقة، في حوار مفتوحٍ مع العدم. لا يقدم فيلم «4» أجوبةً واضحةً عن الهويَّة أو معنى الوجود، بل يضعُ المشاهدَ أمام واقعٍ مُتشظٍّ يبقى دون تفسيرٍ كامل، ممَّا يجعل الفيلم في طليعة الأعمال التي تفتح باب التأمُّل الفلسفي في الوجود والحياة الإنسانيَّة في عصرٍ مليءٍ بالتناقضاتِ والفوضى.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى