دائمًا ما ارتبط الفن بفكرة تفكيك المعاني والسعي في إعادة تعريفها، ولم يَسْلَم الفن في ذاته من ذلك بالتأكيد، فتجد -من جانب- رسائلَ حب وامتنان، وتجد أيضًا قصصًا تحكي عن فنانين غارقين في ذواتهم ويخلصون في تدميرها.
Pink Floyd – The Wall «بينك فلويد - الجدار»
الدور الذي تلعبه السينما في تشكيل خيالاتنا المرئية مثير للاهتمام. ربما لا يمكنني تخمين كيف كنت لأتخيل ما أقرأ من الخيال، أو ماذا بالضبط كنت سأرى حين أغمض عينيّ وأستمع إلى الموسيقى وأشرد معها لو لم أتعرض إلى الفن السينمائي أولًا.
«بينك فلويد» فرقة موسيقية قائمة في أساسها على التجريب، واستمرارية التجديد في مضمون كل قطعة من حيث الموضوعات والكلمات وخدمتها موسيقيًا بأشكال مبتكرة فيها من الفجاجة شيء. في ألبوم Wish You Were Here تجد مرثيةً لصديقهم وشريكهم -أعضاء الفرقة- الذي يُعدّ من ضحايا الفن هو الآخر، وفي ألبوم Dark Side of The Moon تتناول الفرقة أفكار فلسفية مجردة في كل أغنية، فتجد أغنية عن المال وأخرى عن الوقت، ومن بين أعمالهم يميل ألبوم The Wall أكثر من غيره إلى السرد القصصي، فكتب «روجر واترز» -صاحب الرؤية في الفرقة وكاتب الأغاني- سيناريو فيلمٍ موسيقي أخرجه آلان باركر، حكى فيه الاثنان قصةَ فنان انعزل بنفسه وبنى حائطًا يفصله عن العالم.
يحكي فيلم The Wall «الجدار» (1982) عن «بينك»، فنان روك غارق في شخصية اختلقها بنفسه ولا يستطيع أن يكسر حدودها بعد الآن، فينعزل وحيدًا وينفصل تمامًا عن الواقع، وهو بالضبط ما يحكيه الألبوم، ولكنه هنا مدعوم بلُغة مرئية، تتناسب في حِدّتها مع الموسيقى. يحكي روجر واترز دائمًا عن تجارب الفرقة الذاتية، وهنا هو مشغول بفكرة تشكيك الفنان في صدق ما يصنعه من فن، وكيف قد يتفاعل سلبيًا مع تلك الأفكار.
الجدير بالاهتمام في هذا الألبوم هو ابتكاره على مستوى السرد، رغم أن الوسيط ليس فنًا قصصيًا في الأساس. كان من الممكن أن يكون السرد هنا على لسان راوٍ بشكل مسرحي، ولكنه لم يعمل على سرد تقليدي، بل اعتمد باستمرار على خيال ينجح فقط في إيصال الإيحاء من القصة، ولذلك يستطيع المستمع أن يستنتج القصة بشيء من التأمل، ولذلك أيضًا يُعدّ تناول الألبوم سينمائيًا إضافةً حقيقية. لا يستغرق الفيلم في رسم خط واضح للحكاية، ولكنه يضع التعبير عن أسلوب الألبوم المربك أولويةً، ثم ينطلق في صياغة رؤيته للقصة.
يخسر «بينك» والده في الحرب، فتتعلق والدته به وبفكرة حمايته لدرجة الهوس، وربما تكون تلك هي أول أحجار الحائط، الذي يتطور بالتدريج. يلتحق «بينك» بالمدرسة، وتصوير تلك المرحلة سوداوي مثل بقية الفيلم، حيث يتحول كل الأطفال إلى آلات، نسخ مماثلة، كما يقدّم الفيلم أيضًا فشل «بينك» العاطفي وتصوراته المضللة عن الحب. يجد «بينك» ضالته في التمرد والفن، وبعد ذلك يكتشف أن الفن قد تَحَوّل إلى لعنة. يجد نفسه حبيسَ مرحلةٍ محددة من رحلته مع الموسيقى، ينسحق تمامًا بداخلها ولا يمتلك الجرأة على التجديد، فيسارع في بناء الحائط. لا يتكلم، فقد تَحَوّل إلى آلة ليست صنيعة المدرسة، ولكنه فعل ذلك بنفسه. يغرق فقط في التبلد والعدمية، حتى يمتلك الجرأة ليواجه نفسه في أغنية بعنوان «المحاكمة»، ومعها ينكسر الحائط تدريجيًا، وتنكسر حلقة تدمير الذات، أيضًا من خلال الفن.
«يا مضروبين بالفن يا احنا
يا سهرانين منه الليالي
مانسلاهوش ولو اندبحنا
ده الفن عند صحابه غالي"
عندما أنشغلُ بفكرة أن الفن يمتلك أبعادًا غير التصورات الأفلاطونية المكررة بعض الشيء، أتذكر تلك الأبيات للشاعر صلاح جاهين، التي يصور فيها علاقته بالفن على أنها علاقة تَعَلُّق غير صحي، فُتُون لا يسعك الفرار منه. مرَّ فن جاهين بتحولات تعكس تحولات شخصه؛ عبّر كثيرًا في شعره عن تجربته مع الاكتئاب وعن إحباطات التجربة الناصرية التي عايشها وآمن بها، وشعر معها بالخذلان.
Inside Llewyn Davis «داخل لوين ديفيس»
إشكالية أن تصنع فنًا ولا تتم معه عملية التواصل مظلمة بعض الشيء، حتى ولو كان الفن قد أدى واجبه كأداة للتعبير، من دون أن يتلقاه أحد على الجهة الأخرى، فربما الفن لم يكتمل بعد، خصوصًا لو كان الفنان متوسط الموهبة، لا يملك شيئًا شديد الاستثنائية، ولكنه لا يستطيع أن يستخدم أي لغات أخرى، ويَصدُق حقًا لفنه.. أليس ذلك بكافٍ؟
سينما الأخوين «كوين» تتسم بحس ساخر في أحداثها ودرجة من البلاهة على سطح شخصياتها، وفي إطار دراسة شخصية الفنان وتعقيداته، وتناوُل الفن بوصفه كيانًا مخيفًا، في ظني قد تَفَوَّق الأخوان على نفسهما في Inside Llewyn Davis «داخل لوين ديفيس» (2013)، بعدما تناولا موضوعات مشابهة في فيلمهما Barton Fink «بارتون فينك»، فإن فيلمنا لا يستغرق كثيرًا في الرمز والمبالغة، ولكنه يضع شخصيته أولويةً.
نبدأ من حيث سننتهي: «لوين» مغني موسيقى «فولك»، يسعى وراء الفُرَص بخطوات متخبطة، يدور في دوائر لانهائية، وتنكشف خلفية ذلك الرجل الوحيد، ذي الطبع المتعجرف الساخر، الذي فقد صديقه وشريكه، وفَقَدَ معه شغفه للموسيقى، ثم للحياة، فأصبح هامدًا متبلدًا كما نراه، لا يقف ليلتقط أنفاسه، مشردًا بلا مأوى، لا ينتمي إلى مكان، ولا ينام، يحاول -في إرهاق مميت- أن يُحيي ذلك الشغف مجددًا، ويسعى وراء تجربة أداء، ولكن الفن لا يمد له يد العون. ننتهي من حيث بدأنا: لوين مغني فولك، يسعى وراء الفرص بخطوات متخبطة، يدور في دوائر لانهائية.
في ظني، علاقة لوين بفنه ليست بالضبط كما يُعرِّفها بنفسه بشكل مادي بحت، وربما يستخدم ذلك التعريف ليلزم نفسه بكيان يدرك لاجدواه المادي، ولكن اللحظات الوحيدة التي ترى فيها لوين فيه شيء من الحياة المنعكسة في صوته وملامحه، هي اللحظات التي يغني فيها، وما دون ذلك هو أشبه بشبح.
لوين تائه ومشتت بين الشعور بالفقد والوحدة وكراهية الذات، ويختزل كل ذلك في الإرهاق، وربما هو مُحِقّ في ذلك، ولا يدرك كيف بالضبط عليه أن يختار بعد الآن، أو حتى كيف عليه أن يشعر، ولا يجد ملجأ إلا في الفن، وذلك الباب أيضًا يأبى أن يتيح له الفرصة، فلا تتوقف الدائرة، أو ينكسر الحائط.
إن تناوُل الفن في القصتين ليس قائمًا على تمجيده والإطراء عليه، ولكنه مشغول بدراسة علاقة الفنان بفنه، وهي علاقة شديدة التركيب وأبعد ما تكون عن الاستقرار، تتغير باستمرار خلال رحلته، بين مرحلة وأخرى، وربما بين يوم وليلة، كأداة للتعبير، يعجز أحيانًا عن تطويعها، مغمورًا بسيل من المشاعر لا يمتلك القدرة على استيعابها ثم صياغتها. ينفصل أحيانًا عن فنه السابق ويجد فيه تمثيلًا له في لحظات، يصطدم بصراع يعرف فيه الفن الصادق ويعيد تعريفه مرارًا وتكرارًا، تستنزفه أحيانًا صناعة الفن وتستنزفه لحظات حين تستعصي عليه صناعته، وتستمر النقمات ما بين إحباطات العملية الإبداعية والتشكيك في صدق دوافعها، ما بين حاجة النفس الشديدة إلى ممارسة الفن وحاجة الكبرياء التعيسة إلى خروج الفن عن الحدود الشخصية، ولكن ما أجمل شاعرية اللحظات التي يكافئ الفن فيها صاحبه! لا يخرج لوين عن تبلّده إلا حينما يعزف ويغني، تلك فقط هي اللحظات التي يتجرد فيها من ركوده، ولولا إخلاص «بينك» لفنه لما كسر الحائط، وما أعذب تلك النسمات!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش