«فلورا والابن»: الخلاص بالموسيقى

أ. محمد الكرامي
و
February 6, 2025

يتمتَّع الكاتب والمخرج الأيرلندي جون كارني بسجلٍّ حافلٍ من الأعمال الدرامية الموسيقية الناجحة في مسيرته السينمائية، ونذكرُ منها «مرة واحدة» (Once - 2007) و«البدء من جديد» (Begin Again - 2013) و«شارعُ الغناء» (Sing Street - 2016)، وهي أفلامٌ تدور حول أشخاصٍ يتواصلون فيما بينهم عبر الموسيقى، ويقعون في حب الأغنية، والأحلام، وفي حبِّ بعضهم بعضًا. ومجدَّدًا يستكشف كارني في فيلمه «فلورا والابن» (Flora and Son - 2023) سحر الموسيقى وقدرتِها على توحيد المشاعر رغم المسافات الجغرافيَّة والخلافات العاطفية. قد لا يرقى فيلمه الأخير إلى مستوى أعماله السابقة، خاصةً من حيث الأغاني الجديدة التي تبدو أقلَّ تأثيرًا مقارنةً بتلك التي ألَّفها غلين هانسارد وماركيتا إيرغلوفا في فيلم «مرة واحدة»، ومع ذلك يظلُّ السردُ القصصي محتفظًا بحميميَّة أفلام كارني المعهودة.

تتمحور هذه الدراما الموسيقية حول فلورا (إيف هيوسون)، وهي أمٌّ عازبةٌ في الثلاثينيات من عمرها، تعيش في دبلن مع ابنها المتمرد ماكس (أورين كينلان)، البالغ من العمر 14 عامًا. فلورا، التي تجد متعتها في النبيذ الأبيض والنوادي الليلية، تكافح للتأقلم مع حياتها بعد انفصالها عن إيان (جاك رينور)، الذي تعطَّلت مسيرته الموسيقية عقب خروجه من فرقته. وفي محاولة لتدبير أمورها، تعمل فلورا جليسة أطفالٍ بدوام جزئي، تتقاسم شقَّةً مليئةً بالفوضى مع ابنها المراهق ماكس الذي يريدُ أن يصبح مغني راب، لكنَّه يواجهُ مشكلاتٍ مستمرَّةً بسبب السرقة. وبعد توصيةِ ضابط الشرطة لأمه بإيجاد هوايةٍ تشغله عن مخالفة القانون، تعثر فلورا على غيتار في كومةِ قمامة، وتقوم بتجديده وإهدائه لابنها كي يكون هوايةً جديدةً يمارسها، لكنَّه يرفض الفكرة. يعرف ماكس أنَّه عبءٌ على والديه ويستاء منهما بسبب ذلك. في نهاية الليلة، ترى فلورا مسابقةً للغناء على شاشة التلفزيون، وتقرِّر أن تتعلم هي بنفسها الموسيقى بغية الخلاص من دوامة العبث التي تعيش فيها. تكتشف فلورا القوَّة السحريَّة للموسيقى عندما تبدأ في تلقِّي دروس الجيتار عبر الإنترنت مع المعلِّم جيف (جوزيف جوردون ليفيت) المقيم في لوس أنجلوس. تتوطد علاقتها بالمدرِّس، ويكشف الأخير لها عن حياته الشخصية، ويصبح حافزًا لفلورا وابنها لتكوين رابطةٍ لم تكن موجودةً من قبل. اهتمام فلورا الجديد بالموسيقى يفتح عينيها على رغبة ماكس في أن يصبح مغني راب ودي جي. يهوى ماكس الموسيقى الإلكترونيَّة، وعندما تستمع أمه إلى بعض إبداعاته، تنبهر به، غير مصدِّقةً أنَّ ابنها يتمتَّع بمثل هذه الإمكانات.

وهكذا، يتنقَّل الفيلم بين الواقعيَّة الاجتماعيَّة والواقعيَّة السحريَّة، حيث يتجسَّد هذا التفاعل بوضوحٍ من خلال خروج جيف من شاشة الكمبيوتر ليصبح جزءًا من عالم فلورا. وتلعب الموسيقى دورًا محوريًا، إذ تتحوَّل، بشكلٍ غير متوقَّع، إلى البلسم الذي يداوي جراح الشخصيَّات العاطفيَّة العميقة، مما يضفي بُعدًا مميزًا على مسار الأحداث.

على مستوى الشخصيات، فإنَّ موسيقيي كارني ليسوا محبوبين تمامًا. ماكس شقي، وأمه لصَّة وبذيئة اللسان، وتُبدي ندمها على إنجابه أكثرَ من مرة، سواء في وجهه أو خلف ظهره. إنَّهما يتبادلان الإهانات طوال الوقت، ولكن سرعان ما يجعلنا كارني نرغب في الإمساك بورقةٍ وقلمٍ كي نشرع في تدوين كلماتِ أغانٍ خاصة بنا، إذ يكاد يكون من المستحيل مقاومة هذه الرغبة في الإبداع. من هنا تأخذ الموسيقى دور البطولة، وتسمح ببناء جسورٍ للتواصلِ بين هواة الموسيقى مهما كانت الخلافات. إن الاهتمام الذي يكنَّانه لبعضهما غير معلن، ولكنَّه يتعاظم أكثر فأكثر مع تقدم الحبكة، حيث يرتبط الاثنان بالموسيقى.

في واحدٍ من أقوى مَشاهد الفيلم، تراقب فلورا ابنها ماكس من النافذة الخلفيَّة الصغيرة من قاعة محكمة الأحداث، وتفكر في نقله إلى مدينة لوس أنجلوس، إذ يُحاكَم بتهمة السرقة. وبينما تقف هي لوحدها إلى جانبه، لم يتكلَّف والده المنفصل عناء الحضور. يحتدم الصراع، من دون أن يتم تصويرها على أنها أنانيَّة لرغبتها في الابتعاد عن مشكلاتها. ولكنَّها في النهاية تدخلُ المحكمة وتدافع عن ابنها، لدرجة أنَّها ستدفع جميع ما ادَّخرته في حياتها من أجل ماكس، ومن هنا تأخذ الموسيقى مهمَّة بناءِ أواصر عائليَّةٍ متينةٍ وإيجاد شغفٍ مشترك. تتعلَّم فلورا دروس العزف، ويقضي ابنها كثيرًا من وقته في إنتاج الإيقاعات على جهاز الكمبيوتر الخاص به. شيئًا فشيئًا، تجد هذه العائلة المفكَّكة إيقاعها الخاص، وستمنح جمهورها لحظةً من الراحة، مع متعة مشاهدة ولادة حبِّ الأبناء من جديد.

تجعل الموسيقى شخصيات كارني أكثر تصالحًا مع أنفسهم، مع عائلاتهم ومع العالم. وعلى ذات المنوال، تستعيدُ العازفة في فيلم «مرة واحدة» علاقتها مع زوجها، وتجد الطفلة ذاتها في فيلم «البدء من جديد» ويحقق مارك روفالو ثقته بنفسه ويسترجع علاقته مع زوجته؛ كذلك تفعل فلورا في فيلمه الأخير، حيث تجد مسارًا مختلفًا لحكايتها وتصالحًا ذاتيًا ووفاقًا عائليًا. في البداية تقول لصديقتها: «لا أستطيع الاستمرار هكذا. لا يمكن أن تكون هذه هي حياتي. أعيش في بيت صغير مع ابن يكرهني ووالده الذي لا يراني. لا يمكن أن تكون هذه هي حكايتي». وفي النهاية، تجد نفسها أكثر رضًا وسلامًا، إذ يتجسد في هذه التجربة حب الموسيقى وقوتها العجيبة في الشفاء، مما يغسلُ جراحها ويعيد لها التوازن.

يكتبُ كارني رسائل حب إلى المدن في أفلامه، فبينما يُعدُّ فيلم «البدء من جديد» رسالة حبٍّ إلى نيويورك، فإنّ «فلورا والابن» يمثل بالتأكيد رسالة حب موجهة إلى دبلن. يتمسك كارني بجذوره الأيرلندية من خلال تصوير مسقط رأسه دبلن في أفلامه «مرة واحدة» و«شارع الغناء» و«فلورا والابن»، حيث يجد أناسٌ حقيقيُّونَ بعض الخلاص في الموسيقى المحليَّة. ومن الرائع أن نرى إصراره على التقاط جمال المدينة حتى في الجانب الأقل بريقًا لمدينة دبلن. يتعزز هذا الحب في المشهد النهائي للكاميرا التي ترتفع أعلى فأعلى مصورةً الناس والمدينة. في النهاية، مهما بدت المدينة قاسيةً في أفلامه فإنَّها لا تدهس أبطاله، بل تُعينهم على تصحيح مسارات حياتهم من خلال تعاون مستمر يُقدَّم من طرفِ الموسيقيِّين المتجولين في الشارع، والذين لا يترددون في مساعدة زميلٍ موسيقيٍّ مغمورٍ لم يُكتَشَف بعد. وهكذا، رغم أنَّنا لا نعرف ما سيحدث للشخصيات في النهاية، إلا أن المطاف ينتهي بنا إلى أن نحبها، ونؤمن معها بقدرةِ الموسيقى على الخلاص.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى