التجربة السينمائية في المملكة جديدة نسبيًا، وأقول نسبيًا هنا لأنني لا أفترض أن نعيد اختراع العجلة من جديد في فضاء ممتد منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، مرّ بتحولات وتغيرات من الصعب الإحاطة بها، وهذه الطفرة في صناعة الأفلام في المملكة اليوم من الطفرات الرائعة التي تستحق الاحتفاء بلا شك، ولكنه احتفاء بعين ناقدة لا مجرد احتفاء وتصفيق عبثي، إذ لا أفترض أن جدة التجربة يعني أن نتقبل أعمالاً بإشكاليات وأخطاء بدائية أو صارخة، وهذا ما سأحاول الإشارة إليه في هذه القراءة، أي الإشارة إلى الهفوات والإشكالات المكررة في الأفلام السعودية التي أُنتجت مؤخرًا، وأعتقد أنه من المهم تأملها لنصل إلى أفلام سعودية ناجحة ولها قيمتها.
أول هذه الإشكاليات في تقديري ترتبط بالموضوعات التي تحاول السينما السعودية طرقها بهاجس التوثيق ورغبة المخرجين والكُتّاب إلى تدارك الوقت الذي فاتهم قبل أن تصبح صناعة الأفلام ممكّنة، فنجد أن الرغبة بتوثيق أحداث أو أنماط حياة موضوعٌ متناوَل، ونجد هذه النزعة في فيلمَي «حد الطار» و«الهامور ح.ع»، فتناول الفيلم الأول تفاصيل الحياة في الحارات في الثمانينيات والتسعينيات، وتناول الفيلم الثاني إحدى القضايا الاجتماعية والاقتصادية الشهيرة المرتبطة بالمساهمات الوهمية، والفضاء الاجتماعي في التسعينيات، وسأتحدث هنا عن فيلم «حد الطار» بشيء من التفصيل لإيصال الفكرة.
القصة الرئيسة في فيلم «حد الطار» جيدة، وقابلة لتناول عميق ومفصل ومميز، أي قصة التباين داخل المجتمع سواء على مستوى العائلات أو المهن ونحوها، فتناول الفيلم فكرة «ولد السياف» والذي يحاول الزواج بـ«بنت الطقاقة» لكن عائلة ولد السياف تقف ضد هذا الزواج بسبب ازدرائها لفكرة أن أم البنت «تطق في الأعراس»، وهذا موضوع إشكالي قابل لأن يكون قصة بديعة لفيلم، إلا أن الأمر لم يسر بهذا الطريق، فأغرق الفيلم في تفاصيل حياة المجتمع في الحارات، وكأنه فيلم وثائقي، على حساب القصة الرئيسة التي غابت وحضرت دون تطور تحتمله القصة، فالفيلم قد ينجح بوصفه فيلمًا توثيقيًا للحياة في تلك الحقبة، لكنه لم يقدم رؤية درامية تحتملها القصة، فغاب الخط الرئيس للفيلم في تفاصيل وخطوط فرعية توثيقية للحياة في ذلك الوقت، والأمر نفسه حدث في فيلم «الهامور.ح.ع» وإن لم تغب القصة الرئيسة، فقد كان حضورها طاغيًا، إلا أن هاجس توثيق قضايا التسعينيات الاجتماعية كان حاضرًا في الفيلم بصورة صارخة.
الإشكالية الثانية تتعلق بمحاولة تناول عدة قضايا في الفيلم، بحيث يشعر المُشاهد أن هناك قائمة قضايا وموضوعات يريد أن يتطرق إليها الكاتب أو المخرج، حتى لو كانت هذه القضايا والموضوعات خارج سياق الفيلم، ونجد هذه الإشكالية في فيلمَي «ناقة» و«أغنية الغراب»، وهذه أزمة كبيرة في تقديري، أن يشعر صنّاع السينما في المملكة أنهم بحاجة إلى قول آرائهم في قضايا اجتماعية مختلفة ومتباينة من الصحوة وسماع الأغاني إلى الحياة السرية في المدن، ومن تمكين المرأة وشكل الأسرة إلى التباينات الطبقية والعنصرية، وهنا أنا لا أفترض عدم تناول هذه القضايا، وإنما أفترض ألا يكون لدى صنّاع السينما «قائمة مهام» تسيطر على تفكيرهم بصورة مسبقة بحيث يشعر المُشاهد أن هذه القضايا مقحمة على الفيلم لا جزء أصيل في تكوينه، ويمكننا رؤية هذا منذ فيلم «وجدة» لهيفاء المنصور (2012)، فكما تقول الأستاذة الروائية أمل الفاران، إن هذا الهاجس يداهم المبدع في الرواية واليوم في السينما في أعماله الأولى، إذ يشعر بحاجة ملحة إلى قول كل شيء، ثم سيكتشف أن لديه كثيرًا من الوقت لمعالجة الأفكار التي تراوده دون حشرها في فيلمه أو روايته الأولى.
وهنا سأحاول الحديث عن فيلم لم يقع في الإشكاليتين الأولى والثانية، وهو فيلم «مندوب الليل»، فالفيلم تطرّق إلى تفاصيل اجتماعية لكن بهاجس مرتبط بالعمل الفني، ولم تشعر طوال الفيلم أن تفاصيل القصة زائدة أو منفصلة عن القصة الرئيسة، تفاصيل مثل علاقة أبو فهد المريض بأقاربه، وعلاقة الأخ بأخته، وبيئة العمل الحالية، والمساعدات المرتبطة بالعلاج، والحياة الصاخبة في المدينة، والتباينات الطبقية، كل هذه الموضوعات كانت جزءًا أصيلاً من القصة الرئيسة، تساندها ولا تتطفل عليها، ربما لو حُذف شيء منها لاختل السيناريو، في مقابل أن القصة متماسكة، وتطورها واضح، والحوارات التي قُدِّمت عبرها جيدة، فلم يقع فيلم «مندوب الليل» في مأزق القضايا والتصورات المسبقة، أو الإغراق في تفاصيل توثيقية للحياة اليومية في الرياض.
الإشكالية الثالثة ترتبط بالقصص والسيناريو، فالسيناريو والقصص والحوارات في كثير من الأعمال السعودية، بل العربية عمومًا، سطحية ومفككة، أو مفتعلة ومبالغ بها، فمن النادر أن تجد فيلمًا تتناسب فيه الحوارات والسيناريو مع مستوى القصة أو الشخصيات، بل يكاد أن يكون بناء الشخصيات عشوائيًا في بعض الأعمال إن كان هناك بناء وتطور للشخصية، والتي تبدأ وتنتهي على حالها غالبًا، هذا حال تجاوز الإشكالية الكبرى في سيناريو الأفلام السعودية، وهو أن يصبح الفيلم مجموعة من «السكتشات» التي جُمعت لتصبح فيلمًا طويلاً على نحو قسري، وهذه أزمة مكررة، ويمكن رؤية إشكاليات القصة والسيناريو والشخصيات في أغلب الأفلام التي أُنتجت مؤخرًا.
الأهم من الحديث عن الإشكاليات والتحديات التي تواجه قطاع الأفلام في المملكة، هو تطور النقد الموجه إلى الأفلام المحلية وتقبله من صنّاع الأفلام، وفتح نقاشات مستمرة حول الأعمال المنتجة، فحداثة التجربة لا تعني حداثة المجال، ومن الطبيعي أن تكون البدايات صعبة ويشوبها كثير من التحديات، ولكن الوصول إلى مستوى مُرضٍ في صناعة السينما في المملكة يتطلب تطور النقد وتقبله وفتح نقاشات مستمرة حول الأعمال السينمائية، وهذا يعني أن يرتقي النقد إلى مستوى الصناعة، فالطفرة في قطاع السينما تتطلب أيضًا طفرة نقدية مواكبة، وهذا ليس بالأمر السهل، وربما ستتبلور خلال السنوات القليلة القادمة رؤية نقدية تستلهم التجارب والتراكمات العالمية، وتفهم التجربة المحلية وتتفاعل معها على ضوء مقومات إنتاجها وآفاق نجاحها بما يثري تجربة صناعة السينما وذائقة المتلقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش