مقالات

ديناميكيات القوة والحرية في «كود غياس»: رؤية في الصراع الإنساني

الحكاية الخيالية لـ«كود غياس» (2006-2008)، تكمن معضلات فلسفية وسياسية تختبر أفق الفكر والتأمل. يقدم العمل نسيجًا متشابكًا من الأسئلة حول ماهية العدالة وإمكانية التحرر في ظل نظام استعماري، مستعرضًا الديناميكيات النفسية والاجتماعية التي تسهم في تشكيل حياة الأفراد، حيث بدا فيها «كود غياس» كعمل أدبي رفيع يسبر أغوار الصراع الإنساني القديم بين الذات والآخر، بين السلطة والحرية، ويعيد تقييم الثوابت الأخلاقية في زمن الفوضى والأزمات.

العمل مزيج فريد من العناصر السياسية الاجتماعية والفلسفية، إذ يُقدم هذا العمل قصة تحمل في طياتها كثيرًا من الأبعاد التي هي محل تحليل بعيدًا عن الإخراج والإنتاج. «كود غياس» هو أنمي ياباني مكون من جزئين، من إخراج غورو تانيغوتشي وكتابة إيتشيرو أوكوتشي. تدور أحداثه حول تطلع أمير شاب يُدعى لولوتش لتغيير النظام القائم. تقع الأحداث في اليابان الواقعة تحت حُكم «الإمبراطورية البريتانية المقدسة» على غرار «بريطانيا العظمى» و«الإمبراطورية الرومانية المقدسة»، والعالم حينها واقعٌ تحت هيمنة ثلاث إمبراطوريات، هي بريطانيا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الفدرالي الصيني، لكن الصراع يجري في هذه القصة داخل مستعمرة اليابان، إذ إن «الإمبراطورية البريتانية المقدسة» بعد أن احتلت واستعمرت اليابان، أعادت تسميتها لـ«المنطقة الحادية عشرة»، وسُمّيَ اليابانيون بـ«الحادي عشريّين»، وجُرِّدوا من كامل حقوقهم وحرياتهم. 

الاستعمار وطبيعة الهيمنة 

 تحاول معظم القوى الاستعمارية فرضَ هيمنةٍ ثقافيّة، إذ إنّ هذه الأنظمة الاستعمارية تسعى لتشييد صروحٍ لثقافتها ومسحِ أيّ ثقافة متعلقة بالبلد المستعَمَر، ويتم ذلك من خلال القوة القمعيّة والثقافية والعسكرية، إذ تسعى في ذلك لإقصاء أي مخالِف لها. بعد غزو اليابان، اعتمدت الإمبراطورية تسميتها بالـ«المنطقة الحادية عشرة» لطمْس الهوية الثقافية للسكان الأصليين. ولا يسمح النظام «البريتاني» بتسمية السكان الأصليين باليابانيين، بل يسمّونهم «الحادي عشريّين»، والنظام واضح في قمع مَن يتفوه بكلمة «اليابان». هذا يشير إلى محاولةٍ ممنهجةٍ لطمس الهوية اليابانية، وهي عملية تعكس بوضوح نهجًا استعماريًا معترفًا به في التاريخ الاستعماري.

لكن طمس الهوية هذا لا يتم لكونِ طبيعةِ القوى الاستعمارية تفرز ثنائيةً، ما بين المُستعمِر والمُستعمَر. هذه الثنائية النابعة مِنَ الهيمنة الاقتصادية والثقافية والعسكرية تُنتِجُ عمليةً معاكسةً لها، بل -في أغلب الأحيان- تعمل القوى الاستعمارية ذاتها على استغلال هذا الخطابِ الثنائي. وهذا هو الذي تم في «بريتانيا»، فالحاكِم يقول في خطبةٍ له إنّ «عدم المساواة ليس شرًا، الشر هو المساواة نفسها». بناءً على فلسفة أن الناس مختلفون، ولأنهم كذلك، يجري الصراع بينهم. يستخدم الحاكم البريتاني كلمة «التطور» بديلاً لكلمة «الغزو»، وهذا عمل أيديولوجي بامتياز: «لكننا بريتانيا، لسنا كذلك، نحن نقاتل، نواصل التطور!» أي نواصل سفك الدماء. لا تُخفي الأيديولوجية الاستعمارية هذا الاستعلاء أبدًا، بل توظّفه في خدمة مصالحها بغرض أدلجة المستوطنين والسّكان الأصليين معًا. فيُوَجَّه هذا الخطاب إلى المستوطنين كي يشعروا بالفخر، كما في يوجَّه إلى السكان الأصليين لكي يقتنعوا بكونِهم من طبقة دنيئة مهمّشة، كما جرى ويجري للمنبوذين في الهند مثلاً، فهؤلاء غٌرباء عن هويّتهم، لُقّنوا منذُ الصغر أنهم مِنَ الطبقة الدنيا. يمكن تفسير أحداث هذا المسلسل كالتّالي: هنالك عملية جدلية ما بين ثنائية النظام الاستعماريّ والمعارضة (ألا وهي «جبهة التحرير اليابانية») وهذه الثنائية أنتجت حزبًا راديكاليًا يقوده شابٌ ثوري يُدعى زيرو، وهو الاسم الرمزي لـ«ليلوتش».

المعارضة 

تنظر الدولة الاستعمارية إلى المعارضة اليابانية بوصفها مجموعاتٍ «إرهابيّة»، وهؤلاء «الإرهابيّون» لهم بيئة حاضنة في «المنطقة الحادية عشرة». يصوّر المخرجُ مستوطنة طوكيو كمدينة منقسمة إلى طبقتين: طبقة المستوطنين وطبقة السكان الأصليين (اليابانيين)، طبقة غنيّة وطبقة فقيرة. تَستعْبِد إحدى الطبقتين الأخرى. ووجود هؤلاء «الإرهابيين» بينهم أدّى -حسب مزاعم خطاب الإمبراطورية- إلى خراب ما تمّ إنجازه من إعمارٍ لمستوطنة طوكيو و«المنطقة الحادية عشرة» عمومًا، ولذلك فقد وظّف النظام هذا الخطاب لتبريرِ تدميره مناطقَ المعارضة وسحق السكان الأصليين. المعارضة في وضع كهذا ضعيفة هشة، لكنها تظلّ صامدة. ليلوتش الثوري (زيرو) لا يرى شأنًا لتلك المعارضة لكونها ضعيفة ولا تملكُ استراتيجية ولا تقنيّاتٍ عسكرية تقاومُ بها النظام الاستعماريّ. هناك طبقة وُسطى وهم «البريتانيّون الشرفيّون»، وهم -عمومًا- الذين لا يعودون لأصولٍ بريتانيّة ولكنهم مُنِحوا جنسيّة شرفيّة لتعهّدهم بخدمة الإمبراطورية، وأوضح مثال لهذه الطبقة هو سوزاكو. 

تظهر جدلية المعارضة في الانقسام الحاد بين طرف راديكالي ممانع يمثله «الفرسان السّود» بقيادة الثوري زيرو، مُتّحدًا مع «جبهة التحرير اليابانية» بقيادة تودو. في الطرف الآخر هناك معارضة ناعمة موادعة متمثلة في سوزاكو كروروجي الجندي الياباني، أو لنقُل «البريتاني الشرفيّ»! هذا الجندي هو ابن رئيس الوزراء الياباني السابق غينبو كوروروجي الذي لقي حتفه مناضِلاً ضدّ الغزو البريتاني. يعرض الكاتب طريقين: الأول يرى التغيير من خارج القانون، لأن من وضعَ القانون هو السّيد المستعمر، لذا هذه المقاومة العنيفة هي أفضل الطرق. أما الطريق الآخر، فهو الطريق السلمي، التغيير من خلال القانون وتحت مظلة النّظام الاستعماري، وهذا ما يراه بعض دعاة اللاعنف. 

الغاية لا تبرر الوسيلة عند سوزاكو، في حين هي مبرّرة -وإن كان ذلك بِقيود- عند زيرو. لذا ترى زيرو يريد تغيير النظام بأيّ وسيلة سريعة ومزعجة للنظام، وهذا يتطلب تضحياتٍ، أو كما يشير لها هو: «نتائج»، في حين يسعى سوزاكو إلى تغيير النظام بأقلّ تكلفة ممكنة، وهنا تكمن الإثارة. كثيرةٌ هي النصوص في المسلسل على لسان سوزاكو، إذ يقول مثلاً: «لا مستقبل في طريقة زيرو» وهو يتحدث إلى ليلوتش، صديق الطفولة، غير عالِمٍ بأنّ ليلوتش وزيرو هُما الشّخصُ نفسه. في المقابل نرى ليلوتش في مشهدٍ آخر يقول إنّ «العالم لن يتغير بالكلام الجميل». وأمثال هذه النصوص منتشرة في مَشاهد كثيرة لبيان الرؤيتين بوضوح.

يتصدى ليلوتش مبدئيًا لشكلٍ من أشكال المعارضة، ألا وهي المعارضة الخائنة التي كانت بقيادة أحد اليابانيين المتعاونين مع الاتحاد الفدرالي الصيني. يبرّر ليلوتش لمنظمة «الفرسان السود» التّصدي لهذه المعارضة بكون نتيجتها ليست إلّا تبديلَ سيّدٍ بسيّدٍ آخر، تبديلَ مستعمِرٍ بمستعمِرٍ آخر. لذا يهاجم ليلوتش ذلك الجيش المستعين بدولة أجنبية، وكذلك يفعل سوزاكو أيضًا. يريد ليلوتش الثوري بناء دولة يابانية مستقلة عن أي دولة أخرى. السير نحو الاستقلال هو أحد تطورات منظمة «الفرسان السود». لم يكن هنالك أمل للمعارضة اليابانية التقليدية في السعي نحو الاستقلال وإنما جل همهم هو الاعتراف بهويتهم وثقافتهم، في حين أن دعوة منظمة «الفرسان السود» للاستقلال تؤدي إلى انبعاث أمل جديد.  

علماء الأسلحة العسكرية 

كما قيل إن الحرب العالمية الأولى هي حربُ علماء الكيمياء والحرب العالمية الثانية هي حرب علماء الفيزياء، فالمُخرج هنا يصور أنها حرب علماء التقنيّة التكنولوجية: الآلات المستخدمة هي على شكل روبوتات حربية (mecha) مزودة بأسلحة فتاكة يُطلق عليها اسم Knightmare Frame أو Knightmare، وهو مزجٌ ما بين كلمتيّ «فارِس» (knight) و«كابوس» (nightmare). صراع العلماء هذا يظهر من خلال شخصيتين رئيستين، شخصية «لوليلد» صانع ومطور أسلحة النّظام الاستعماري، وشخصية «راكشتا» التي تعمل على تطوير أسلحةٍ للمعارضة. 

والحديث عن الأسلحة في هذا العمل ليس بالشيء القليل، مما يشير إلى أنّ الكاتب والمخرج أرادا إظهارها على نحو مكثف، مما يدل على أن للتفوّقِ العسكريّ دورًا رئيسًا في هذا الصراع. ليس هدف هاتين الشخصيتين حول من ينتصر في هذه الحرب، بل جلُّ اهتمامهما يكمن في مدى روعة ما يطوّرانه من أسلحة دمار، فهما داخلتان في حربٍ تخصُّهما، حرب استباقية في صنع الأسلحة. هي منافسة على أيِّ الأسلحة هي الأقوى. في مشهدٍ من المشاهد، تقول ركاشتا إنها انضمت إلى «الفرسان السود» فقط لأجل الحصول على معلومات عن الأسلحة لدى الطرف الآخر، فهي ولوليلد في منافسة صُنع الأسلحة.

 الخاتمة

في ختام هذا التحليل، يبرز «كود غياس» بوصفه ملحمةً استثنائيةً تتناول بعمق الصراعات السياسية المتجذرة في النفس البشرية. يعيد العمل تشكيل مفاهيم الهوية، الذاكرة، والمقاومة، مقدمًا نظرة شمولية حول الاستعمار وتأثيراته الثقافية والاجتماعية، من خلال استكشاف ديناميكيات بين المستعمِر والمستعمَر، والنظام القمعي ضد الرغبة في الحرية، والذي من شأنه إثراء التجربة الإنسانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. علي هلال
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا