"كنتُ أحبُّ الأفلام منذ كنتُ صغيرًا. عندما كنتُ أقضي وقتًا طويلًا في دوْر السينما، اقترح عليَّ أحدُ الأصدقاء أن آخذَ سريري معي. كنتُ سأفعلُ ذلك لو كان ذلك ممكنًا. كان ذلك هو بيتي الحقيقي، وأسعدُ مكانٍ لي عندما كنت محظوظًا بما يكفي لأكون هناك".
هذا ما افتتح به بيل دوغلاس مقالَه المنشورَ عام 1978 والمعنون بـ "قصر الأحلام"1، هذا الإسكتلندي البائسُ، عاشقُ السينما وسجينُها، هو المخرجُ الذي جعلَ من الحزن والفقدان لغةً سينمائيَّةً بليغة، ليس مجرَّد راوٍ للأحداثِ القاتِمة ولحقبةٍ زمنيَّةٍ مضت، بل هو شاعرٌ متفرِّدٌ استخدم الكاميرا كما يستخدم الكاتبُ قلمَه ليعبِّر عن الضعف الإنساني في أكثرِ صوره نقاءً. لم يحظَ دوغلاس، الذي عاش حياةً مليئةً بالمعاناة والشقاء، بالاعترافِ الكافي أو الشهرةِ الواسعةِ التي ربما كانت لتترافقَ مع أعمالِه العميقةِ والمؤثِّرة. وكأنَّ سينماهُ كانت في طورِ الولادة، متشكِّلة من الألمِ والتجرُبة، لكنَّها لم تكتمل بالقدرِ الذي يليقُ بها قبل أن تخبو تلك الروح السينمائيَّة الفريدة. مثل الجنين الذي لم يكتمِل نموَّه، ترك دوغلاس إرثًا غير مكتمل، لكنَّهُ مليءٌ بالحقائقِ والمشاعرِ الإنسانيَّة العميقة.
عُرِفَ بيل دوغلاس بثلاثيَّته القاسية التي تمثِّل سردًا صريحًا لمراحلِ طفولته الصعبة في اسكتلندا، حيث جسَّدها بواقعيَّةٍ مؤلمةٍ تعكس حياةً فقيرةً قاسيةً وعزلةً عاطفيَّةً خانقة. لا تعكسُ أعماله مثل "طفولتي"، "عائلتي العزيزة" و "طريق منزلي"، سيرته الذاتية فحسب، بل تقدِّمُ نظرةً شاملةً عن حالةِ الفقرِ واليأس الذي واجههُ الكثيرون في المجتمع في ذلك الوقت. من خلال هذه الأفلام، نقلَ دوغلاس تجاربَ شخصيَّةً جعلت المتفرِّج يشعرُ بأنَّه جزءٌ من تلكَ المعاناة اليومية. وكما قال في إحدى المقابلات: "لم أكن أصنعُ أفلامًا، كنتُ أعيدُ سردَ حياة".2 تظهرُ إحدى أقوى لحظاتِ الثلاثيَّة في فيلمه الثاني "عائلتي العزيزة"، حيث نجدُ الصمتَ يسيطرُ على المُشاهد، تاركًا العين تتحدَّث، ممَّا يعكسُ بؤسَ الطفلِ المحاصرِ بين العالم الخارجيِّ وقسوةِ حياته الأسرية. هذه اللقطة تقدِّم لنا لمحةً من الجوعِ العاطفي الذي لا يمكن إشباعَه بالكلمات، بل بالإيماءاتِ الخافتة والمشاهدِ الصامتة التي تتركُ أثرَها العميق. في هذا السياق، قال الناقد السينمائي ديفيد روبنسون: "دوغلاس يجعل الكاميرا نافذةً إلى الروح، لا مجرَّد أداةٍ لسرد القصة"3.
بالإضافةِ إلى ثلاثيَّته، قدَّم دوغلاس فيلم "الرفاق" عام 1986، والذي يتناولُ "قضيَّة شهداء تولبودل" وهؤلاء هم مجموعةٌ من العمَّالِ البريطانيين الذين واجهوا الظلمَ والنفيَ بسببِ دفاعِهم عن حقوقِ العمَّال في القرنِ التاسع عشر. وهنا في هذا الفيلم يُبرِز حساسيَّته تجاه القضايا الاجتماعيَّة والعدالة، ويُظهر انشغاله الدائم بقضايا الإنسانية. إنَّهُ فيلمٌ عن نضالِ الصامتين، عن أولئك الذين لا يجدون منبرًا للتحدُّث ولكنَّهم يعيشون الاضطهاد، والذي لا شكَّ أنَّه المادة الأكثر ملائمةً لدوغلاس. دون أدنى شكٍّ وكما يتراءى لكم، فإنَّ دوغلاس لا يسعى لتلميعِ الواقعِ أو جعله أكثرَ جاذبيَّة للمُشاهد. عوضًا عن ذلك، فهو يأخذُنا باستمرارٍ في رحلةٍ داخليَّةٍ للروح الإنسانيَّة، حيثُ الألمُ والغربة هما السائدان. ليست أفلام بيل دوغلاس مجرَّد سردٍ للحياةٍ اليوميَّة، بل هي دراساتٌ عميقةٌ للعواطفِ الإنسانيَّة، ولا تقدِّمُ نُسخًا حرفيَّةً لواقعه القاسي أو للظلم التاريخي، بل تقدِّم تلخيصًا شعريًَا لتلكَ الحقائقِ وتصبُّ جلَّ تركيزها على الحقائقِ العاطفيَّة التي تبقى عالقةً في الذاكرة بعد أن تتلاشى اللحظات الخاصة.
يمكن القول إنَّ دوغلاس لم يصنع أفلامًا بهدفِ الترفيه، بل بهدفِ إبراز صورة القسوة البشرية، بهدف جعلِ المشاهد يرى ذلك بعيونِ شخصيَّاته.
طفولتي 1972
يُعتبر فيلم "طفولتي" هو بداية ثلاثيَّة بيل دوغلاس التي كشفت عن أعماقِ معاناته الشخصيَّة والاجتماعية، وتُعدُّ بمثابة شهادةٍ سينمائية على رحلةِ النموِّ والضياع. في هذا الفيلم، يعودُ دوغلاس إلى طفولته في اسكتلندا، هناك حيث تتشكَّل ملامحُ بؤسِ شخصيَّته الرئيسة جيمي، الذي يعيش في بيئةٍ مملوءةٍ بالعنفِ والصعوبات العاطفية.
يستعرضُ الفيلم البؤسَ والوحدة في حياة جيمي الذي يعيشُ مع جدته المسنَّة وأخيه تومي. ووسطَ هذه العزلة، يجد جيمي شخصيَّة الأبِ المفقودةَ في شخصِ أسيرِ حربٍ ألماني، لكنَّه سرعان ما يفقده مع نهاية الحرب. يعكس الفيلم معاناةَ الفقدِ والخسارةِ بعمق، كما أنَّه مليءٌ بالصورِ الرمزيَّة التي تشيرُ إلى حالةِ التوتُّر الداخلي للأطفال في مواجهة العالم الخارجي القاسي. في البداية، يُقدِّم دوغلاس تفاصيلَ شديدةَ القسوةِ من الحياة اليومية لجيمي: بيئةٌ منزليَّةٌ غير مستقرَّة، والدٌ قاسٍ وعنيف، ووالدةٌ غارقةٌ في الصمتِ واللامبالاة. هذا السياق يقدِّم مزيجًا من الإهمالِ والتخلِّي، ويبدعُ دوغلاس في تصويرِ هذا الفضاءِ الرماديِّ الذي يبدو وكأنَّه منفصِلٌ عن أيَّة حياةٍ داخليَّةٍ أو متعةٍ طفوليَّةٍ تقليديَّة. ويوظف دوغلاس في هذا الفيلم الكثيرَ من المشاهدِ الصامتة، حيث لا تتحدَّثُ الشخصيَّاتُ كثيرًا، مما يعطي للمشاهدِ فرصةً للتأمل في مشاعر جيمي التي بدأت في النمو.
عائلتي العزيزة 1973
يستمرُ دوغلاس في متابعةِ رحلة جيمي لاستكشاف عالمهِ المظلم في هذا الفيلم، حيث نراهُ الآن يعيش مع جدَّته من جهةِ أبيه، التي تُظهر له احتقارًا وسوء معاملة. يجدُ جيمي ملاذَه الوحيد في السينما، التي تقدِّم له وسيلةً للهروبِ من واقعه المرير. هذا الفيلم يُظهرُ بوضوحٍ النزاعَ بين الرغبة في الهروبِ من الواقعِ وبين القسوةِ المحيطة.
هذا الجزء الثاني من الثلاثية يتعاملُ مع حياة جيمي في مرحلةٍ متقدِّمةٍ من طفولته، حيثُ يُظهِر بشكلٍ أكثر وضوحًا الفجوةَ بينَه وبين المجتمعِ المحيطِ به. يقدِّمُ لنا الفيلم صورةً أكبرَ عن الحزنِ والوحشة، لكنَّه في الوقت نفسه يوسِّعُ من نطاقِ الصراعِ الداخلي للشخصيَّة. في هذا الفيلم، يُستَعرَض صراعُ جيمي مع فقدانِ البراءة، والتعاملُ مع قيمِ وأخلاقيَّاتِ مجتمعٍ قاسٍ يُعَجِّل من عمليَّة نُضجه. يتنقَّل دوغلاس بين لحظاتٍ حيَّة وعنيفة، وتفاصيلَ لمحاتِ الطفولة التي تدور في إطارٍ من الظلام والشتات. مع مرور الوقت، يُظهر الفيلم مشاهدَ تزداد تعقيدًا، حيثُ يواجه جيمي مشاكلَ اجتماعيَّةً تتعلَّقُ بالفقر، باللامبالاة المجتمعيَّة وعدم العدالة. على الرغم من أنَّ المشهد العام يظلُّ متمحورًا حول البؤس، فإنَّ دوغلاس لا يبتعدُ عن تصويرِ التفاصيلِ الدقيقةِ في البيئة التي يعيشُ فيها جيمي، مثل الأماكن التي تقتصر فيها الحياةُ على طقوسٍ رتيبة، والشوارعُ المظلمة التي تعكس حالة الشخصيَّات. الصورُ في هذا الفيلم أشد تباينًا، فهي تتراوحُ بين مشاهدَ عنيفةٍ ومشاهد هادئة، بيد أنَّ كلَّ شيءٍ يظلُّ مُحفِّزًا على التأمُّل العميقِ في الواقعِ المرير الذي يحياه جيمي. يترك لنا دوغلاس مساحةً كبيرةً لنتساءل عن السببِ الحقيقيِّ وراء هذا الكم من المعاناة، وكأنَّ كلَّ شيءٍ في الحياة، من حول جيمي، قد قُدِّر له أن يكون غامضًا ومظلمًا.
طريق منزلي 1978
يختتم بيل دوغلاس ثلاثيته بفيلم "طريق منزلي"، وهو الفيلم الذي يعكس بصورةٍ أكثرَ وضوحًا مرونة جيمي في مواجهةِ واقع الحياة المرير. في هذا الفيلم، يقتربُ جيمي أكثرَ من مرحلة النضج، ويبدأ في استيعاب الفجواتِ بينه وبين العالم المحيط. يقتربُ الفيلم بشكلٍ متزايدٍ من اللحظة التي سيصبح فيها جيمي بالغًا، وأيضًا من مواجهةٍ أكثر قسوة لما يتوقَّعه المجتمع منه. على الرغم من أنَّ الأجواء في الفيلم تظلُّ قاتمةً للغاية، فإن هناك شيئًا من الأمل يلوحُ في الأفق. يقتربُ جيمي من مرحلةِ اتِّخاذ قراراته الخاصة، وتبدأ ملامحُ النموِّ الشخصي في الظهور. هو ليس بعدُ ذاك الشخص الذي سيغادر هذا الواقعَ المظلم، ولكنَّنا نرى أمارات الصراع الداخلي، حيث يدخلُ في مواجهةٍ بين ما يريده وما يُفرَض عليه. في هذا الفيلم يتَّجه دوغلاس إلى تصوير المشاهدِ اليوميَّة كحالاتٍ من الثقل، حيث تصبحُ الحياةُ أشبهُ بمسارِ معركةٍ مستمرَّةٍ بين الروح والجسد. وينتهي الفيلم بمزيجٍ من اللامبالاة والخذلان، حيث يبدو أنَّ جيمي لم يجد ما كان يبحث عنه في رحلته تلك. على الرغمِ من الوعي المتزايدِ لما يحيط به، تظلُّ الحياة في منظوره متشابكةً ومعقَّدة. وتبقى التساؤلاتُ المتعلِّقة بالعدالة والوجودِ تهيمنُ على أفق الفيلم، مما يُبقي جيمي في حالةٍ من الشكِّ المستمر.
في آخر المطاف، نرى جيمي قد أصبحَ بلا مأوى وعاجزًا عن إيجادِ مكانٍ مستقر. بعد تجارب متكرِّرة من الفقرِ والانفصال العاطفي، يجد أخيرًا صداقةً حقيقيَّةً مع روبرت أثناء خدمته العسكرية. هذه الصداقة تفتحُ الباب لجيمي على بصيصِ أملٍ لأوَّلِ مرَّة، وتنتهي الثلاثية بإحساسٍ بالتفاؤلِ الضئيل الذي يعكسُ رحلةَ جيمي الداخلية. ومع ذلك فإنَّ الفيلم يحتوي على هذه النهاية المفتوحة التي تجعلنا نعود إلى التفكير في المعنى الحقيقي للمستقبل في عالم لا يعد بتقديم الكثير من الأمل.
بريق السعادة والفراشة الهاربة
لا تقدِّمُ ثلاثية بيل دوغلاس سردًا بصريًا تقليديًا فحسب، بل تمثِّلُ نوعًا مختلفًا من السينما التي تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على "السرد العاطفي" بدلاً من الخطِّ السرديِّ المعتاد. هذه الأفلام، والتي تبدو كأنَّّها مستوحاةٌ من السينما الصامتة، تحمل في طياتها مشاعرَ معقَّدة، فهي تعبِّرُ عن الأحاسيس التي تستهدفُ قلوبَ المشاهدين وليس عقولهم فقط. وكما ذكر دوغلاس نفسه، فإنَّ الفهم ليسَ الأولويَّةً بقدرِ ما هو الشعور العاطفي الذي يُستخلصُ من التجربة4. إنَّ مشاهدَ مثل مشهد جيمي وهو يسخِّنُ كوبَ الماءَ ليدفئ يدَ جدَّته، أو لحظاتٍ بسيطةٍ مثل مقايضةِ جرَّةِ مربى بتذكرةِ سينما، تعكسُ لمحاتٍ من الفرح والإنسانيَّة في عالمٍ يعمُّه الظلام. هذه اللمساتُ الإنسانيَّةُ هي ما يمنح الأفلام عمقًا شعريًا مؤثِّرًا. كما أنَّ تلكَ اللحظات تُذكِّرنا بالمقولةِ الشهيرة التي تُنسَب إلى الكاتب هنري ديفيد ثورو: "السعادة تشبه الفراشة، كلَّما طاردتها، كلَّما هربَتْ منك. ولكن إذا وجَّهت اهتمامَكَ إلى أشياءَ أخرى، ستأتي وتجلسُ بهدوءٍ على كتفك".
هي لحظاتٌ تحاولُ جاهدةً للبحثِ عن المعنى والسعادة، وتظلُّ راجيًا طوالَ ثلاثيَّته أن تجد معهم تلك السعادة ولكن بلا جدوى. هي بلا شك استعارةٌ للفهمِ العاطفيِّ العميقِ الذي يتسلَّلُ دون مطاردةٍ مباشرة. وبفضلِ هذه الرؤية الفنيَّةِ الفريدة، لاقت الثلاثيَّة تكريمًا في عدَّةِ مهرجاناتٍ سينمائيَّةٍ حول العالم. وقد نال فيلم "طفولتي" جائزة الأسدِ الفضيِّ في مهرجان البندقية عام 1972، وكان من أوائلِ الأفلام التي جذبت الانتباه إلى عبقريَّة دوغلاس. كما توقَّع الناقد فيليب فرينش5 أن تظلَّ هذه الثلاثيَّةُ واحدةً من الإنجازات البطوليَّة للسينما البريطانية وهو ما تحقَّق بالفعل، حيث يُعتَبر بيل دوغلاس اليوم واحدًا من أبرزِ المخرجين الذين عبَّروا عن القسوةِ البشريَّة بتعبيرٍ شعريٍّ فريد، متجاوزًا حدودَ الحكايات الواقعيَّة التقليديَّة.
حفريات في السينما والذاكرة
تنقلنا الذاكرةُ في السينما إلى مكانٍ وزمانٍ آخر، إلى لحظاتٍ دافئةٍ أحيانًا ومؤلمةٍ أحيانًا أخرى، تأخذُنا إلى طفولتنا أو إلى حبٍّ ضاع منَّا، أو فرصةٍ لم نستغلها. إنَّ الأفلام التي تستندُ إلى قوَّة الذاكرة تجذِبنا، لأنَّنا كبشرٍ نتوق دائمًا للعودةِ إلى مكانٍ يعرفنا، مكان يعيدُ لنا جزءًا من ذواتنا الضائعة. ربما سرُّ جاذبيَّة الذاكرة في الأفلام هو أنَّها تمنحنا فرصةً ثانية؛ حينما نشاهدُ مشهدًا يسترجعُ ذكرى عزيزةً أو مؤلمة، نشعرُ كأنََ الحياةَ منحتنا فرصةً جديدة كي نعيش تلك اللحظة مجدَّدًا، كي نفهمها بعمق، وكي ندركَ قيمتها التي كنَّا غافلينَ عنها.