لطالما كانت الريادة، على طول التاريخ الفني، محل تقدير وذات مقام مكين في النقد والتأريخ للفنون. إلا أننا، في المجال السينمائي السعودي، بإزاء حالة من التقدير المضاعَف إذا ما أتينا على سيرة المخرج الكبير «عبدالله المحيسن». مكمن المضاعفة أن الرجل قد ابتكر فنًّا حقيقًا وخاصًّا بالمقام الأول، وهذا ما يميّز كثيرًا من الفنانين والمخرجين الروّاد في العالم؛ إلا أن ما لا يملكونه، بمقابل تجربة «المحيسن»، هو «الحفر في الصخر» بمعنى شبه حرفي. ذلك «الصخر» الذي حفر فيه صاحب «اغتيال مدينة» لم يكن إلا واقعًا ثقيلًا من ظلامية الفكر ومحاربة الفن. لقد قرر الفنان المجهول في التاريخ الإنساني القديم أن يحفر على جدران الكهوف والمغاور تعبيرًا عن نفسه وإبلاغًا لرسالته؛ وهو ما لا يبتعد عن تجربة رائد الكاميرا السعودية، حيث إننا كجيل سينمائي جديد نرنو إلى تجربته بتوق التلميذ إلى المعلّم.
يحاورنا اليوم في ضيافة «ميم السينمائية» الأستاذ الكبير عن تجربته وآرائه. مرةً يكشف عن خلل في الفهم العام للصورة وأهميتها، وفي مرة أخرى يعتب، عتابَ الأب، على السينمائيين الجدد تفريطهم بالفرص الثمينة التي أُتحيت تحت أيديهم.
تمثّل أعمالك إرثًا حيًّا للسينما السعوديّة، فقد كنت سباقاً منذ السبعينيات، وتعتبر أفلامك جزءًا من التاريخ المرئي للشاشة السعودية، كيف تعتقد أن النقد السينمائي يمكن أن يساهم في توثيق هذه المرحلة وتأريخها للأجيال القادمة؟
التوثيق السينمائي مهم، كما أن النقد كذلك على نفس الدرجة من الأهمية. حيث إن النقد، كما ذكرت مرارًا، إذا ما كان صادقًا ومحايدًا فهو يمثّل غذاءً للمخرج؛ إذ يزوّده بفرصة أن يرى نفسه من زاوية أخرى وعبر عين مغايرة؛ مما يساعده على التطوير من إمكاناته الفنيّة والتفكير في اختياراته بشكل مستمر، وهذا مما يُغني تجربة الفنان بكل تأكيد.
بعد تكريمك في مؤتمر النقد السينمائي، كيف ترى دور مثل هذه المؤتمرات في تعزيز الحوار بين صناع الأفلام والنقاد؟ وهل ترى أنها تساهم في تطوير عملية نقدية تعكس عمق السينما السعودية وتحدياتها؟
لا شك أن الدولة بدعمها الحثيث لقطاع السينما، بما فيه «مؤتمر النقد السينمائي» الذي نحن فيه الآن، تسعى إلى توفير كافة الإمكانات الممكنة من أجل السينمائي والناقد السعوديين. مثلًا، في «المؤتمر» ثمة اهتمام واضح بجلب الخبرات الكبيرة في المجال، نقديًّا وفنيًّا -برغم ما في ذلك من جهد وتكاليف ضخمة- في سبيل تقريب الفجوة وتسهيل الأمر على الصانع؛ حيث لا يلزمه سوى الحضور والاجتهاد والإصرار على التعلم في أرضه وبلاده، بدلًا من أن يدور حول العالم للاستفادة من هذه الخبرات والشقاء للوصول إليها. إذن، فالمناخُ السليم قد هُيئَ وليس على الجيل الجديد من الصناع سوى تقدير كل هذه المجهودات المشكورة من الدولة والاجتهاد بغيةَ صناعة سينما حقيقية تستفيد من خبرات كل هؤلاء العمالقة السينمائيين وتورايخهم العريقة.
ولكي أصدقكم القول، وبرغم أنني قد رأيت بالفعل من الصناع الجدد من يجتهدون ويحرصون على هذه الفرص الثمينة؛ إلا أنني متألم بسبب غياب كثير منهم وتفريطهم في مثل هذه الجواهر.
أنت من أوائل المخرجين السعوديين الذين اختبروا الإخراج السينمائي في وقت لم تكن فيه السينما صناعة متكاملة في المملكة. كيف تروي لنا تحديات البدايات، وما الذي دفعك للتمسك بهذا الحلم في ظل تلك الظروف؟
ببساطة، لأنني تعاملت مع السينما بوصفها رسالةً. وحين يتعامل الفنان مع فنه كرسالة فإن كل التحديات والمصاعب تهون بالنسبة إليه. هنا، يتحول الفن إلى حياة، وكما تعلمون، فالحياة فيها المر والحلو؛ كذلك السينما فيها المصاعب والمسرّات. الأهم من كل هذا، هو أن يبلّغ الفنان رسالته. صحيح، لظروف تختلف من مكان لآخر، قد لا تُفهم رسالتك في حينه على الوجه الصحيح. لكن، ثق بأنها ستصل إذا اخترت الصدق الفني في عملك. في حالتي، كفنان، فقد اخترت «الصورة» بوصفها لغة العصر، منذ وقت مبكر برغم أن النظرة السائدة حينذاك لـ«الصورة» أو «السينما» كانت لا تراها أبعد من مجرد ترفيه. غير أن الإصرار والحفر في الحجر يوصل الرسالة حتى لو بعد حين. من هنا نفهم لماذا أثّر فيلمي «اغتيال مدينة» عند عرضه هذه الأيام هذا التأثير في المتلقي بعد مرور 48 سنةً على إنتاجه.
إذن، فالأمر في جوهره رسالةٌ. كان بإمكاني العمل في الخارج، لو أردت الابتعاد عن المصاعب والظروف التي كانت تدور في تلك الأيام كما تعلمون. لكنني اخترت العمل هنا في بلدي ومواجهة المصاعب كيفما كانت. بصراحة، أنا في بالغ من السعادة بهذه التجربة بعد كل هذا العمر. وإحقاقًا للحق فإنني أقول بإن هذا النجاح لست أنا وحدي من يقف خلفه، بل ثمة دولة تستند إلى فكر تنويري تقف خلفه، وثمة رائد «رؤية 2030» -سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان- يقف خلفه كذلك؛ هذا الرجل الذي يؤمن بـ«الصورة» كلغة للعصر ويريد أن يتيح للأجيال الجديدة كافة الوسائل والإمكانات -وبسرعة قصوى اختصارًا للزمن- ليبدعوا بهذه اللغة ويصلوا إلى كافة أصقاع الأرض انطلاقًا من هذه البلاد. حقيقةً، لكم تمنيت لو كان هذا الرجل موجودًا على أيامي؛ لفعلت، إذن، أضعاف ما قمت به. إلا أن أباه كان موجودًا -سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله- بصفته أميرًا لمنطقة الرياض، حينذاك. ولطالما لجأت إليه في مواجهة الصعاب، ولم يخذلي مرةً. لقد لجأت إليه بوصفي فنانًا، والأهم وقبل ذلك بوصفي مواطنًا. العظيم في هذه البلاد وحكامها أن المواطن يستطيع الوصول إلى أبواب ولاة أمره واللجوء إليهم متى ما واجه الصعاب. وأنا، على صعيد شخصي، من شهود ما قد نسميه بـ«التجربة الصعبة» آنذاك، والتي لولا وجوده -أدام الله ظله- لما استطعت الاستمرار، بل لعلي كنت سأُوقَف من قِبل «التيار الفكري المتطرف». وأشير هنا إلى أنني لست وحدي من وقف -حفظه الله- إلى جانبه، بل مثلي كثير من المثقفين والمبدعين والفنانين؛ لقد كان وما زال -مد الله في عمره- أيقونةً وسراجًا للفكر والإبداع.
عُرفت بأعمالك التي تحفر في أعماق قضايا الوطن والهوية، فكيف تنظر إلى علاقة السينما بالذاكرة الجماعية؟ وهل تؤمن بأن الفن قادر على تغيير الوعي الجمعي؟
ما من شك في قدرة الفن على تصحيح الوعي الجمعي وتطويره. لو أخذنا، على سبيل المثال، فيلم «تطور مدينة الرياض» والذي هو فيلم بسيط في جوهره. إلا أن «الصورة» بنفسها، كما أشرنا إليها سابقًا بوصفها «لغة العصر»، تقوم مقام الذاكرة الجمعيّة في العمل وتكشف عن تجدد روح المدينة وبالتالي التأثيرات التي تتناوب الوعي الجمعي.
كيف أثرت البيئة الاجتماعية والثقافية في السعودية على موضوعاتك السينمائية، وما هو السبيل لتحقيق التوازن بين المحتوى الثقافي المحلي والطموح العالمي؟
دائمًا ما كنت أقول بأن العالمية تنبع من المحلية. وذلك لإيماني العميق بأن كل مجتمع يملك مناجمَ من الإرث الحضاري. لذا، فعليك كصانع أن تهتم بمناجمك الحضارية والثقافية أنت، لا أن تذهب إلى مناجم غيرك التي بكل تأكيد تختلف في نظرتها وطريقتها عما تمتلكه. حاول، قدر ما تستطيع، أن تقدم العمل الفني محملًا بجواهر بيئتك، هكذا ستجعل الآخر ينظر إليك من خلال منظورك أنت؛ عليك أن تقدم للعالم كنوزك لا أن تصنع نسخة رديئة من كنوز الآخرين. الأسهل هو التقليد، طبعًا، الصعوبة تكمن في الأصالة؛ لكن سيأتيك الآخر ويقول لعملك المقلد: الأصل عندي.
من خلال نظرتك النقدية للسينما السعودية، كيف تقيّم الحركة السينمائية اليوم، وما هي المعايير التي تراها لازمة للوصول إلى سينما تعكس هوية سعودية؟
كل ما قد قمنا بإنتاجه حتى الآن لا يتجاوز التجارب، إذن، فالنقد في نظري سابقٌ لأوانه. علينا أن نراكم التجارب أكثر فأكثر حتى تتأسس لنا أرض سينمائية حقيقة ونصل إلى المرحلة التي نستطيع القول فيها إننا نملك مدرسة سينمائية تخصنا. صحيح أن الطريق طويلة لكن ما تقوم به الدولة من التمكين وإتاحة الفرص حاليًّا هو في صميمه تقصير لهذه الطريق. وليس على الصناع إلا استغلال هذا وتعميق إحساسهم بالمسؤولية تجاه فنهم. إنني بصراحة شديدة، بصرف النظر عن قوّة التجارب المقدمة حاليًّا أو ضعفها، أفرح وأُسر بكل اسم سعودي جديد يدخل المجال.
ما الذي تأمل أن تراه في الجيل الحالي من صناع الأفلام السعوديين، وهل هناك رسالة توجهها لمن يحاولون شق طريقهم في صناعة السينما في هذه البيئة التي تتحرك بشكل متسارع؟
في بداية مسيرتي السينمائية رسمت لنفسي خطين: الخط الأول أنني استبدلت مفردة «أكشن!» الأجنبية عند بداية التصوير بـ«باسم الله!»، بغض النظر أكان المصور الذي بجانبي أجنبيًّا أم عربيًّا. الخط الثاني أنني جعلت «البان» يتجه من اليمين إلى اليسار كما هي الكتابة في اللغة العربية، على عكس «البان» العالمي الذي، كما هو معلوم، يتجه من اليسار إلى اليمين. لقد حاولت، في تجربتي، أن أجسّد لغة سينمائية تخصنا نحن، لغة تستلهم بيئتي وهويتي، نافرًا عن كل تقليد أو تأثر سلبي.
هكذا، باشتغال فني يحاول الاستلهام من محيطه بوعي وصدق، يصل إلى العمل إلى جمهور عالمي لأنه، في الدرجة الأولى، قدم إليهم ما هو جديد عليهم. خذ عندك مثلًا السينما الإيرانية، لقد نجحت نجاحًا كبيرًا لهذا السبب، وحصدت أكبر الجوائز العالمية، لأنها حرصت على تقول نفسها وبيئتها للعالم بشكل فني؛ لقد نجحت برغم ضعف الإمكانات وبساطة القصص. فما الذي يمنعنا، إذن، من تقديم صوتنا الخاص والفريد، خصوصًا مع كل هذا الدعم؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش