صورة التُقطت خلف الكاميرات، يقف فيها كل من محمد خان وسعاد حسني أمام رجل يلوّح بالورق، والذي دائمًا ما كان عدته في وجه نوائب الدهر، يشرح لهما ما كتبه في صفحاته، وعيناه في ذلك تفيضان عن رؤية فنية فريدة، لم تتجاهل الكاميرا ولا التاريخ إبرازها. رجل كان دائمًا على موعد مع التألق، وذلك قبل أن يحين «موعد على العشاء» وهو الفيلم الذي التُقطت هذه الصورة في كواليسه، فلطالما سابقت يداه الرشيقتان خياله في سكب الحوارات الأخاذة وكتابتها بكل تلقائية. كان يدعى هذا الرجل «بشير الديك»، أو «بشبش» كما يسميه أصحابه الخاصون، والذين يُعرفون بروّاد السينما الواقعية في مصر.
لا أعرف حقيقةً متى بدأت يداه بتشكيل الشخصيات البديعة وتلوينها ونسج القصص لها، ولكني أعلم كما يعلم غيري، أن الرجل قد بدأ بنشر ما يكتبه من مجموعات قصصية قصيرة في منتصف الستينيات الميلادية، والتي كان يكتبها من مسقط رأسه دمياط، مدينة الخشب الصامدة في وجه المعدن وصدئه، وكان يخادع نفسه حينها، إذ كان يعيش يومين في يوم، نهاره للوظيفة، وليله لخياله، ينام بينهما لكي لا يشعر أن حياته تعيق مرامه. كان مفتّشًا في وزارة المعارف، يجول على المدارس يحصي ما نقص، ولماذا نقص، ثم يعود للبيت حيث ينام ليحلم بما يفتح له باب خياله، ويمزج فيها -الأحلام- عقلُه ماضيه بقابل ما تبشر به الأيام له، ثم يفيق على واقعه الأجمل، حيث دفاتره وأقلامه، يحيك فيها ما تيسر من قصص في خلده النير، وكأن النوم في ذلك برزخ يفصل الدنيا عن جنته، حيث يحين في الليل ما صبّر به نفسه على وعثاء النهار، به تُصبّ قصة تخمر بها عقله، يخمر بها القراء، و تتخمر بها موهبته، حتى تعود له الحياة الدنيا غدًا، ويعود شوقه للكتابة أشد وأحر.
هكذا كان يقضي بشير الديك شبابه، موهبة تنمو في ما ينشره في صفحات المجلات، حتى حان الموعد الذي دخل فيه بشير الديك عالم الفن من بابه الكبير، وذلك حين أرسل نصًا قد كتبه في منتصف السبعينيات الميلادية، إلى الكاتب الكبير مصطفى محرم والمخرج علي عبدالخالق، واللذان أصرّا ألا تبقى موهبته حبيسةَ ما ينشره المحررون وما يمنعونه، وأنه لا بد من أن يكون للشاشة العملاقة نصيب منه، وأنه من حقهم على الجمهور أن يُظهروا لأبصارهم زوايا تصوّرها الكاميرا من كتابته، فانتصب بشير للسينما بشيرًا، وكتب أول أفلامه لمحمود ياسين، النجم الذي كانت كادرات الأفلام تترامى تحت قدميه حينها، وقد كانت في ذلك الوقت سينما الممثل في أوجها في مصر، حيث باسمه يتمايل الموزعون ويتراقصون طربًا، وبه يحققون أعلى الإيرادات، ليصطدم المؤلف حينها بأشرس ما يواجهه مَن هم خلف الكاميرا، والكائن في أنه لا كرامة لما ترى أمام النجم، اللفظ الذي يتغير معناه مع مرور الزمن، فيبدأ بأن يكون لقبًا يُشار به إلى الممثل، ثم يتغير في موجة يلمع في بريقها المخرجون فيستحوذون عليه، ثم ينحدر الزمان فيكون النجم ممولًا، وهكذا يداول الله الأيام حتى يرث -سبحانه- الأرض ومن عليها، ولا يكون للمؤلف حظ في هذه الدنيا إلا أن يُذكر اسمه في شريط التتر، وليشكر الله على ذلك كثيرًا.
إلا أن بشير لم يرضَ بتلك القسمة، وهو المقبل على هذا العالم بلا رصيد ولا سند، فحين غنّى محمود ياسين ترانيمه حول ما يجب أن تتسم به شخصيته باعتباره نجمًا في الفيلم الذي كتبه مؤلفنا، رد عليه قائلا: «لا قسمة تقبلها كتابتي، إن لم ترضَ بها -وهذا مؤسف- فإن غيرك يتحرّق شوقًا لأدائها». كلمات معدودات تخللها قسم بالطلاق من أم أحمد -رحمه الله- وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، وقفة أوقفت عبث النجوم في ما يكتبه الرواة -ولو مؤقتًا- ما كان ليذعن لها النجم الكبير محمود ياسين إلا لمعرفته بأنه فيلم لا يُفوّت. هكذا تقدم بشير نحو السينما تقدمًا جسورًا «مع سبق الإصرار»، فهكذا سُمي الفيلم على أي حال، وبهكذا اتسمت حال خطوته الهائلة، لتتوالى بعدها الأعمال من كتابته في أن تثري جيوب المنتجين، وتصنع مسيرة المخرجين، وتوسّع أبعاد شخصيات يتعملق في تقمصها الممثلون، وتؤسس في عقد الثمانينيات والتسعينيات موجة سينما واقعية في مصر، تتحدى عصر المقاولات، وتحارب فضاءات الفيديو وسفالاته، وتجعل من السينما بيتًا لمن لم يجد لمخيلته مأوى، رسم فيها الواقع بيد خفيفة تعكس تراجيديته وكوميديته، وإن كان في نظري نجمًا لا يطال لوحده، فإنه لم يكُن مع ذلك لوحده، بل كان بصحبته نجوم لا يرضى بشير أن نجحدهم، وخصوصًا في معرض تقديره.
في مقدمة هؤلاء النجوم سعيد الشيمي ونادية شكري ومحمد خان وعاطف الطيب وأحمد زكي ونور الشريف، صحبة بشير الديك التي يدين لها بكل الوفاء بحسه المرهف الذي يجعل الدمعة لا تستقر في عينيه كلما جاء أحد على ذكرهم، وهم عمالقة لا يجحد جهدهم في نسج شيء عظيم، يؤسفنا ويفرحنا في آن واحد، أنه لم يحظَ بتقدير نقدي وجماهيري إلا متأخرًا جدًا، بدأ زمنيًا -في ترجمتي لتاريخ السينما الواقعية- مع فيلم «الرغبة» مع محمد خان، وبدأ حقًا باللمعان في بريق خاص مع صديق عمره ورفيق دربه عاطف الطيب بفيلمهما الأول «سواق الأتوبيس»، الفيلم الذي احتل المركز الثامن في قائمة النقاد لأفضل مئة فيلم مصري على مر العصور، والذي بفضله سحب بشير الديك إلى الدراما التلفزيونية بعد أن باتت موهبته صدحًا كلثوميًا لا يمكن ألا يُطرب، وبفضله أيضًا أصبح ألمع مؤلف يكتب للسينما.
نسج بشير الديك في «سواق الأتوبيس» من حياة سائق حافلة عمومية، ملحمة درامية تعددت مشاقها، بين علاقة مجهدة مع زوجته وأهلها، حيث الحب لا يدوم صفوه مع ما يمر به الإنسان، وعلاقة مرتبكة مع والده، حيث لا يفهم أحدهما الآخر، وعلاقة متوترة مع أخواته، ومع أزواجهن الطامعين بأي فرصة للاستيلاء على ما يملكه وما لا يملكه والده الهرم الحزين، وعلاقة جافة مع الركاب العابرين، يتخللها شيء من الأسف المتبادل، والاحتقار المشترك، والتجاهل المسيطر على الموقف، في ظل زحام الظروف في طرقات الأيام التي تخيم على نظراتهم، وأحاديثهم، وخطاهم المتأنية والسريعة. من هذا كله نُسجت الحكاية، وبهذا كله حاز الفيلم على جميع الجوائز التقديرية في العام الذي صدر فيه.
ثم انطلق بشير فكتب ما لا يقدر الإنسان على عدم إيفائه حقه، إذ لا أجد فيلمًا مفضلًا لي لمخرجي ذلك العصر الذهبي، إلا وأجد أن كاتبها بشير الديك، فما أُفضّله لعاطف الطيب لا يتعدى -بعد «سواق الأتوبيس»- أربعة أفلام، هي «ضربة معلم» و«الهروب» و«ضد الحكومة» و«ليلة ساخنة»، ولا أجد في سينما محمد خان مثيلًا لـ«موعد على العشاء» و«طائر على الطريق» و«الحريف»، ولست من هواة سينما سعد عرفة، ولكن لا يفوتني إعادة فيلم «لعبة مع الكبار» كلما استطعت لذلك سبيلًا، ولا أظنني أجد أن هناك مسلسل أكمل كتابيًا من «الناس في كفر عسكر» والذي كان من إخراج نادر جلال، والذي كتبه بشير بلغة نجيبية -تعود إلى مدرسة نجيب محفوظ- حيث قصة مصرية في كل تفاصيلها، ترمز إلى دلالات أكبر. ولا أجد حقيقةً كاتبًا قد أرّخ لشخصيات واقعية باقتدار، وكأنك ترى شريط حياتها، مثلما فعل بشير الديك مع محمد حسن المصري وناجي العلي وحكمت فهمي وعابد كرمان.
كانت للرجل يد خفيفة، تنهمر في صفحاتها حوارات شخوص قصصه كما ينهمر المطر في ليلة كانونية، وكانت لديه روح جادة لا تقبل أن تقدم نصوصًا ساذجة لا تحترم المشاهد، وكان يشترك في ذلك مع محمد خان، وكانت في ممارساته احترافية لا تجعله يرفض العمل لمجرد أنه ليس من شوارد أفكاره، بل كان ينظّم قصص غيره بكل مهارة، تنقل الفيلم نحو نقلات لم يكن يتخيلها صانعوه، ولم يكن يملك من النرجسية ما تجعله يشعر بالخيبة والنقم من العالم حينما يفشل مشروع كان جزءًا منه، بل كان واقعيًا يدرك الفشل وأسبابه وعوامله.
ولكَم وددتُ -حين أتحدث عن بشير الديك- أن أستفيض تعبيرًا عن زواياه الإنسانية والفنية المختلفة، حيث ما لاقاه من فقد ابنه أحمد صغيرًا، والذي كانت تجمع بينهما في حياته علاقة تتخطى علاقة الأب بابنه، لطالما ألهمته في كل حين حينما يكتب عن أب يحتضن ابنه، أو ما عاناه من الفقد بعد أن مات رفيق عمره عاطف الطيب شابًا، ولم يتسنّ له في ذلك توديعه، ثم صبّر نفسه بإيمانه على كل ما أصابه، وعلاقته بالتصوف في مواجهة ذلك كله، وبالفن ليكون بمثابة عدّة له في ذلك. ولكَم وددتُ أن أتوسع في فصوله الفنية، ولا أقتضب الحديث في وصف أفلامه، وأن أعطي كلًا منها حقها في التحليل والنقد، وأن نناقش فلسفته في الكتابة، وموقفه من مستجد السينما والتلفزيون، وددت حقًا أن أعطي هذا كله نصيبًا يحتله من مقالنا، ولكني لا أظن أن مقام بشير يتسعه مقال!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش