«بذور التين المقدسة»: الأبيض والأسود ليسا رماديًا

يزن الحاج
و
March 6, 2025

يبدأ شريط «بذور التين المقدسة» (دانه‌ی انجیر معابد - 2024)، أحدث أفلام المخرج الإيراني محمد رسولوف من العتمة والرصاص. يمهِّد لنا الكابوسَ القادم برنين المعدن، بصمتِ الظلام ومتاهات الأقبية. لنا أن نتخيَّل الفضاء القادم الذي سيكون خانقًا لا محالة، كأنَّه استعادةٌ أخرى للأقبية السوفييتيَّة والنازيَّة، وإيماءة إلى أنَّ ما لدينا لا يقلُّ هولًا عمَّا لدى غيرنا. نرقب خطوات إيمان، المحقِّق الذي ترقَّى إلى منصب قاضي تحقيق، ثم تنتقل الكاميرا إلى أسوارٍ عاليةٍ يتسلَّل منها ضوء النهار الشحيح، بينما تشقُّ السيارة طريقها ببطءٍ في طريق ضيِّقةٍ بين تلك الأسوار المتشابكة قبل أن يخرج إلى فضاء الشارع وكأنه قُذِفَ من عتمة الرحم إلى الحياة في ولادةٍ جديدةٍ ستنسف كلَّ ما عاشه من قبل.

ندرك مباشرة، حالَ دخول إيمان إلى بيته، أنَّ هذا البيت الصغير هو المأوى والملجأ ومصدر الراحة. على طول الشريطِ سيكون إيمان متقلبًا في جحيمٍ من المشاعر المتناقضة، ولكنَّه لا يهدأ إلا حين يكون في البيت، وكأنَّنا أمام تلميحٍ آخر أنَّ صخرةَ النجاة الوحيدة هذه ستنهار قريبًا بحيث يبقى إيمان وحيدًا معزولًا في صقيع الذنبِ والخيبة.

نرى المسدَّس للمرَّة الأولى حين يريه إيمان لزوجته نجمة. يبدو المسدَّس محض لعبة، أو ربما يبدو إيمان طفلًا يعبثُ باللعبة الجديدة، بحيثُ يتبدَّى واضحًا لنا أنَّه لم يتعامل مع سلاحٍ في حياته. ولنا أن نتوقَّع مع نجمة أنَّ التردُّد أمام هذه اللعبة الجديدة الخطيرة يعني أنَّ بابًا مباغتًا للجحيم سينفتح فجأةً لينسف كل شيء، خاصة هذا الملجأ الصغير الدافئ الذي يضم عائلة إيمان الصغيرة: زوجته نجمة وابنتاه: رضوان طالبة الجامعة، وسناء طالبة الثانويَّة. بيت من النساء اللواتي ينتظرن الرجلَ الوحيدَ في حياتهنَّ آخر المساء كي يكتمل دفء البيت الصغير الذي بدأ يضيقُ بسكِّانه وبأحلامهم وطموحاتهم، ولكن بات معروفًا أنَّ الخلاص من هذا الضيق إلى دنيا "أرحب" لن يكون سهلًا إذ سيترافق مع اللعبة الجديدة التي جلبها إيمان، وقد بدأ بتلمُّس ثقلها وبرودة معدنها المتناقضين كليًا مع دفء وحميميَّة البيت/المأوى.

خلفية الأحداث هي الاحتجاجات التي اندلعت إثر «مقتل مهسا أميني» عام 2022. وهنا يتّضح لإيمان أنَّ أحلامه ببيتٍ أكبر، وراتبٍ أضخم وحياةٍ مريحةٍ للعائلة، لن يكون إلا بعد حلِّ إشكاليَّة التناقضِ داخله. هو ابن النظام الذي يرتبط الترقِّي فيه بتضاعفِ الولاء، وهو ابن تقى وورع حقيقيَّيْن يرفدهما ضميرٌ مهنيٌّ لم يعد له مكانٌ في دنيا الأحداث الجديدة. وكذلك ثمَّة تناقضٌ أكبر وأقسى، إذ لا بد له من المواءمة ما بين جوف الحوت المعتم في الأقبية والذي كان يحاول التملُّص منه دومًا للفرار إلى دفء جوف البيت الصغير، وبين غياباته المتكرِّرة التي باتت أطول فأطول عن البيت بعد تضاعف أعداد الأوراق الرسميَّة والأحكام القضائيَّة التي ينبغي عليه توقيعها.

بات حضور إيمان في البيت شحيحًا مثل طيفٍ بعيدٍ بارد يكاد لا يلمحه أحد، بينما البيت يضجُّ بالتحوُّلات التي ما عادت في منأى عن التحوُّلات الخارجيَّة التي تعصف بالشوارع. ثنائية تقسيم المهام بين أبٍ يعملُ ويتركُ همومَ عمله في الخارج وأمٍّ تدير شؤون البيت ما عادت ثنائيَّة ممكنة إذ تداخلَ الخارج والداخل وامتزجا في عجينةٍ دبقةٍ مزعجةٍ باتت تمسُّ حيوات الجميع. جوٌّ من البارانويا يستعرُ يومًا إثر يوم، منها ما هو حقيقيٌّ ومنها ما هو مُتخيَّل. الكلُّ يراقب الكل، أو ربما الكلُّ يراقب صعود إيمان المهنيّ، بينما هو وحده بدأ يرى انحدار ضميره إلى درجة التلاشي، خاصَّةً بعد انغماسه في لعبة السُّلطة، ومحاولاته العبثيَّة لموازنة ما يرغب به مع ما يُرغَم على فعله.

وكما كان المسدس نقطة تحوُّل في رتابة الحياة المنزليَّة والمهنيَّة، كان لا بد من نقطة تحوُّلٍ معاكسةٍ تجلَّت في ظهور شخصيَّة صَدَف، صديقة رضوان في الجامعة. تمثِّلُ صَدَف الجيلَ الثوريَّ الحالم والمتهوِّر في آن، هي شعلة نار تحرِقُ كلَّ ما ومن يقترب منها، وتترك آثارها لدى كلِّ من عرفها ولو بلمحةٍ عابرة. هي لهب الشارع المتفجِّر الذي بات محتَّمًا أن يمزِّق رتابة البيت الصغير، بحيث بات البيت منفتحًا على الشارع رغم الستائر الثقيلة التي حاول إيمان ونجمة إبقائها مسدلةً كي ينقذا ابنتيهما من صخبِ وفوضى ما يحدثُ خارج أسوار (أبواب) البيت.

برعَ رسولوف في نحت شخصيَّاته ورسم فضاءٍ رماديٍّ يشمل الجميع. ما من أبيض وأسود هنا. إيمان، وعلى الرغم من طبيعة عمله الإشكالية، أبٌ حنونٌ على صرامته. بل لعلَّ إدراكه الدائم لإشكاليَّة عمله، حتى قبل ترقِّيه الأخير، جعله أكثر حنانًا في البيت حيث لا إشكاليَّات ولا تناقضات ولا خلافات، أو هذا ما كان يظنُّه على الأقل، إذ توقَّفت ذاكرته عند رحلاتٍ عائليَّةٍ قديمةٍ تضمُّ أربعة أفرادٍ هم العالم بأسره؛ عالمٌ لذاكرةٍ عالقةٍ في الماضي حيث لا يكبرُ أحد، وحيث لا خلاف على أيِّ شيء، وحيث ثمَّة بنتان صغيرتان ستكبران كي تصبحا نسخةً أخرى من نجمة: الأم والزوجة، والقائد الفعليُّ للبيت في غياب الأب في العمل. ثنائيَّةٌ مكرَّسةٌ متَّفقٌ عليها لا سبيل إلى كسرها إلا لو أخطأ إيمان وجلب هموم الخارج إلى البيت، وهذا ما لم يفعله يومًا، ولكنَّه غفل أنَّ ثنائيَّةَ رغبته والمُتوجَّب عليه ليست مقتصرةً على الضمير وعلى العمل، بل ستكونُ هي الثنائيَّة التي تحكم كلَّ شيء.

قد يقع المتلقِّي للوهلة الأولى في فخ أنَّ المسدَّس هو ما خرَّب وشوَّش الترتيب الذي كانت تقومُ عليه عائلة إيمان، ولكنَّنا ندرك مع تتالي الأحداث أنَّ الشروخ كانت موجودةً أصلًا، وكانت ستتَّسع وتتمزَّق قريبًا بسبب الاستقطابات التي تحكمُ الحياة الإيرانية، حيث لا يتوافق تسارع "انفتاح" السُّلطة مع تسارع تطوُّر الأجيال الجديدة التي باتت أولوياتها مختلفةً عن أولويات جيل الثورة. «بذور التينة المقدسة» التقطَ هذه الاستقطابات ببراعة، وأدخلنا في دنيا من الظلال الرماديَّة التي تحكم حياة ومصائر الجميع، حيث ما من رضا كامل، وما من أحلامٍ متحقِّقةٍ بكلِّيتها، بل لا بدَّ من تسوياتٍ كثيرةٍ لمواصلة عيش الواقع. أو، على الأقل، هذا ما نراه في الثلثين الأولين من الشريط، حيث جميع الشخصيَّات تصارع أشباحها الداخلية بقدر ما تصارع الأشباح الخارجيَّة التي تطرق الأبواب تمهيدًا لتحطيمها.

إيمان ليس واهمًا، ولا يعيش في دنيا استقطاب، إذ يدرك حتى قبل تلقِّي المسدس والترقية الجديدة أنَّ عمله إشكالي، وأن السُّلطة التي تحكُم مسار قراراته ليست سُلطةً دنيويَّة بل هي سُلطة الله، ولذا لم يتماهَ بالمطلق مع توجُّهات سُلطة الثورة الإسلامية رغم ولائه لها. نجمة تدرك هذا المأزق أيضًا وتحاولُ تسوية أحلامها ببيتٍ أكبر ومستقبلٍ أفضل مع خطورة عملِ زوجها الجديد بل حتى إشكاليَّته (نرى في أحد المشاهد أنَّها هي التي دفعت إيمان أكثر نحو القبول، ونحو الرضوخ للشروط الجديدة). حياة رضوان مفعمة بالتسويات، وهي تعيشُ تناقضاتٍ عديدة، فهي لا تُخفي ولعها بالنار التي تحكم حياة صديقتها صَدَف، وهي – في الوقت ذاته – تبدو مرتاحةً أكثر في جو الرتابة المنزليِّ الذي يضم عائلةً "مثالية" تحتوي أسئلتها واعتراضاتها. سناء بنتُ جيلِ التمرُّد ومواقع التواصل، حيث باتت الهوَّةُ شاسعةً ولا سبيل إلى رتقها؛ إيران مواقع التواصل لا تشبه إيران الثورة ولا حتى إيران 2022، فتسارع الأحداث يدفعها إلى اقتراف أخطاء كارثيَّةٍ قد لا تُلام عليها كلَّية، إذ ندرك أنَّ الهدوء والرزانة كانت من نصيب البنت الأكبر لا الأصغر. ولكننا سنخطئ خطأً فادحًا لو ماهينا بين «تمرُّد سناء» و«تمرُّد مهسا أميني» أو حتى «تمرُّد صَدَف»: تمرُّد سناء تمرُّد مراهقين يعيشون ويموتون من أجل جوهر التمرُّد في ذاته دون اشتراط وجودِ هدفٍ بعينه.

تنتهي ظلال الرمادي مع أجملِ مشاهد الشريط حين نرى صَدَف وقد أراحت رأسها على حضن نجمة، ونجمة تزيل الخرطوش الذي تفجَّر في وجه صَدَف. هنا أكبر لحظة تقارب بين هاتين الشخصيتين المتعارضتين إلى حد التناقض، بين عالمين لا سبيل إلى توحيدهما أو حتى التوليف بينهما. وحين نسمع صوت الخرطوش في المغسلة بعد أن أزالته نجمة، ستمسح بيديها آثار الدماء، لنستعيد المشهد الأول حيث الرصاص والعتمة، وحيث ندرك أنَّ زمن أمس واليوم قد انتهى بالمطلق، وبتنا أمام زمنٍ جديدٍ بشروطٍ قاسيةٍ قوامها استقطابات مرعبة.

في الثلث الأخير من الشريط أفلتت الشخصيَّات من يدِ المخرج وبتنا أمام فيلمٍ مختلفٍ بدرجةٍ كبيرة. ما عاد ثمَّة منطق يحكم سلوك الشخوص أو أفكارها، أو كلامها أو أفعالها. مزَّق رسولوف ظلال الرمادي وأدخلنا عنوةً في دنيا أبيض وأسود لا تشبه دنيا الواقع بالضرورة، وهي حتمًا لا تشبه عوالم شخصيَّاته، خاصَّةً شخصيَّة إيمان التي كان تحوُّلها عجيبًا.

حوصر مصاغ زاره، الممثِّل الذي يلعب دور إيمان، في سيناريو أرغمه على التخلُّص من قدرٍ كبيرٍ من براعة النظرات والحركات والسكنات، وأدخله المخرج في عتمةٍ أخرى توازي عتمة الأسوار التي تخنق إيمان. بتنا أمام شخصيَّةٍ عصابيَّةٍ لا منطق لها، حيث تحوَّل إيمان إلى وحشٍ كاسرٍ وقد تماهى مع السُّلطة، فهو ابنها أولًا وأخيرًا، بينما واقع الحال يومئ إلى أنَّ الشعور الطاغي على «إيمان» كان الخيبة لا الغضب: خيبةُ أنَّ فوضى الخارج قد مزَّقت هدوء بيته، خيبة أنَّ التمرُّد – الذي كان مستعدًا لمحاورته وفهمه دون تقبُّله بالضرورة – قد حوَّل عائلته إلى أعداء. ما عدنا أمام بارانويا، إذ فرض المخرج دكتاتوريَّةً عجيبةً على ممثليه بحيث بتنا أمام دنيا أبيض وأسود مرعبة، وتحوَّلت الحكاية البارعة إلى محض أمثولةٍ ساذجةٍ عن الأب البطريركي المتسلط.

ما كانت عينا مصاغ زاره لتنقذ الفيلم في الثلث الأخير بعد أن رافقتنا بقوَّةٍ في ثلثيه الأولين. ينطق إيمان بعينيه أكثر ممَّا ينطق بجسده، بل نرى أحيانًا الحنان المغلَّفَ بحزنٍ شفيفٍ في العينين حتى حين ينطق اللسان بصرامةٍ ضروريَّةٍ وإن كان غير مقتنعٍ بها بالمطلق. حوَّل انقلاب الأحداث في الثلث الأخير حبَّ الأب إلى تسلُّط، واندفاع نجمة إلى اندفاعٍ معاكسٍ يعارضُ السلطة البطريركيَّة بينما كانت هي – أكثر حتى من إيمان – مصدر تلك السطوة المرعبة في البيت.

لعل بوسعنا فهم هذا الانقلاب الأخير من دون قبوله بالضرورة. ليس الأمر محض تصويرٍ زائفٍ لواقع إيران، إذ ربما كان الواقع أقسى وأكثر إرعابًا، غير أنَّ الشروط الفنيَّة التي كانت تحكم الشريط وشخوصه انقلبت بانقلابِ أفكار المخرج فتحوَّل الفيلم إلى فيلمٍ مختلفٍ كليًا في الثلث الأخير. فيلمٌ يحاولُ تسديد حساباتٍ سياسيَّةٍ أكثر من كونه أداة تمرُّد فنيَّة. لم تكن الضحيَّة إيران أو صَدَف، أو البنات أو الزوجة هنا، بل إيمان، أو بالأحرى "مصاغ زاره" الذي كان – مثل إيمان – مخنوقًا بالخيبة والفجيعة حين انقلب عليه أهله. مشهد الأصابع المغبرة الميِّتة في المشهد الأخير موجعٌ جدًا، إذ هي أصابع إيمان المحتكِمة إلى السماء بعد أن خاب ظنّه بكلِّ من يحكم في الدنيا، بقدر ما هي أصابع مصاغ زاره وهي تندب فيلمًا أضاعه أهله، وخنقته أغصان التين التي كان ينبغي لها خنق الواقع.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى