أن تعيشَ في عالمٍ صامت، أن لا تنطقَ بتلكَ الأصواتِ المتراكمة بداخلك، أن تضفي صبغةَ الغموضِ على ما تنوي القيام به أو ما ترغب فيه… جميعُها أمورٌ من شأنها أن تُنتِجَ شخصيَّةً هادئةً رماديَّةً لا تخبركَ بالسطحي فضلًا عن العميق، وأنتَ المشاهدُ والمراقبُ لتلك الشخصية تظلُّ في توجُّسٍ دائمٍ لحدوث أمرٍ جللٍ علَّه يتجلَّى في لحظةِ انكشافٍ مباغتة. ولكن في بعض الحالات، يُعتبرُ الغموضُ عنصرًا أساسيًا، كما لو كان بطلُ قصَّتِك يعملُ في القطاع المصرفيِّ الخاص، حيث عوالمُ الأموالِ وتزايدُ الثروات. هناك يتداولُ المصرفيون شيفراتٍ سريَّةً لإضفاءِ طابعِ الغموض عمدًا على عملهم، ولكي لا يتسنى للأغراب والمتلصِّصين فهمَ ما يجري. إحدى تلك الشيفرات كانت كلمة "آزور" (Azor)، والتي تشيرُ إلى عدم التحدُّثِ عن الأمرِ مطلقًا. ويُعبَّر عن ذلك بعبارة "أسكت، احترس مما تقول".
يجسِّدُ فيلم "آزور" هذه العبارة بشكلٍ جيِّد، فقد وجدَ بطلُ القصَّة إيفان، وهو مصرفيٌّ سويسري، نفسَه مجبرًا على السفر إلى بوينس آيرس رفقةَ زوجته إينيس، وذلك بعد فقدانه الاتِّصالَ بشريكه رينيه كيز. أثناء هذه الرحلة يتتبَّع إيفان ظلَّ رفيقه، بيد أنَّه يجد نفسه محاطً بظلالٍ عديدةٍ لأناسٍ مختفين؛ استمرَّ المحيطون بهم بالحديث عنهم، وذلك على الرغم من غيابهم في غضونِ ذلك.
في مشهدِ الافتتاح، تخبرنا ملامحُ إيفان وزوجته عن محاولاتٍ مستعصيةٍ لفهمِ ما يجري في الخارج وهما على المقاعدِ الخلفيَّة من السيارة، ولعلَّها أولى محاولات المخرج فونتانا في جعلنا نُسلِّم بحقيقةِ نوعِ المغامرة التي سنعيشها في الفيلم. مجموعةٌ من الشباب يُفتَّشون ويُعتَقَلون من قبل الضبَّاط العسكريين دون محاولةٍ لفهمِ ما يحدث. مجرَّد إشاحة بالبصر عن نافذة السيارة، والتي صدرت من إيفان، أعطتْ الإذن للسائق لمتابعةِ الرحلةِ داخل شوارع بوينس آيرس المرتعبة. كان إيفان، في تلك اللحظة وطوال الفيلم، مُجبرًا على الصمتِ أمام ما يدور في ذهنه بشأنِ ما حدث، وعن غموضِ اختفاء شريكه، وأيضًا أمام تلك الأوضاعِ المربكةِ التي تمرَّ بها الأرجنتين مطلع الثمانينيات إبَّان فترةِ الحرب القذرة.
الجميع خائفٌ من الغد:
يظهرُ الخوفُ كعنصرٍ أساسيٍّ في الفيلمِ على شكلِ انتظارٍ لوقوعِ حدثٍ معيَّن. يُعبَّر عن هذا الشعور من خلالِ توجُّسِ إيفان تجاه رينيه كيز، شريكه في العمل، الذي يُظهِره الفيلم بصورةٍ غامضةٍ نتيجةً لكثرة الأحاديث عنه من قبل شخصيَّاتٍ متعدِّدةٍ دون أن يَظهَر في أيَّ مشهد. عُدَّ هذا الأمر عاملَ جذبٍ لإتمام الفيلم بسببِ تنامي الرغبة في معرفة الإجابة عن السؤال المحير: "ما الذي حدث لرينيه كيز؟". سببٌ إضافي أثار مشاعرَ القلقِ والخوف، ألا وهو ما أظهرهُ العملاء المتعاملون مع المصرفِ السويسري من تردُّدٍ في اتِّخاذ قرارهم، حيث بدوا في حالةٍ من التذبذبِ بين الاستمرار في التعاملِ مع المصرفِ أو نقلِ أموالهم واستثماراتهم إلى مكانٍ يعتبرُ أكثرَ أمانًا بالنسبة لهم. تلك المخاوفُ تمثَّلت في ارتيابِهم من اختفاءِ كيز، من تصرُّفات الحكومةِ العسكريَّة في تلك الحقبة وحملةِ الاعتقالات المتكرِّرة للعديد من الأشخاص دون العلم بما حلَّ بهم، أو لعلَّهم علموا بالنهاية المأساوية بيد أنَّهم لم يرغبوا في الاعتراف بها. لنستذكر معًا تلك العبارة: "اسكت، احترس مما تقول".
كان التوجُّس الأكبر يتعلَّقُ بـ "لازارو"، تلك الشخصيَّة الشبحيَّة الأخرى والمشتبَه بتورُّطها في اختفاء كيز شريك إيفان. يبدو أنَّ الفيلم يركِّز بشكلٍ كبيرٍ على مفهومِ الإختفاء، فثيمة الفيلم الملازمة له هي التواري عن الصدح بالحقيقة. يشبه الأمر إشارةً خجولةً قد تمر دون انتباه، مما يؤدي إلى تراكمِ التساؤلات حول ما حدثَ وما سيحدثُ لاحقًا.
صورٌ فارغة:
صُوِّرت مشاهدُ الفيلم في مواقعَ نائيةٍ داخلَ قصورٍ تقعُ في ضواحي المدينة، بالإضافةِ إلى ميادينٍ لسباقاتِ الخيول وأنديةٍ مخصَّصة للرجال. لهذه الأماكن القدرةُ على توفيرِ بُعدٍ مكانيٍّ عن توتُّراتِ الأوضاعِ الحاصلةِ في الشارع الأرجنتيني. أعتقد أنَّ المخرجَ فونتانا كان يسعى لإبعادِ المشاهدِ الصاخبة عن كاميرته، موجِّهًا عدستها نحو الأشخاصِ الذين يشعرونَ بالقلقِ إزاءَ التهديداتِ المستمرَّة من المجلس العسكريِّ الحاكم.
إينيس:
كان من الضروريِّ وضعُ حجرِ أمانٍ في تلك الظروف المضطربة، فبدون ذلك يصبحُ الوضع معقَّدًا. لم يكن توفيره أمرًا صعبًا، بل على العكس، اعتُبر أمرًا سهلًا وتقليديًا إلى حدٍّ كبير. وقد تجسَّد ذلك في شخصيَّة إينيس زوجة إيفان، والتي تمثِّلُ الجزء المكمِّل وتضفي شعورًا بالطمأنينةِ من خلالِ كلماتها وأفعالِها التي تهدِّئُ من روعِ المتلقِّي.
تظهرُ إينيس وهي تمارسُ السباحةَ بهدوءٍ كلَّ صباحٍ في الفندق، وحتى أثناء زيارةِ المزرعةِ الخاصَّةِ بعميلٍ من عملاء زوجها، تتسلَّلُ مبتعدةً عنهما لتغوصَ في بركةِ السباحة، غير آبهةٍ بالقلقِ القادم من تلكَ الاجتماعات، أمرٌ من شأنِه أن ينقلَ لكَ أنت المشاهد بأنَّ الأمور على خيرِ ما يرام. وهناك أيضًا مشهدُ تناولِ إينيس لوجبة الغداء رفقةَ زوجها وممثِّلِ السفارة السويسرية في بهو الفندق، وهذا المشهدُ كافٍ ليسوِّركَ بالشكوكِ حول مدى حقيقةِ أنَّ مدينة بوينس آيرس خطرةٌ كما أراد الفيلم أن يخبرنا، فها هي إينيس، المحرِّكة لتلك الجلسة، تأخذُ الحديثَ في اتجاهٍ طبيعيٍّ حول الأحوال وسبب الزيارة، حيث تمَّت الإشارة إلى أنَّ الهدف هو السياحة الدبلوماسيَّة للتعرف على بوينس آيرس. قد يكون الأمرُ مرتبطًا بملامح الوجهِ الناعمة، وهي خاصيَّة أنثويَّة كانت ضروريةً لشخصيَّةِ الفيلم كي تجسِّدَ إحساسَ الأمان الخفي. دائمًا ما يشعرُ إيفان بطلُ القصَّة بالقلقِ والتوتُّر تجاه المحيطين به، ويعتقدُ أنَّ ذلك مرتبطٌ بإخفاءِ شريكه كيز، لكنَّه لم يتحدَّث عن ذلك إلا مع زوجته، التي تمثِّلُ له الملاذَ الآمن وسطَ تلك الوجوه.
هدوء:
شهدت الأرجنتين في نهاية السبعينيَّات انقلابًا عسكريًّا استمرَّ حتى منتصفِ الثمانينيات. وقامت الحكومة العسكريَّة باتخاذِ قرارٍ باعتقالِ كلِّ من يعتبرونه طفيليًّا. هذه الأحداث شكَّلت خلفيةً لقصَّةِ المخرج فونتانا، الذي أنتجَ فيلمًا مليئًا بالصراعاتِ والأحداثِ المثيرة، مع لمسةٍ من العنف. ومع ذلك، اختار أن يبتعدَ عن تلك الطريق. نستنتج ذلكَ من خلال مشاهدَ صامتةٍ تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على حواراتٍ هادئةٍ ومنظَّمة، والتي كانت كافيةً لنقلِ القلقِ الهادئ أو الخوفِ غير المعلن. تُعتَبرُ هذه المسألةُ تحديًا، إذ يصعبُ نقل تلك المشاعرِ التي تفتقرُ في الأساس إلى التعبيرِ. يصبحُ همُّ المُشاهدِ هو محاولةُ جمعِ تلكَ الأجزاءِ المبعثرةِ لإكمال الصورة. قصصٌ تم قطعُها عمدًا، وحواراتٌ تحوَّلت إلى صمت، وشخصياتٌ تمَّ إخفاؤها.
التحول:
يعكسُ الفيلمُ صورةً واضحةً للخوف من خلال الوضعِ المضطرب في البلاد مع بداية الثمانينيات بسببِ الانقلاب العسكري. ومع ذلك، وعند تحليلِ الفيلمِ بشكلٍ أعمق، يتبيَّن أنَّ موضوعَ الخوفِ يتجسَّدُ في شخصيَّة إيفان وقلقِه المتزايدِ من فقدان سمعته، ممَّا قد يؤدِّي إلى انهيارِ المصرفِ الذي يعمل فيه.
في الفيلم نعيشُ حالةَ ترقُّبٍ للحظةِ الكشفِ عن كيز ورغبتنا المتراكبة في مطابقة ما رُسِم بداخلنا مع ما هو عليه بالحقيقة.
لكن المفاجأة تتجلَّى في نهايةِ المطافِ من خلالِ التحوُّل الذي يطرأ على شخصيَّة إيفان، حيث تتطابقُ صفاته القبيحة مع ما طُرِحَ على نحو مستمرٍّ في الفيلم بشأنِ رفيقه الغائب رينيه كيز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش