«دخلتُ السينما فجأة. ألتقي أحيانًا شبابًا في العشرين من العمر، وقد شاهدوا آلاف الأفلام، بما فيها أفلامي. إنه لشيء مبهر، لكنني لم أبدأ حياتي هكذا. كنت مهتمة بالرسم، أطالع كثيرًا وأنجز صورًا فوتوغرافية عن المسرح. لم أكن أعرف شيئًا عن السينما. وربما، لو شاهدتُ التحف السينمائية التي كنا نسمع عنها، لما أنجزتُ أيّ فيلم. كنت سأقول في نفسي: "من الأفضل أن أعمل في مجال آخر". في تلك المرحلة، كانت إيطاليا البلد الأكثر حضورًا في وجداننا. أنطونيوني، فيسكونتي، وفيلليني الذي عشقته. لم تكن البُلدان التي تنتج الأفلام كثيرة. ألمانيا لم تكن قد نهضت من رقادها، ولا إنكلترا. كان يأتينا فيلمان أو ثلاثة من اليابان. لهذا السبب، كنا مشهورين جدًا في العالم. كنّا أباطرة. حتى الآن، عندما أذهب إلى اليابان والصين، يحادثني الناس باعتباري رائدة الموجة الجديدة». الكلام على لسان سيدة جماليات الصُوَرة وأيقونة "الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية آنيس فاردا (Agnès Varda)، التي رحلت عن عالمنا في 2019، بعد أن اتخذت موقعها في عوالم فنون الصورة الثابتة والمتحركة. تقول عن نفسها: «في عام 1954، كنتُ مُصوّرة فوتوغرافية، وأعرف قليلًا عن السينما. وقد بدا لي وقتها أن كثيرًا من "الثورات الأدبية" لم تجد ما يناظرها على الشاشة». هكذا أرادت فاردا أن تُحدث ثورة على مستوى الشاشة، فكان لها ما أرادت بعد النقلة التي أحدثتها الموجة الجديدة، وهي من دشنتها، في تاريخ صناعة الأفلام.
حياتها المبكرة
وُلدت فاردا في 30 مايو 1928 في مقاطعة إكسل التابعة لمدينة بروكسل البلجيكية، لكريستيان (ني باسكيت) وإوجين جان فاردا. كانت والدتها من فرنسا وتحديدًا من مدينة سيت. وكان والدها أحد أفراد عائلة من اللاجئين اليونانيين من آسيا الصغرى. وقد غيرت فاردا اسمها الأول قانونيًا إلى آنيس (Agnès) في سن 18 عامًا. خلال الحرب العالمية الثانية، عاشت على متن قارب في سيت مع بقية أفراد عائلتها. وقد حصلت على درجة البكالوريوس في الأدب وعلم النفس من جامعة السوربون، ووصفت نقلها إلى باريس بأنه كان «مؤلمًا حقًا»، قائلة: «لقد منحني ذكرى مخيفة عن وصولي إلى هذه المدينة الرمادية الحزينة وغير الإنسانية». لم تتوافق مع زملائها الطلاب في جامعة السوربون ووصفت الصفوف الدراسية بأنها «غبية، قديمة، مجردة، وغير مناسبة بشكل كبير لتطلعات المرء آنذاك».
مرحلة الفوتوغرافيا
أرادت فاردا أن تشغل وظيفة أمين متحف وأن تدرس تاريخ الفن في مدرسة اللوفر، لكنها بدلًا من ذلك قررت دراسة التصوير في مدرسة فوجيرارد للتصوير الفوتوغرافي. بدأت حياتها المهنية مصورةً فوتوغرافية قبل أن تصبح واحدة من أهم الأصوات في سينما الجناح الأيسر (Left Bank Cinema) والموجة الفرنسية الجديدة (New Wave). ومع ذلك، حافظت على علاقة متبادلة بين الأشكال الفوتوغرافية والسينمائية: «ألتقط صورًا فوتوغرافية أو أضع الأفلام في صور، أو الصور في الأفلام». ناقشت فاردا بداياتها في التصوير الفوتوغرافي الثابت: «بدأت في كسب لقمة العيش من التصوير الفوري، والتقطت صورًا تافهة للعائلات وحفلات الزفاف لكسب المال. لكنني أردت على الفور أن أصنع ما أطلقت عليه "تكوينات"(compositions)».
في عام 1951، افتتحت صديقتها جان فيلار فرقة المسرح الوطني واستأجرت فاردا لتعمل مصورة رسمية للفرقة. قبل قبول وظيفتها هناك، عملت مصورةً مسرحية لمهرجان مسرح أفينيون. وفي المسرح الوطني الشعبي قضت فاردا عشر سنوات من 1951 إلى 1961، وخلال هذه الفترة نمى صيتها، وحصلت في نهاية المطاف على وظيفة مصور صحفي أكثر من مرة في جميع أنحاء أوروبا. وقد استفادت من هذه التجارب لاحقًا في أعمالها السينمائية. تقول: «عندما صنعت فيلمي الأول "لا بونت كورت" – دون خبرة مسبقة، دون أن أعمل مساعدة مخرج من قبل، ودون أن أذهب إلى مدرسة السينما – التقطت صورًا لكل شيء أردت تصويره، الصور التي أصبحت بعد ذلك نماذج للقطات، وبدأت في إنتاج أفلام بتجربة التصوير الفوتوغرافي المنفردة». وفي عام 2010، شاركت فادرا في معرض ناتالي أوباديا (Nathalie Obadia).
صناعة الأفلام
استوحت آنيس فاردا كثيرًا من تجاربها وأسئلتها وهواجسها من الكاتب الأميركي ويليام فوكنر (1897-1962) والألماني برتولد بريخت (1898-1956)، ما أعانها على كَسْر، أو محاولة كَسْر بناء النصّ، والعثور على لهجة موضوعية وذاتية أو حميمة في الوقت نفسه. تؤكّد مرارًا رغبتها في أن تمنح المُشاهد حرية كبيرة إزاء ما يُشاهد، كي يحكم ويُشاركها العمل، كأن المشاركة فعلُ ابتكار يُدخِل المُشاهد في لعبة الصور التي تُجيد صنعها، فيُصبح حُكمه امتدادًا لتفاعلٍ مشترك، بينه وبين المخرجة وصُوَرها. أما التداخل الآخر الذي انتبه إليه كثيرون في أعمالها فيكمن في ثنائية الموضوعية والذاتية، ما يجعل كل مُشاهدة لكل فيلم من أفلامها انعكاسًا لمدى مفتوح على الاحتمالات كلها، في المشاهدة والقراءة والتفكيك والمشاركة.
لا بوينت كورت (La Pointe Courte (1954
كانت فاردا، رغم عشقها للتصوير الفوتوغرافي، حريصة على الانتقال إلى فن صناعة الصورة المتحركة. بعد قضاء بضعة أيام في تصوير بلدة لا بوينت كورت الفرنسية، أثناء زيارتها لصديقة لها تعاني مرضًا عضالًا، قررت فاردا تصوير فيلم روائي خاص عن هذه البلدة. وهكذا في عام 1954، صدر أول فيلم لفاردا يحمل اسم البلدة، ويدور حول زوجين ليسا سعيدين يعملان في صيد السمك. كان الفيلم تدشينًا لأسلوب جديد في الإخراج، اتخذ بعد ذلك بسنوات اسم "الموجة الفرنسية الجديدة". في ذلك الوقت، تأثرت فاردا بفلسفة غاستون باشلار، التي اطلعت عليها في جامعة السوربون. كان من ضمن أبرز التجديدات التي أدخلتها فاردا في أسلوب إخراجها لهذا الفيلم، استعانتها باثنين من الممثلين المحترفين – سيلفيا مونفورت وفيليب نويريت – جنبًا إلى جنب مع سكان البلدة الأصليين. وكان هدفها توفير عنصر واقعي يضفي جمالية وثائقية مستوحاة من الواقع الفعلي. وقد واصلت فاردا استخدام هذا المزيج من العناصر الخيالية والوثائقية في أفلامها. كتب أندريه بازان عن الفيلم مشيدًا به: «هناك تحرر كامل في الأسلوب، ينتج انطباعًا لدينا بأننا أمام عمل يطيع فقط أحلام مؤلفته ورغباتها دون أي التزامات خارجية أخرى». ووصفه فرانسوا تروفو بأنه «عمل تجريبي، طموح، صادق وذكي». وقد قالت فاردا عن الفيلم إنه «انطلق مثل قذيفة مدفعية». ومع ذلك، كان الفيلم فاشلًا من الناحية التجارية. بعد هذا العمل، ولمدة سبع سنوات، توجهت فاردا إلى إنتاج الأفلام القصيرة فقط.
تعتبر فاردا الأم الروحية للموجة الفرنسية الجديدة. ويعتبر فيلمها السابق – غير رسميًا – الفيلم الأول للموجة. كان أول فيلم يركز على القضايا التي يواجهها الأشخاص العاديون. في وقت متأخر من حياتها، قالت إنها ليست مهتمة بقضايا أولئك الأشخاص الموجودين أعلى سلم السلطة، وأضافت: «كنت أكثر اهتمامًا بالمتمردين، الأشخاص الذين يقاتلون من أجل حياتهم». وفي عام 1977، أسست فاردا شركة إنتاج خاصة بها، أسمتها سيني تامار (Cine-Tamaris)، بغية التحرر من قيود السوق وتحكم شركات الإنتاج. وفي عام 2013، أقام متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون، في كالفورنيا، أول معرض أمريكي لفاردا يحمل اسمها. تميز المعرض بتكوينات منحوتة وعدة صور وأفلام قصيرة واستلهم الوقت الذي قضته في لوس أنجلوس في الستينيات.
فاجابوند (1985) Vagabond
في عام 1985، قدمت فاردا فيلمها "بلا قيد أو قانون" – والمعروف في معظم البلدان الناطقة بالإنكليزية باسم "Vagabond" – وهي دراما عن وفاة امرأة شابة اسمها منى. يتم التحقيق في الوفاة بواسطة محاور غير مرئي وغير مسموع يستجوب الأشخاص الذين رأوها آخر مرة. تلجأ فاردا إلى السرد اللاخطي في هذا العمل، مع تقسيم الفيلم إلى سبع وأربعين حلقة، وتُسرَد كل حلقة من منظور شخص مختلف. يُعتبر "فاجابوند" واحدًا من أهم الأعمال التي دشنت ما أُطلق عليه بعد ذلك "السينما النسوية"، لأن الفيلم بأكمله يناهض فكرة الهيمنة الذكورية.
في عام 1991، بعد وفاة زوجها جاك ديمي بفترة وجيزة، قدمت فاردا عملًا عن سيرة حياته ولحظات موته. ترصد فاردا في الفيلم الاهتمامات التي كانت تشغل زوجها، حيث كان مهووسًا بعديد من الصناعات المستخدمة في صناعة الأفلام مثل الرسوم المتحركة وتصميم المشاهد. وقد تضمن العمل إدراج مقاطع من أفلامه، بالإضافة إلى لقطات من الفترة السابقة على موته.
وجوه الأماكن (2017) Faces Places
في عام 2017، شاركت فاردا بفيلمها "وجوه الأماكن" مع الفنان جي أر (JR)، وعُرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي عام 2017، حيث فاز بجائزة ليل دور. يرصد الفيلم مشاهدات فاردا وجي أر في رحلتهما داخل الريف الفرنسي، ويقدم صورًا من الأشخاص الذين صادفاهم هناك. رُشّح الفيلم لجائزة أفضل فيلم وثائقي بمهرجان الأوسكار، وعلى الرغم من كونه الترشيح الأول لها، فإن فاردا لم تعتبره أمرًا مهمًا وقالت عن ذلك: «لا يوجد شيء نفتخر به، لكني سعيدة، سعيدة لأننا نصنع أفلامًا نحبها. نصنع أفلامًا تجعلنا نحبها».
أسلوبها
تركز فاردا في عديد من أفلامها على قضايا بعض المهمشين أو المرفوضين في المجتمع، وتستند إليهم في تقديم مادتها الوثائقية. ومثل كثيرين من مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، تأثرت فاردا بنظرية سينما المؤلف التي نادت بخلق أسلوب خاص عبر استخدام الكاميرا بوصفها «قلمًا». وصفت فاردا طريقة عملها في صناعة الأفلام بأنها «الكتابة بالسينما» أو «الكتابة عبر الفيلم». وكبديل لعملية فصل الأدوار الأساسية التي تسهم في خلق الفيلم – مثل المصور السينمائي، كاتب السيناريو، والمخرج – كانت فاردا تؤكد على أن الأدوار يجب أن تعمل معًا في وقت واحد لإنشاء فيلم أكثر تماسكًا، وينبغي أن تسهم جميع عناصر الفيلم في رسالته.
كان استخدام فاردا للصور الثابتة داخل أعمالها أحد أهم ملامح الإخراج لديها؛ كان ذلك بالتأكيد نتاجًا لمرجعيتها الفوتوغرافية الكبيرة. قد تخدم الصور الثابتة أغراضًا رمزية أو سردية، وكل عنصر منها مهم داخل البناء السردي للفيلم. كانت تلجأ للتعارض أحيانًا بين الصور الثابتة والمتحركة في أفلامها، وكانت تمزج، في الغالب، الصور الثابتة (اللقطات) مع الصور المتحركة.
من الناحية التاريخية، تعتبر فاردا المدشن الحقيقي للموجة الجديدة. وقد وصفها الناقد السينمائي دلفين بينزيت بأنها «المرأة المتفردة ذات الأهمية القصوى في تاريخ السينما»، وأضاف: «لقد كانت مؤمنة تمامًا بأنوثتها، بجرأة متميزة». لكن لأن عملها يسبق الظهور الرسمي للموجة الفرنسية الجديدة، فقد صُنّفت أفلام فاردا على أنها تنتمي إلى حركة سينما الجناح الأيسر (Left Blank). تبنّى الجناح الأيسر أسلوبًا تجريبيًا أكثر جرأة من ذلك الذي تبنته مجموعة كراسات السينما. وقد ارتبطت سينما الجناح الأيسر بقوة بالحركة الرومانية الحديثة في الأدب. كان لأعضاء المجموعة خلفية مشتركة في صناعة الأفلام الوثائقية، والتوجه اليساري سياسيًا، والاهتمام المضاعف بعملية التجريب. وقد صاغت فاردا، وغيرها من المنتمين للحركة، أسلوبًا لصناعة الأفلام يمزج بين المقاربات الوثائقية والأعمال الروائية، اهتمامًا بالقضايا الاجتماعية.
في كثير من الأحيان، تُصنّف أعمال فاردا تحت فئة الأعمال النسوية، رغم أنها قالت ذات مرة: «لست على الإطلاق من مناصري الحركة النسوية. لقد قدمت كل ما قدمت – صوري، أفلامي، حياتي – بشروطي، شروطي الخاصة بصفتي إنسان». وعلى الرغم من أنها لم تكن منخرطة بشكل خاص في أي من فعاليات الحركة النسوية، فقد ركزت بصورة كبيرة على قضايا المرأة.
الجوائز
كانت فاردا عضوًا في لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي في عام 2005 وعضو لجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي في عام 1983، وفي عام 2002 حصلت على جائزة الأكاديمية الفرنسية (جائزة رينيه كلير)، وفي 4 مارس 2007، مُنحت وسام الاستحقاق الوطني في فرنسا، وفي مايو 2010، حصلت على جائزة المخرجين لأفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي، وفي 22 سبتمبر 2010، حصلت على درجة فخرية من جامعة لييج في بلجيكا، وفي 10 أغسطس 2014، حصلت على جائزة التميز من مهرجان لوكارنو السينمائي السابع والستين، وكانت ثاني امرأة تحصل على تلك الجائزة بعد كيرا موراتوفا. في 13 ديسمبر 2014، تلقت فاردا جائزة الإنجاز الفخرية، التي منحتها لها أكاديمية السينما الأوروبية، وفي 11 نوفمبر 2017، مُنحت جائزة الأوسكار الفخرية لجهودها في السينما، مما جعلها أول مخرجة تحصل على هذه الجائزة. قُدّمت الجائزة في حفل توزيع جوائز المحافظين السنوي التاسع، وأعقب ذلك ترشيحها بعد شهرين لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عن فيلمها "وجوه الأماكن".
بعد حياة طويلة من الإنجاز الفني والمحاولات والتجريب الذي لم يتوقف، توفيت فاردا من السرطان في 29 مارس 2019 في باريس، عن عمر ناهز 90 عامًا، ودُفنت في مقبرة مونبارناس في 2 أبريل 2019 بعد أن حفرت اسمها بخطوط ناصعة في تاريخ فن السينما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش